ثقافات

الموازنة في علوم البلاغة والأساليب أساس فن الترجمة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
توطئة عبد الكريم اليافي: نشرت مجلة "ديوجين" التي تصدر برعاية المجلس الدولي للفلسفة والعلوم الإنسانية وبمعونة اليونيسكو في عددها السابع والخمسين مقالاً تناول مشكلة الترجمة الأدبية من شعر ونثر، وناقش النظريات التي تمنع إمكانها ويُسْرَها واقترح الأساس الذي يصحّ أن تقوم عليه الترجمة، وهو الموازنة في علوم البلاغة بوجه عام. والمقال حافل بتلخيص الآراء المسوقة في هذا الميدان وبمقابلة بعضها ببعض، كما هو حافل بملامح بارزة تتعلق بالنقد الأدبي من خلال الترجمات الأدبية في اللغات العالمية كالإنكليزية والألمانية والفرنسية والروسية. وتلك الملامح تمس طبائع هذه اللغات وآدابها ومختلف الأساليب المعروفة فيها.
ولما كان هذا البحث يتأمل عدة لغات وآداب ويوازن بين جوانبها كان أقرب ما يكون إلى العلم إذ "لا علم إلا بالكليات" كما قيل منذ القديم. فأردنا أن نعرضه باللغة العربية كي يتم الانتفاع به في ميادين النقد والترجمة ومقابلة الأساليب بعضها ببعض وتبيُّن العقبات المعترضة وتخطّي تلك العقبات عند صحّة الإرادة وطواعية اللغة وغناها.
ويستشف قارئ البحث تبحُّر صاحبه في لغات متعددة وفي آداب تلك اللغات وفي ترجمات كنوز بعضها إلى بعض كما يستشف منه أحكاماً نقدية تتعلق بتلك اللغات وآدابها وبلاغة كلّ منها وأساليبها المتفاوتة مع اقتراحات مفيدة بإنشاء قواعد عامّة تسهّل الترجمات الأدبيّة، فتنقل ثمرات العقول والقرائح والقلوب من أمّة إلى أخرى.
كاتب هذا المقال إفيم إتكند Efim Etkind أستاذ في معهد تربوي في ليننغراد (سانت بيترسبورغ) ولعل الأديب العربيّ حين يطلع على مشكلات الترجمة بين تلك اللغات يجد مشكلات الترجمة إلى العربية طبيعية ولا حاجة إلى المبالغة فيها. وسياق المقال يشير إلى ضرورة الاطّلاع الواسع على مفردات اللغة ونحوها وخزائن آدابها ونهج البيان فيها وأساليبه ومهارة المترجم العبقري الذي يباري المؤلف الأصلي. هذا وقد نوّه المؤلف بثراء اللغة الروسيّة وإيجازها وجمالها. ولا ريب في ذلك عندنا. ولكن اللغة العربية أكثر ثراء وأوسع صدراً وأعمق غوراً وأوجز بياناً وأطوع مراعاة لمقتضى الحال. أما اللّكنة وأما العيّ وأما الرطانة في الأقلام الحديثة فمن قلة الإلمام بجواهر اللغة. ولا يكفي أن يتكلَّم المرء عندنا باللغة الدارجة حتى يبيح لنفسه القدرة على البيان الصحيح والتعبير الدقيق.
ولم يعرض صاحب المقال للغة العربية وآدابها إذ كان بعيداً منها. ولا شكّ أن سهولة البيان وصعوبته منوطتان بدرجة ثقافة الشعب وحضارته كما هما منوطتان بأصالة اللغة وخصائصها الطبيعية الذاتية.
ولقد كانت اللغة العربية في العصور الطويلة السالفة ولدى شعوب كثيرة لغة الحضارة والعلم والأدب والتجارة والفلسفة والدين والصناعة والطبّ والحديث المهذب وغير ذلك. ثم توارت في هذا العصر بعض الشيء عن الميادين العالمية. والتبعة في هذا تقع على صروف التاريخ وكوارث الزمان، مع أن العناية بها عناية بالتراث الإنساني الخالد، ومع أن دعمها في الوقت نفسه مناوأة للتخلّف إذ كانت اللغة أداة جمع وتوحيد، كما هي مطيَّة تقدّم وقوّة، وكما هي أيضاً وسيلة تدقيق في الفكر، وتحقيق محكم في العمل، واطمئنان راسخ إلى الذات وإلى هويّة المجتمع وتواصل دائم في الحضارة الإنسانية.
ولعل هذا المقال الذي وجدته حاضراً بين أوراقي الكثيرة، يشحذ من عزائم أبنائنا لبذل الجهود في تعرّف مزايا لغتنا الراقية الغنية العظيمة إلى جانب تعرّفهم مزايا اللغات الأخرى.
