ثقافات

نيتشة والمنقبون عن الفحم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح كاظم من برلين: هذه القرية تقع في شرق المانيا، على وجه التحديد في مقاطعة "ساكسن أنهالت"،وهي تحمل إسما لا يمكن أن يجذب أنظار المسافر لولا إرتباطه بإسم واحد من أهم الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر: فريدرش نيتشة (1844-1900)، الذي ولد ودفن في هذا القرية التي لا يتجاوز تعداد سكانها حاليا 170 نسمة. إسم هذه القرية رويكن، وهي تبعد عن برلين ما يقارب 153 كيلومترا وعن لايبزغ ما يقارب 30 كيلومترا. في الطريق الى هذه القرية التي لم تصبها لحد الآن عدوى الحداثة رغم إحتوائها على جثمان أكبر المبشرين فلسفيا بها يمر المرء بحقول خضراء واسعة تزينها البحيرات والمستنقعات، بحيث تبدو متميزة وسط محيطها الصناعي. وما تكاد أن تدخل القرية حتى يجذبك منظر كنيستها القديمة التي تقع وسط جنينة صغيرة، توجد فيها بركة تعوم فيها الأسماك (الذهبية) الصغيرة بسلامغير مكترثة بما يجري حولها من أحداث وبما كان يشغل سكان القرية الى وقت قصيرمن أحاديث تتعلق بنية إحدى شركات التنقيب عن الفحم على إجراء حفريات تجريبية هناك، بحثا عن إحدى المصادر الأساسية للطاقة في ألمانيا، ألا وهو الفحم البني، وربما ستكون نتيجة هذه الحفريات ترحيل سكان القرية وكنيستها والقبر الذي يضم جثمان نيتشة وأبويه وشقيقته وأخيه الأصغر إلى موقع آخر، وذلك وفقا للمصالح الإقتصادية للشركة التي كانت على ما يبدو تتوافق مع نوايا حكومة المقاطعة في الحصول عن مصادر إقتصادية جديدة وتوفير أماكن عمل لسكانها. وفي الوقت الذي مازالت الرافعات العملاقة تتربص بهذه القرية من المناطق المحيطة بها، أستطاعت إدارة متحف نيتشة أن تفرض على إدارة المقاطعة أخيرا قرارا سياسيا/ ثقافيا للحفاظ على ذاكرة القرية التاريخية وتطويرها لكي تصبح الى جانب فايمار، حيث يوجد "آرشيف نيتشة" الذي أسسته شقيقته إليزابيث في بداية القرن العشرين، بعد أن قامت بتشويه وشطب الكثير من أعماله، لتجعلها أقرب الى تفكيرها القومي المتعصب، مركزا لإستقبال الباحثين في فكر نيتشة وحياته ولكل من يهمه تراث هذا الفيلسوف العبقري من مختلف أنحاء العالم. ولا شك بأن إنصياع إدارة المقاطعة لإرادة سكان القرية ومجموعات ثقافية من مختلف أنحاء ألمانيا سيساهمفي تحويل القرية الى مركز سياحي وثقافي مهم في ألمانيا، ليس فقط بسبب نيتشة، بل كذلك بسبب كنيستها الرومانية التي تعود الى القرن الثاني عشر الميلادي، وبيت "القساوسة" الذي بني في القرن الثامن عشر، وهو مسقط رأس نيتشة، حيث كان أبوه يعمل قسيسا في الكنيسة المحاطة بأشجار الإجاص، وقد تم تحويل الإسطبل التابع للبيت الى متحف يحتوي على ثلاث قاعات تحتوي على العديد من الوثائق المتعلقة بحياة نيتشة وعائلته، إضافة الى شهادة ميلاده المصدقة من قبل الكنيسة، وكذلك شهادة وفاته التي نصت على ما يلي: "دفن هنا المدعو فريدرش فيلهلم نيتشة المولود في رويكن بتاريخ 15 أكتوبر 1844 وهو أبن القسيس كارل لودفغ نيتشة، ومن هنا فهو إنجيلي بالولادة، إلا أنه كان في فلسفته عدوا للمسيح.."
