قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ملاحظات حول معرض غنتر ساكس في لايبزغ
صالح كاظم من برلين: يقود الحديث عن ستينات القرن الماضي - على وجه التحديد في أوربا - الى إسترجاع بعض الأسماء التي لعبت دورا في التأسيس لما يمكن أن نسميه "الحس الستيني"، هذا الحس الذي لم يقتصر على نهج فكري أو فني أو سياسي معين، وأنما تسرب الى كافة جوانب الحياة الثقافية والسياسية مثل حمى خلاقة معدية شغلت مختلف قطاعات المجتمع -سلبا أوإيجابا-، فإلى جانب ما تمخضت عنه الحركة الطلابية من تحولات سياسية في إتجاه تجذير الديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى هوامش التوجهات الفكرية "الثورية" لـ "مدرسة فرانكفورت" ومظاهر "الثورة الجنسية" التي كان قد سبق وأن أسس لها عالم النفس الماركسي ولهلم رايش (1897-1957) تبلورت حركات فنية تشكيلية، يتقاطع بعضها مع الإتجاهات التي سادت في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية، بينما جاء بعضها الآخر مكملا لما سبقه من تيارات سريالية وتجريدية وواقعية. وهناك شبه إجماع لدى النقاد بأن أكثر المدارس بروزا وتأثيرا في هذه المرحلة كانت مدرسة الـ "بوب آرت" التي تمتد جذورها الى خمسينات القرن الماضي، وفي الحقيقة فأن إنتشار هذه الحركة الفنية، جاء أيضا نتيجة لدعمها من قبل مجموعة من الممولين ومحبي الفن الذين وجدوا فيها ما يتناسب مع متطلبات النهضة الإقتصادية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بالإرتباط بما شكله الـ "بوب آرت" في توجهاته الأولى إلى مظاهر الحياة اليومية وعوالم الإستهلاك والإعلام والدعاية. وهناك العديد من الأسماء المرقومة وسط مشجعي الـ "بوب آرت"، ومن ضمنهم المليونير والفنان الألماني المعروف غنتر ساكس (1932)الذي أرتبط إسمه مع الممثلة السينمائية الفرنسية "بريجيت باردو"، حيث ربطته بها علاقة زوجية أستمرت لمدة ثلاث سنوات (1966- 1969).
ولقد أستطاع ساكس من خلال علاقاته الواسعة في الوسط الفني أن يشكل محورا مهما لكافة الإتجاهات الفنية لتلك المرحلة، حيث كانت له علاقات حميمة مع سلفادور دالي ورينيه ماغريت الذين أرتبطت أسمائهما بالحركة السيريالية، ومع توم ويسلمان (1931-2004) وأندي وورهول (1928-1987) وروي ليشتنشتاين (1923-1997) و سيسار بالداتشيني (1921-1998) وغيرهم من ممثلي الـ "بوب آرت". من هذا المنطلق فقد أصبح غنتر ساكس، ليس فقط بسبب ثروته الهائلة، بل أيضا بسبب إهتماماته الفنية الواسعة شاهدا أساسيا للحركات الفنية في القرن الماضي، وهذا ما يجعل نشاطاته الفنية في مركز إهتمام النقاد والباحثين في مجالات الفن على حد سواء. وربما كان هذا هو السبب الذي شجع إدارة "متحف الفن التشكيلي" في لايبزغ على إحتضان معرض "الفن مؤنث"، وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية التي جمعها ساكس خلال أكثر من خمسين سنة من حياته، إضافة الى أعماله الخاصة المتميزة في مجال التصوير والسينما الوثائقية. وقد خصصت للمعرض مساحة 2000 متر مربع، تعطي للمشاهد إنطباعا شاملا لنشاطات ساكس في مجال جمع الأعمال الفنية والمعارض التي أقامها لغرض تقديم أشكال فنية جديدة للجمهور في مجالات الواقعية الجديدة الفرنسية Nouveau Realisme والفن التجريدي ومدرسة التجريد الشاعري، الى جانب أعمال الـ "بوب آرت"، وهي الأعمال التي عرضها أصلا في غاليري "ملش شتراسه"، حيث أبتدأت شهرة أندي وورهول. ومن الطرائف التي يرويها ساكس عن هذا المعرض، بأنه كان يتوقع في البداية أن يقبل الجمهور على شراء أعمال وورهول بكثرة، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، حيث أنه لم يتمكن من بيع أي عمل، مما أضطره في النهاية الى أن يقوم بنفسه بشراء ثلث تلك الأعمال تحت أسماء مستعارة ليوهم وورهول بوجود سوق كبير لأعماله.
أثناء التجوال في المعرض المتكون من ممرات ضيقة محاطة بجدران خشبية، تنتهي أحيانا في كابينات، تحيط بها أعمال لفناني المرحلة وممتلكات خاصة لساكس، تعكس مشاغله الحياتية (دراجته البخارية السريعة وأدوات التزحلق على الجليد التي وضعته في وقت ما في مقدمة الرياضيين الشباب على المستوى العالمي..الخ) يجد المرء نفسه في قلب الماضي المليء بالتناقضات وأحلام الخروج من قيود المألوف من خلال الفن.
ولم يكتف ساكس بتقديم رموز الفن في هذا المعرض الذي أصر على أن يشرف على تصميمه، وإنما زينه بإعماله الفوتوغرافية التي تتغنى بجمال المرأة وجسدها، مركزا بشكل خاص على النساء اللواتي لعبن دورا في حياته مثل بريجيت باردو وعارضة الأزياء السويدية ميريا لارسون التي تزوجها بعد طلاقه من باردو، إضافة الى العديدات من صديقاته ومعارفه مثل عارضة الأزياء كلاوديا شفر. وبعد قطع هذه المسافة الطويلة مرورا بالغرفة التي يسكنها الفنان أثناء وجوده في باريس يجد المرء نفسه وسط "شقة البرج" المشهورة التي كان ساكس يسكنها في فندق "بالاست" في سانت موريتز -سويسرا-، وهي تعتبر من المعالم المهمة للـ "بوب آرت"، حيث ساهم في تصميمها كل من أندي وورهول (المطبخ) وروي لشتنشتاين (البانيو) والن جونسون (الأثاث)، وتضم كذلك أعمالا لتوم ويسيلمان والنحات الفرنسي سيسار بالداتشيني. ورغم أن المعرض يمس العديد من جوانب الحياة الفنية في القرن الماضي، إلا أنه لا يحيط سوى بشريحة واحدة من مغامرة الحداثة ويختزلها في منظور غنتر ساكس، وهذا ما يتأكد في نهاية جولتنا في المعرض، حيث نجد أنفسنا في قاعة تعرض فيها الأفلام الوثائقية للفنان، وهي أعمال تستحق بلا شك أن تجذب إنتباه المشاهد لتقنيتها العائلية ولما تحتويه من إشارات للتطورات اللاحقة في حياة غنتر ساكس بإتجاه الإنصراف نحو التصوير الفوتوغرافي كأداة للتعبير، غير إنها على الأغلب، رغم حصولها على العديد من الجوائز عالميا، تمثل تجربة ذات قدر كبير من الخصوصية في الجانبين الإبداعي والحياتي. وهل يمكننا أن نطالب بأكثر من هذا من "رجل غوي"، أصبحت العملية الإبداعيةلديه جزءا لا يتجزء من الحياة؟