ـ 1 ـ
ظهرت في القرن العشرين علوم مشتركة جديدة يقوم كل منها على تخوم علوم أخرى معروفة. من هذه العلوم الجديدة الكيمياء الحيوية والكيمياء الفيزياوية وعلم الأحياء الآلي (بيونيك). أما في العلوم الإنسانية فيمكن أن نذكر علم الأساليب بين العلوم المشتركة la stylistique. موضوع هذا العلم ترادف أدوات التعبير لانتقاء أفضلها فيما يناسب مقتضى الحال. والترادف هنا مأخوذ من قولنا لفظان مترادفان. ونستعمله ههنا بأوسع معانيه، ولا سيما في مجال البيان الأدبي. وبهذا الاعتبار يقع علم الأساليب هذا بين نظريات الأدب وبين علوم اللغة. وبسبب هذا الموقع يتعذر أن تنشأ نظرية في فن الترجمة لا تلِّمُ إلماماً كافياً به وبعلوم أخرى وإن المترجم لا يطلب إليه أن يبدع أثراً جديداً بكل ما يشتمل عليه لفظ الإبداع الأدبي من صهر للموضوع ومن أفكار بليغة ومن فلسفة فنية وصور بيانية بحيث يأتلف ذلك كله وتتماسك عناصره تماسكاً قوياً. وإنما يطلب إليه أن يعيد إبداع أثرٍ وجد من قبل وذلك بأن يعتمد على جملة متضافرة من سبل بيانية ولغوية أخرى غير السبل التي سلكها الأثر الأصلي، فهو ينقل الأصل إلى نظام من الإشارات نشأَ وتعيَّن في سياقٍ تاريخيّ وثقافي وأدبي آخر، وفي تركيب لغوي آخر أيضاً. ليس من مقاصد نظرية الترجمة أن تهيئ قواعد وأن تقدم نصائح للمترجمين، وإنما مقاصدها التنسيق بين أمور عامة يزاولها المترجم في إبّان عمله واستخلاص عناصر منها على صعيد التجربة يستيسر تحليلها.
إن الأثر المترجم إذا كان فنياً كان مُفْرَداً في نوعه، مَثَلهُ مَثَل كل أثر فني. بيد أنه يمكن لدى دراسة أنواع الآثار الأدبية ونموذجاتها استخلاص بعض العناصر التي تؤلف في مجموعها التراث الأدبي. وهذا التراث لا يتأبَّى على التحليل النظري ولا على تلخيص خطوطه العامة، ولا على التصنيف. لنضرب مثلاً آثار شكسبير الشعرية. فلقد يصعب أن نقرر فوراً ما أضافه ذلك الشاعر العبقري في مقطوعاته الغنائيّة من إبداع وابتكار إلى خزائن الشعر الإنكليزي وإلى خزائن الشعر العالمي, وتقضي الرويّة المنطقية أن نبدأ عند دراسة تلك المقطوعات ببيان نصيب التراث الأدبي الإنكليزي فيها؛ وعندئذ نذكر في هذا الاعتبار أشكال المقطوعات الشعرية التي سبق إليها الشعراء الإيطاليون في العصور الوسطى، وأدخل عليها بعض التبديل الشعراء الإنكليز الذين جاؤوا بعدهم. وكذلك نذكر نظرية الشعر التي تدعو إلى الجرس المتَّسق عند الشعراء المتقدّمين على شكسبير ممن أخذ عنهم أو ممن ناوأهم. هذا الجانب البارز في التراث يمكن إذن بيان خطوطه الكبرى، وبعدئذ يتسهّل توضيح ما أضافه شكسبير من ابتكار بالنسبة لذلك الجانب أو فوق ذلك القاع.
فإذا حاولنا أن ننشئ نظرية للترجمة اقتضانا ذلك أن نستخلص العناصر الأساسية التي يقوم عليها الأثر قبل أن نبحث في الإبداع الأدبي الصرف. وتلك عناصر تكون في الترجمات أكثر وأزخر منها في الأصول. وحفول الترجمات بها سببه أن هذه الترجمات يتقابل في كل منها بناءان لغويان وتراثان أدبيان واعتباران فنيان ودرجتان من الحضارة متفاوتتان. فإذا كانت الترجمة شعراً تعارض في الترجمة فوق ذلك كله نظامان من العروض مختلفان. فإذا قمنا بجملة من الموازنات من خلال الترجمات فقد نكشف عن علاقات شبيهة بالقوانين تنظّم العمل الفنّي في الترجمة. ومثل هذا الكشف يفضي إلى نشوء نظرية في الترجمة تسهّل القيام بها شأن كل نظرية. فهي تشرح بعض الظواهر ومراحل تكاملها وتساعد على تقدم البحث وتتوقع مستقبله كما تستطيع أن تشرق على توجيهه.
ـ 2 ـ
أول جانب يقابله المترجم في عمله الجانب اللغوي, وربما حسب أنه ليس أمامه من المصاعب إلا قضايا لغوية. وقد ينتهي به هذا الحسبان إلى نتائج متشائمة حول إمكان الترجمة الدقيقة المطابقة. ونجد بين علماء اللغة طائفة تذهب هذا المذهب.
يرى د. فون همبلت W. Von Humboldt أن لسان أمّةٍ جزء من عقليتها. وهو في كتابه المشهور Ueber die kaw is prache (1836 ـ 1840) يؤكد أن كل لسان يؤلف حول الشعب الذي يتكلم به دائرة "لا يمكن للمرء أن يخرج منها إلا إذا دخل في نطاق دائرة أخرى" و"أن لغة شعب ما روحه كما أن روح الشعب لغته". وإذن هذه الدوائر التي ترسمها اللغات حول الشعوب ممتنعات الجوانب، صعاب المآتي. ويرى همبولت أن كل لغة تؤلف نظاماً مترابطاً متضافراً محدوداً وتعرب عن عقلية الشعب الذي يتكلم بها. ومن المستحيل التعبير عن هذه العقلية بأدوات هي خاصةٌ بعقلية أخرى.