ويحتوي المتحف الذي أكتمل بناؤه في سنة 2003، أي بعد ما يزيد 12 عاما على التخطيط له، كذلك على مسودات لأعمال الفيلسوف، ومخطوطاته التي كتبها أثناء فترة جنونه. في مواجهةالمتحف يوجد النصب الذي صممه النحات الألماني كلاوس فريدرش ميسرشمدت، وهو يحمل عنوان "نيتشة يظهر ثلاث مرات عند قبره"، وهو عبارة عن "شاهد" محاط بثلاثة تماثيل لنيتشة، تظهره أثنان منهما شبه عار، أما التمثال الثالث فيظهره برفقة أمه التي كانت تصطحبه للتجوال معها أثناء مرضه، وقد أعتمد النحات في تصميمه هذا على ملاحظة سجلها نيتشة أثناء مرضه، يقول فيها: "رأيت أني كنت أقف شبه عار أمام قبري في صورة مكررة." وقد تعرض هذا العمل لنقد شديد من قبل المحافظين من سكان القرية، ومن قبل صحفيين رأوا فيه إستخفافا بفكر نيتشة وبمرضه، غير أن إدراة المتحف رفضت إجراء أي تغييرات عليه من منطلق حرية التعبير الفني. وأعتقد أن أحد أسباب جودة هذا العمل تمكن في إنسجامه مع تشكيلة الأبنية المجاورة، ومنها الكنيسة وبيت القساوسة، وكذلك التمثال الضخم المنحوت على جدار الكنيسة والذي يمثل آخر فارس من فرسان المرحلة، الذي كان يعتبره نيتشة تجسيدا للقديس جورج في "درعه المخيف". في الجانب الآخر من الكنيسة، قرب الجدار تقع المقبرة العائلية التي تجمع "الملحد" نيتشه مع والديه الورعين وأخته إليزابيث التي يعتبرها العديد من المؤرخين لفكر نيتشة هي المسؤولة عن تشويه العديد من آراءه بما يتناسب مع التوجهات العنصرية، المعادية للسامية. من هنا كانت أبواب آرشيف فايمار مفتوحة للقادةالنازيين وأتباعهم، ومن المعروف أن هتلر كان غالبا ما يتردد على هذا الآرشيف، تأكيدا على إهتمامه بـ "رموز الثقافة القومية". ولقد كان كورت توخولسكي (1890-1935) على حق حين أشار في العديد من كتاباته النقدية الى أن ما يجري في "آرشيف نيتشة"، إنما هو عبارة عن "تطويع للعقل المتمرد" ومحاولة - لم تحقق هدفها - لتحديده في إطار إيديولوجي يتلاءم مع ضيق الفكر "القومي" الذي كان نيتشة أبعد ما يكون عنه، أو ليس هو القائل: "حرفتي هي إسقاط الأصنام"؟
هذه الرحلة الى مرقد نيتشة تعود بالذاكرة الى فترة من الزمن، كان التعامل فيها مع أفكار نيتشة يعتبر من المحرمات، لكونه ينتهك حدود الإيديولوجيات السائدة ويسعى للخروج من الطوق الخانق للمدنية، بكل أبعادها ليتسلق "أولمب الآلهة" الأغريقية، ولرفضه كذلك لكل ما يؤدي الى تقنين الفرد في إطار حضور إجتماعي ضيق، تحدده آليات فكرية شمولية مثل شبكة العنكبوت، في ذلك الوقت، في ظل "النظام الإشتراكي" في المانيا "الديمقراطية" كانت أبواب "آرشيف نيتشة" مغلقة أمام الباحثين من أبناء البلد، لكنها كانت مفتوحة في الوقت أمام الباحثين من البلدان الرأسمالية، حيث كان عملهم يعتبر مصدرا للحصول على العملة الصعبة، لذا نشرت الطبعة "النقدية والمدققة" الأولى لأعماله في غرب ألمانيا تحت إشراف الباحثين الإيطاليين جيورجيو كولي وماتزينو مونتيناري. مع ذلك فقد رفض النظام، وهذا ما يعتبر الى جانبه، تحويل قرية رويكن الى منجم لإستخراج الفحم، ووضع قبره تحت "حماية الآثار التاريخية" بإعتباره "يحمل مدلولا تاريخيا وفنيا وعلميا كبيرا مهما للبناء الإشتراكي."
والآن، بعد أن تجاوزت قرية رويكن أزمة الخوف بسبب الرافعات المحيطة بها، ربما ستصبح مركزا ثقافيا يروي ظمأ الباحثين في سر هذا المفكر والشاعر الكبير التي مازالت حياته محاطة بالألغاز.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
أعظم العقول البشرية
عبد السلام -

كان نيتشه وما يزال وسيبقى إلى الأبد أعظم عقلية بشرية. وسيتجلى أثره جيلا بعد جيل .

رموز الفكر
حسن شرحي -

لكل عصر رواده ولكل قوم زعيم، مقولة تستأثر باهتمام العديد من الباحثين عن الحقيقة والراغبين في المعرفةالعلمية التي كان ولايزال الفيلسوف الشاعر نيتشه أحد روادها ومبدعيها.