راجت أفكار همبلت وتناولها طائفة من اللغويين انتهوا منها إلى أقصى ما يمكن الانتهاء إليه. من هؤلاء سابير ورف Sapir Worf الذي ينوه بتأثير اللغة في تكوين العقلية، وكذلك فريق من العلماء الألمان مثل ليو فيسهربر Leo Weissherber وي. ترير J. Trier يرى كل من هؤلاء الباحثين أن اللغة تحمل معها تصوراً للعالم أو شكلاً لـه (Welt bild).
وتحمل القدرة على تبديل العقلية وتحويلها وتعبّد سبيل المعرفة. يقول ورف: "إن فكرتي الزمان والمكان لا تبدوان دائماً في تجارب الناس بصورة واحدة. بل يتفاوت نصيب الناس في إدراكهما. فهما ترتبطان بطبيعة اللغة التي يتكلمونها أو بطبائع اللغات التي نشأت هاتان الفكرتان وتكاملتا فيهما".
ولما نظر ورف في مسألة مثنوية "اللغة والحضارة" واتصال إحداهما بالأخرى أو استقلالهما، اعتبر أن "النموذجات اللغوية" ذات تأثير عميق في "المعايير الحضارية" على حد تعبيره. أي أن "ميتا فيزياء اللغة" عنده هي التي تبرز إلى حد كبير روح الأمة ومعايير سلوك أفرادها. ذلك أنه يقول ما معناه "أن لكل لغة ميتافيزياء خاصة بها".
إن ورف وفيسهربر لم يدرسا نظرية الترجمة دراسة خاصة. بيد أنّ "ميتافيزياءهما اللغوية" تقتضي نفي كل ترجمة أدبية ولا سيما ترجمة الشعر, وهو نفي يوافق آراء علماء الأدب. يؤكد مثلاً هـ. سيدلر H. Seidler في كتابه "الشعر، طبيعته، شكله، وجوده Die Dichtung. Wesen, Form, Dasein شتتغارت 1959. "أن كل مجموعة من الناس توحدها لغة ما إنما ترتبط بلغتها هذه وتجد فيها السبيل الوحيد للإعراب عن تصورها للعالم (Weltlild) وعن موقفها الباطني منه (Inner Haltung)".
ويرى أن من يريد أن "يسكب" نظاماً لغوياً مترابطاً في قالب لغوي آخر لا بد لـه من أن يصطدم بمصاعب لا تذلل. وهو يعتبر أن العوالم الفكرية التي "تجسدها" اللغات واحدة في الأصل, ولكن "التجسيدات اللغوية" متفاوتة. ولما كانت تلك العوالم الفكرية تتجلى في تلك التجسيدات بدت متفاوتة تبعاً لها.
وعلى هذا يتداخل العالم الفكري في المجموعة اللغوية ليؤلفا معاً كلاًّ مترابطاً ومتضافراً لا تنفصل أجزاؤه بعضها عن بعض. ولا يمكن لهذا "الكل" الملتحم أن يُنْقل إلى نظام لغوي آخر ملتحم أيضاً بألفاظه ومعانيه. ذلك أن اللسان يجسّد روح الأمّة في رأيه, فلا يسع المرء الوصول إلى مقاصده بدقة تامة على طريق أدواتٍ وتعابير مأخوذة من لسان آخر. ويترتب على هذا أن "البون يتفاقم كلما ابتعدت الشقة بين اللغات، على حين يسهل إقامة جسر للعبور بين لغتين إذا كانت بينهما قربى واشجة".
بيد أن تحليل وجوه الشبه بين أساليب لغتين متقاربتين كالروسية والأكرانية، وكذلك الروسية والبلغارية، ثم الألمانية واليديش وهي لغة يهود أوربة الوسطى أوضح أن الترجمة بين لغات متدانية تجد في سبيلها مصاعب أكثر وأوعر مما تجده بين لغات متباعدة منائية, كما كشفت عن ذلك بحوث (ف.م. رسلز F. M. Rossels). وينوه هـ. سيدلر بالعجز عن ترجمة بعض الألفاظ المتصلة بتجربة تاريخية وحضارية ترجمة دقيقة إلى لغات أخرى (يذكر هنا اللفظ الألماني Gemiit والفرنسي Esprit والإنكليزي Spleen. ويقابل بين صيغ صرفية متشابهة ذات قيم بيانية متفاوتة مثل اللفظ الألماني Ab.gelebtes عند جورج تركل Georg Tracl والصيغة السلافية المقابلة Otjiutsee فلهما قيمتان بيانيتان متفاوتتان). وينتهي سيدلر إلى أن كل لغة تتضمن مثالاً جمالياً أعلى تنزع إليه يختلف عن نظائره في غيرها من اللغات.
ـ 3 ـ
تظهر مقارنة آراء فيسهربر وسيدلر بوضوح أن نظرية الترجمة تتضمّن مشكلات لغوية ومشكلات أدبية جمالية. وقد برز تياران في نظرية الترجمة إبّان السنوات الأخيرة: تيار لغوي وآخر أدبي. ويتشدّد كل فريق ممن ينتسب إلى أحد التيارين في موقفه تجاه الفريق الآخر. يرى الفريق اللغوي أن الترجمة أمر لغوي لأن فهم اللغة هو الأصل هنا. ويرى الآخر أنها جزء من الأدب وفلسفة الجمال لأن جوهرها يقوم على نقل العناصر الجمالية. بيد أن الترجمة يصح أن تعتبر إبداعاً ذا درجتين. وهي بذلك لا يمكن أن تخلو من المسائل اللغوية، إذا كانت هذه المسائل تتسرب إليها بطبيعة الأمر، وأخصها علاقات الفكر واللغة، وشأن اللغة في تكون المعرفة، ومسألة الارتباط بين النظام اللغوي وطراز "العقلية القومية" على حد دعوى أصحاب النظرية الميافيزياوية في اللغة. ولا بد من معالجة هذه المسائل والوصول إلى حلول لها قبل الدخول في ميدان المسائل الأخرى الجمالية والفنية، أي العلاقات المتبادلة بين الشكل والمضمون في النص الأصلي ثم في النص المترجم (ولا سيما الشعر)، وكذلك مسألة النص الذي تراد ترجمته بخصائصه التاريخية والحضارية لكي تعيد الترجمة إنشاءه إنشاءً جديداً بالاعتماد على ما تقدمه من وسائل لغة ثانية ذات كيان آخر.
يبرز إذن تناقض في نظريات الترجمة بين التيارات اللغوية من جهة، والتيارات الأدبية من جهة مقابلة. بَيْدَ أن ذلك التناقض يخفّ بل يتوارى متى دخلنا علوم البلاغة ولا سيما إ ذا عالجنا فرعاً فيها هو باب الموازنة في تلك العلوم وهو بحث لا يزال طريّ العود حديث العهد ليّن الخطا. وصاحب المقال هذا يوسف ما يدل عليه مصطلح الموازنة في علوم البلاغة وهو يقصد به معنى يكاد يختلف عن مقاصد زملائه العلماء في هذا الشأن.
نعم! لقد ظهر في السنوات الأخيرة ولا سيما في فرنسة عدة كتب تبحث في مقارنة أساليب الكتابة وموازنتها (خذ مثلاً ما نشرته مكتبة الموازنة في علوم البلاغة بإشراف ألفرد ملبلان Alfred Malblane، باريز، 1961 ـ 1963). تقتصر تلك البحوث على مقارنة الوسائل اللغوية بعضها ببعض في مستوى لغوي نحوي معاً أي هي أمسّ وألصق ببحوث اللغة. وهي بدون ريب تشتمل على فوائد جلّى إذ تكشف عن خصائص ذاتية في اللغات التي تتناولها بالدراسة. وهي في أساسها النظري تستند إلى آراء همبلت. وقد استهل ملبلان أحد كتبه بفقرة لهمبلت تصور نزعة سلسلة تلك الكتب وهي أن "الارتباط المتبادل بين الفكرة واللفظ يوضح أن اللغات ليست مجرد وسائل لعرض حقيقة معروفة قبلاً. بل هي على العكس من ذلك وسائل للكشف عن حقيقة لا تزال مجهولة. وليس الفرق بين اللغات فرقاً في الأشكال والإشارات، وإنما هو فرق في وجهة النظر إلى العالم. في هذا يكمن مبدأ كل بحث لغوي، كما تكمن غايته القصوى".
(W. Von Humboldt, Ueber das vergleichende Sprachstudium, 1820).
ومن المناسب هنا أن نذكر أن فيسهربر يرى هذا الرأي خلاصة نظريته هو أيضاً، ومتى قبلنا الفرض الذي يزعم أن تركيب اللغة يمثِّل أو يعيّن خاصيّة الفكر القوميّ انتهى القول بنا إلى أن كلّ شيء في اللغة إنما هو أسلوب بياني سواء كان الشيء متعلقاً بنظام الكلام أو النحو أو المفردات أو اللهجة. فإن كان الأمر كذلك غدا علم البلاغة دون حدود وأمسى غير مستقل ولا قائم بذاته واختلط بعلم المفردات وبالنحو وأمثالهما.
وبهذا الاعتبار تستبين المغالاة في آراء ملبلان. وإليكم فقرات كتبها هذا المؤلف تظهر موقف المتطرف. يقول مثلاً: "أليس أمراً بديعاً أن نحدد مدى التأثير اللغوي في المؤلفات الاتباعية في بلدين إذا وازنّا بينهما فوجدنا ذلك التأثير يسحب ذيوله إلى ميدان الفلسفة؟ أو ليست اللغة الأصلية أو معرفة لغة ثانية معرفة عميقة قد وجهت كلتاهما فكر ديكارت ومين دوبيران وبرغسون كما وجهت فكر كانت وهيغل وماركس؟ أو ليس لثنوية اللغة تأثير في ليبنتز؟ لقد قال هـ. دو كيزير لنغ H. de Kayserling: إنما تكمن الفلسفات العميقة في اللغات".
(A. Malbanc, Stylistique Compareacute;e du francais et de lrsquo;allemand. P. Didier, 1961, P.16).
وهكذا بلغت آراء همبلت تلك التي أعرب عنها قبل قرن ونصف قرن من الزمن أقصى تكاملها المنطقي. فلقد تبع علماء البلاغة في فرنسة تلك الآراء إلى درجة أنهم ضيّعوا موضوع دراساتهم حين جعلوا علم البلاغة عبارة عن علم اللغة بوجه العموم. ويرى كاتب المقال أنه مع استعماله المصطلحات أنفسها يخالف تماماً في هذا الشأن زملاءه الفرنسيين. وليست بحوثهم في مجال المفردات والنحو عنده إلا خطوة أولى بسيطة في نظرية الترجمة.
إن علم البلاغة وموازنة الأساليب علم لـه مقصد وهو دراسة القوانين التي تتحكم في فن الترجمة. ولكشف هذه القوانين يلزم البحث في عدة مستويات:
1 ـ المقايسة بين نظامين لغويين (من جهة النحو والمفردات وتركيب الجمل).
2 ـ مقايسة أساليب اللغتين (مثلاُ قوانين نشوء الأساليب في كل لغة، وعلاقات النهج الأدبي واللهجات المحلية والعامية فيها أيضاً).
3 ـ المقايسة بين الأساليب الأدبية المتوارثة لدى كلِّ لغة (الأساليب الاتّباعية والإبداعية والعاطفية وأساليب الأغراض الشعرية والأدبية المختلفة كالرثاء والقصص وغيرهما).
4 ـ المقايسة بين أساليب القريض من جهة خصائصها القومية (القريض المقطعي أو القريض المستند إلى الأوتاد والأسباب أو القريض القائم على البحور).
5 ـ المقايسة بين الميراثين الثقافي والتاريخي لكل من الحضارتين القوميتين في مدى إعراب فنون الأدب عن كلا الميراثين.
6 ـ المقايسة بين النظامين الجماليين أو الفنيين الفرديين (فن المؤلف الأصلي وفن المترجم).
وهكذا يقتضي التحليل الكامل للترجمة الأدبية: قصة قصيرة كانت أو دراما أو رواية أو قصيدة عاطفية أو حماسية مسَّ جميع هذه المستويات. فإن جملتها تؤلف ما يدعى بحث الموازنة في علوم البلاغة والأساليب كما يرى صاحب المقال. ولهذا كانت تضم ضماً وثيقاً علم اللغة ونظرية الأدب.
ـ 4 ـ
إن مقايسة غنى الأساليب في لغتين أمر ضروري في إنشاء نظرية الترجمة التي لا بدّ منها في الترجمة الأدبية والتي دونها تغدو هذه الترجمة بتراء ناقصة. ذلك أن لكل لغة نسقاً خاصاً بها يكاد يشبه الإيقاع فيما يقع من تبدل وتطول لكل أسلوب من أساليب البيان فيها لقد لوحظ إبّان العقد الثالث من هذا القرن في اللغة الألمانية تبدل كبير في أسلوب البيان الرسمي وفي الأسلوب الصحفي بسبب ما طرأ من تبدل على المجتمع في ظل النازية. فلقد نشأ إذ ذاك بيان خاص مصطنع دعاه اللغوي الألماني ف. كلمبرر V. Klemperer بالرمز L. T. I (Linguq Tertiae Imperiae)([1]). وفي تلك الفترة لم تتبدل أساليب البيان الفرنسية التي كانت تؤدي مقاصدها المختلفة تبدلاً جديراً بالتنويه. لذلك لزم أيضاً الانتباه للعلاقات المتبادلة بين بنية الأساليب من جهة وتطورها من جهة ثانية في إقامة نظرية للترجمة الأدبية. حتى إذا تهيأ تبيان تلك العلاقات استيسر به عمل المترجم.
نعم! إن كل مترجم لا بد لـه من أن يوازن بين أساليب اللغات التي يمارسها. بيد أن النظرية المبنية على أساس التحليل العميق لخصائص الأساليب وعلى الموازنة العلمية بينها قد تعصمه من مخاطر الزلل وابتسار الأحكام واعتساف التعميم. وهكذا تلزم للمترجمين دراسة نظرية الترجمة لزوم دراسة الأدب وفن الشعر والعروض والقافية وأمثالها للشعراء والكتاب. وتأتي للموازنة في علوم البلاغة ومقارنة الأساليب ركناً تقوم عليه نظرية الترجمة تلك.
إن تلك الموازنة لم تحظ دائماً بالعناية التي حظي بها علم اللغات، وإن كنا نجد ملاحظات طريفة ومفيدة عند بعض المفكرين والأدباء في ذلك المضمار ولا سيما عند المترجمين الروس. ولكن تلك الملاحظات كانت من ثمرات الخبرة والتجربة لا من ثمرات الدراسة العلمية الواسعة المتوطدة. يسأل دستويفسكي مثلاً في كتابه "يوميات الكاتب" (1876): لم يمكن ترجمة كل أثر أدبي فرنسي إلى اللغة الروسية، وتمتنع ترجمة آثار غوغول إلى الفرنسية؟ "وكذلك بوشكين تتعذر ترجمة أكثر آثاره. وأحسب أن لو ترجم كتابه "قول الكاهن أفاكوم" لكانت الحصيلة بربرة مختلطة أو لم تكن على الأصح شيئاً ما. يطرح دستويفسكي هذه الأسئلة ثم يحاول أن يجيب عنها فيقول: "ربما كان من المجازفة دعوى أن الفكر الأدبي أقل تمايزاً وأكثر انطواءً وأشدّ خصوصيّة من الفكر الروسي. وإذا كانت هذه الدعوى لا تخلو من المجازفة جاز التنويه على الأقل تنويهاً ممزوجاً بالأمل والبهجة أن روح اللغة الروسية دون ريب متنوع ثري متعدد الجوانب كليّ إذ عرف حتى في أشكاله التي لا تزال غير راسخة أن يعرب عن كنوز الفكر الأوربي وعن أفضل نموذجاته. وإنّ لنشعر أنَّه نقلها بدقة وأمانة".
فكرة دستويفسكي هذه عامة لم يعللها تعليلاً لغوياً، بل شادها على ما يتصوّره عن "الروح الشعبية الروسية". بيد أن مؤلفين آخرين عالجوا قضية الموازنة بين الفرنسية والروسية معالجة أكثر استناداً إلى صعيد الواقع. كذلك شغلت هذه الموازنة المؤلفين الفرنسيين الذين نقلوا بعض الآثار الأدبية الروسية إلى الفرنسية والذين درسوا الأدب الروسي في نصوصه الأصلية لا مترجمة, وآراء ميريمي Merimeacute;e، وهو من ألمع من نقل عن الروسية إلى الفرنسية طريفة شائقة. لقد استخرج من دراسته للغة الروسية أن هذه اللغة غنية جداً إلى حد الإفراط. وغناها هذا قد يدفع الكاتب إلى تذوّق اللغة لذاتها أي إلى مجرّد جمال الأسلوب. وقد حاول ميريمي في بحث لـه عن غوغول وفي غيره من البحوث أن يوازن بين سبل تعبير اللغتين ويقدّر مزايا تلك السبل الفنية وثراءها. وقد كتب ملخيور دو فوغوي Melchior de Vogueuml; كتاباً عن "الرواية الروسية" 1886، فكان في رأيه عن اللغة الروسية متفقاً مع ميريمي، عقد في كتابه فصلاً عن بوشكين فنوّه بذلك "اللسان الماسي" الذي يمتنع نقله إلى لغة أخرى. وهو يورد نصاً لبوشكين من رسالة لـه بعث بها إلى غولتزين Golytzine فيؤيده فيما ذهب إليه الشاعر من تعذر نقل الشعر الروسي إلى الفرنسية وذلك "لإيجاز لغتنا ـ على حد تعبير بوشكين ـ إيجازاً لا يضاهى". ومن المناسب الإشارة إلى أن فوغوي يعتبر أن ترجمة الشعر عامة أمر مستحيل ولا سيما الشعر الروسي. وربما كان رأيه هذا متحصلاً عن جهوده التي أخفقت في ترجمته "عن اللغة التي هي أكثر لغات أوربة شاعرية إلى أقل تلك اللغات شاعرية" على حد تعبيره.
ولقد تأمل بعض الكتاب الفرنسيين منذ حين قضية الموازنة بين اللغتين الفرنسية والألمانية. ولما كتبت مدام دو ستايل Staeuml;l كتابها عن ألمانية "De lrsquo;Allemagne" خصصت صفحات كثيرة للموازنة بين اللغتين في خصائصهما اللغوية وفي أساليبهما. ولقد تأثّرت بآراء همبلت التي سلف الكلام عليها. فهي ترى أنّ اللغة هي الظرف المادّي للروح القومية وبهذا الاعتبار تقايس بين خصائص اللغتين وسبل التعبير فيهما.
أما اللغة الألمانية فهي في رأيها "أكثر ملاءمة للشعر منها للنثر، وللنثر المكتوب منها للنثر الملفوظ". ثم إنّ الفرنسية أسوغ لتصوير المجتمع والألمانية أطوع في تصوير الطبيعة وهي ترى أيضاً أن الفرنسية ليست مهيأة لترجمة الشعر الألماني. ولكن هذه القاعدة لا تشمل جميع الآثار الشعرية الألمانية. بل ثمة ما يستثنى. فقصيدة "كسّنْدر" لشيلر قابلة للترجمة، على حين قصيدة "الناقوس" ممتنعتها. ولقد ترجمت مدام دو ستايل نفسها طائفة من القصائد الألمانية (أحاديث فاوست بينه وبين نفسه مثلاً). ولكنها مع ذلك تنوّه بتعذر ترجمة تلك القصائد مبدئياً. وهي تؤكد الفروق في سبل التعبير اللغوية والتصوّرات القومية الفنّية والعادات المأثورة الجارية. وترى في صدد ذلك أن الفرنسيين ليس عندهم "لغتان لغة النثر ولغة الشعر كما هي الحال عند أغلب الشعوب، وأن مراتب الألفاظ في هذا الشأن كمراتب الناس إذا زالت هذه بينهم أدى ذلك إلى خطر سقوط الحشمة".
وبالجملة فإن كثيراً من الكتاب تفكروا مليّاً في مشكلات الترجمة وما تقتضيه من موازنة بين اللغات والأساليب والآداب. ولكن آراءهم التي أبدوها بعضها كما رأينا لا يعتمد على نظرية علمية. بل هي خوالج أوحت بها تجاربهم وأذواقهم الفنّية. أما النظرية العلمية فينبغي أن تقوم على برهانات تتصل بفقه اللغة وغيره. ولم يعمد الأدباء والباحثون حتى الآن إلى بناء مثل هذه النظرية ولا إلى تأليف أعمال منظمة تبحث في أساليب اللغات وتوازن بينها.
ـ 5 ـ الشكل الثالث للموازنة في علوم البلاغة يضم مقايسة الأساليب الأدبية المتوارثة، أو بعبارة أوضح مقايسة الأساليب في مضمار لون أدبي مسمّى. حَسْبُنا هنا أن ننوّه بهذا الموضوع مجرّد تنويه لأن معالجته تقتضي جملة من البحوث الواسعة الضخمة التي تقصد إلى دراسة التشابه والاختلاف بين الظواهر الأدبية التي تنتمي إلى غرض واحد أو تتزيّا بزي واحد. يمكن مثلاً مقايسة الأساليب البيانية للفن الاتباعي (الكلاسيكي) والإبداعي (الرومنسي) أو العاطفي في اللغة الروسية والألمانية والفرنسية والإنكليزية أو غيرها. وكذلك مقايسة وسائل البيان بين الأغراض الشعرية في مختلف ميادين الأساليب الأدبية.
وهنا نصل إلى قضية الموازنة في فن الشعر أو البيوطيقى، وهي فرع من فروع الموازنة في علوم البلاغة. ولا بدّ منها في رفع أركان نظرية الترجمة. لقد ندر أن درست الصلات والأواصر المتبادلة بين فنون الشعر في الآداب المختلفة. والرأي السائد في الوقت الحاضر أن ليس ثمة أصول مقررة تخوّل نقل القريض وما يشتمل عليه من قواعد التقطيع والعروض من أدب إلى آخر دون مجانفة أو تعسّف أو خطأ. ومع ذلك فقد بدأت مقايسة فنون القريض في روسية بأعمال رومان جاكبسون Roman Jakobson ولا سيما بكتابه "الشعر التشيكي وموازنته بالشعر الروسي" (1923). يقول المؤلف في مقدمة الكتاب إنه يعالج فيه القريض التشيكي وما يميزه من فنون القريض الأجنبية ولا سيما القريض الروسي. وإن كتابه ليس إلا "طليعة لبحوث المقايسة بين ضروب الإيقاع". ولقد تطورت دراسات فقه اللغة السوفياتي في هذا السبيل بأعمال ف. زير منسكي V. Zhirmounsky. وقد قابل أندري بيلي Andreacute; Biely في صفحات حصيفة بين الشعر الروسي والشعر الألماني. ولا بد هنا من الإشارة إلى علماء آخرين شقوا الطريق إلى هذا الميدان مثل ب. توما شفكي B. Tomachevoi وي تينيانوف I. Tynianov ول. تيموفييف L. Timofeacute;ev. إن دراسة القواعد التي تتبّع في ترجمة الشعر ينبغي أن تولي انتباهها الميراث القومي في كلتا اللغتين وأن تمارس تحليلاً شاملاً منظّماً للميراثين وتقابل بينهما. لقد تطور الشعر الروسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حين كان على صلة وثيقة بالشعر الفرنسي. وعلى الرغم من ذلك الاتصال الوثيق جرى الأدباء الفرنسيون على ترجمة الشعر نثراً وجرى الأدباء الروس على ترجمته شعراً. وبذل الشعراء الروس قصارى جهودهم منذ ترديا كفسكي Trediuml;akervsky في نقل القصائد الأجنبية إلى صيغ شعرية تناسب صيغها الأصلية ولم يكتفوا بالمعاني والمضامين وحدها، بل انتبهوا في الترجمة الروسية إلى خصائص النص الأصلي جميعها. والآن نسأل ما هي الفروق الأساسية في نظامين للقريض قرّبت بينهما الترجمات الممتازة التي صنعها سوما روكوف Soumarokov وكريلوف Krylov وبيتيوشكوف Botiouchkov وبوشكين Pouchkine ثم الذين أتوا بعدهم من أمثال بندكتوف Beacute;neacute;dictov وكورتشكين Kourotchkine وأننسكي Annensky.
لقد حاول فريق من الباحثين أن يردوا تلك الفروق إلى فقر اللغة الفرنسية بالنسبة للغة الروسية في قلة بروز الإيقاع وعدم وضوحه وفي الضيق الذي يصيب القوافي. ولكن هذا التعليل غير صحيح، إذ كانت اللغة الفرنسية لها وسائلها الإيقاعية الخاصة التي تختلف عن الوسائل الإيقاعية في اللغة الروسيّة وكذلك اللغة الألمانيّة. وليتسع تفاوت ألوان الإيقاع أمام الشاعر الفرنسي اتساعاً كافياً لكي يتغلب على ما قد يعترض لـه من عقبات في صناعته الفنيّة.
ومن الأدلة على صحة ما أوردناه أن الفرنسيين قد يتنكّبون عما درجوا عليه من عُرف في ترجمة الشعر، فيترجمون الشعر شعراً (مثلما فعل ألكسندر دوما في كتابه "سياحة في ربوع روسيّة" Voyage agrave; travers la Russieuml;، حيث ترجم بعض أشعار بوشكين). على أن غالبية الباحثين الفرنسيين في الوقت الحاضر يشرحون جميع العقبات بامتناع ترجمة الشعر واستحالتها لمجرد أنه شعر. ولا يكشف عن أسباب تلك الفروق الواردة آنفاً إلا التحليل التاريخي. وهي أسباب ترجع إلى صفات المذهب الاتباعي الأدبي الفرنسي في القرن السابع عشر. وحسب القارئ ليتحقق ذلك أن يقرأ أو يعيد قراءة مؤلفات بوالو Boileau النظرية التي فيها نصيب ضخم من الجدال والمحاجّة. وتتلخص نظرية بوالو في نقطتين: الأولى تمس الاتجاه الفني العام والثانية تتضمن مناقشةً وجدالاً. وخلاصة الأولى أن الشعر في رأي بوالو نثر مزخرف ومبهرج وأن ليس بين النثر والشعر من فرق أساسي. وخلاصة الثانية أن شعراء اليونان والرومان بلغوا ذروة الكمال وأن ترجمة آثارهم ترجمة جيدة معناها نقل مزاياهم التي تفرّدوا بها. ومع ذلك إذا عمد شاعر فرنسي فترجم شعراً قديماً بشعر ما جعل هذا الشعر ينسجم مع ذوق عصره الحديث وانضوى بذلك إلى جانب شارل بيرو Charles Perrault الذي كان يفضل المحدثين على القدماء في معركة القديم والحديث.
إن تلك النظرية الاتباعية الفرنسية في ترجمة الشعر نثراً توكدت خلال قرون. ويجدر هنا أن نلاحظ أن فن الترجمة الشعرية كان شديد المحافظة على عُرفه وعاداته. وقد جنح المترجمون إلى أن يقتفوا تلك العادات والعرف. ولما ترجمت مدام دو ستايل في كتابها "عن ألمانيه" قصائد لغوتي وشيلر ترجمتها نثراً فنهجت ما رسمه بوالو من نهج في الترجمة وإن كانت تخالفه في الآراء الفنية الجمالية. وكذلك لما دافعت إلسا تريولي Elsa Triolet([2]) عند ترجمة أشعار مياكفسكي Maiuml;akovsky شعراً حراً غير مقفى كانت تسلك النهج نفسه.
هذا كله يفضي بنا إلى أمور تتمم بحثنا هي ما يأتي:1 ـ ليس من الدقة القول إنّ الفرنسيين يترجمون الشعر نثراً عادياً. ذلك أن النصوص المنثورة التي تحصل بترجمة الأشعار من لغة إلى أخرى تنأى من الوجهة الجمالية عن مجرد النثر العادي. ويصح القول إن الفرنسيين أنشؤوا أسلوباً أدبياً جديداً هو الشعر المنثور لـه خصائصه الفنية. وهو قد يستثير إبداعاً شعرياً أصيلاً (كقصيدة شاتو بريان Chateau briand المنثورة المسماة Les Natchez وكقصائد لتر يامون Lautreacute;amont التي بعنوان Les chants de Maldoror.2 ـ عمد الشعراء والباحثون الفرنسيون منذ حين إلى تجاوز ما جروا عليه في الزمن السالف البعيد من عرف وقواعد غدت جامدة وطفقوا يلتمسون دروباً جديدة. فهم يريدون أن يجعلوا اللغة الفرنسية وعروضها تستجيبان لترجمة الشعر الأجنبي. لقد ترجم أندري مينيو Andreacute; Meynieun قصائد بوشكين كلها مستعملاً ضرباً من البحور الشعرية لا قافية فيه يخوّل الانتقال من الوزن التفعيلي إلى الوزن المقطعي, وكذلك إلسا تريولي لمّا ترجمت مياكفسكي تجاوزت قواعد العروض الفرنسية.على أن بعض الباحثين في العصر الحاضر يسوّغون ترجمة الشعر نثراً منوّهين برأي غوتي في كتابه "الشعر والحقيقة" حيث يقول" أحترم الإيقاع وكذلك القافية. بهما يكون الشعر شعراً. بيد أن العمق نفسه والإبداع الأصيل والثقافة الحقيقية هي ما يبقى من الشاعر بعد أن يترجم شعره نثراً. عندئذ يمكث المضمون الخالص الصرف. فإذا غاب هذا المضمون برز بهرج الشكل أمام أبصارنا، وإذا حضر أخفاه وطواه".إن غوتي يتحدث هنا عن ترجمات شكسبير وهوميروس لا عن الشعر الغنائي العاطفي. ذلك أن الشاعر الألماني الكبير كان يدرك تمام الإدراك العلائق الوثيقة الخاصة بين الشكل والمضمون في الشعر الغنائي العاطفي الذي يجوز لنا أن نصفه بما وصف به غوتي نفسه الطبيعة حين قال:
Natur ist weder kern
Noch shale,
Alles ist sie mit einem Male
(Allerdings)
إن الطبيعة ليست
لُبّاً ولا هي قشرة
وإنما هي كلٌّ
موحَّدٌ بالفطرة
([1]) أي اللسان الثالث الآمر. والثالث ثالث المتكلم والمخاطب وهو عادة النائب. وهذا النائب هنا هو المتسلط النازي.
([2]) إلسا هذه زوجة الشاعر الفنرسي أراغون وقد تغنى بها في أكثر قصائده، وله ديوان بعنوان "مجنون إلسا" جرى في تسميته على محاكاة لقب "مجنون ليلى" فهو قد اطلع على كتاب عبد الرحمن جامي آخر شعراء الفرس الكبار الذي عنوانه "مجنون ليلى" وقد ترجم هذا إلى العربية.
نقلا عن مجلة "الآداب الأجنبية" الصادرة في دمشق (ربيع 2007)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف