ثقافات

بولغاكوف وشبح ستالين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فالح الحمراني من موسكو: مرت مؤخرا الذكرى ال 55 عاما على موت ستالين، على خلفية زيادة الاهتمام بشخصية الزعيم السوفياتي المتناقضة. وصدرت في الاعوام الاخيرة الكثير من الاعمال، البعض تعيد النظر في شخصية ستالين وتجميل صورته، والاخرى تكشف عن وجه بشع له كطاغية دموي ومستبد لايرحم. وتعد علاقة ستالين بالمثقفين والثقافة احدى الجوانب الخطيرة في سيرته، فعلى يده اُهدرت دماء كبار الشعراء والروائيين والفلاسفة وعلماء اللغة والعلوم الطبيعية، وهو ايضا احتضن اسماء اخرى وداهن اخرى، وعلاقاته بالاديب الكبير ميخائيل افناسوفيتش بولجاكوف صفحة يسودها الغموض.
عاش الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولجاكوف( 1891not;ـ 1940 ) في زمن صعب، تحولت فيه عبقريته الفنية الى صليب ثقيل يجره، وتعاملت السلطات معه بقسوة. واعجب الطاغية بادبه وكمال فنه، لكنه كان يمقته كخصم عقائدي بنظر للعالم من زاوية اخرى ويحدد اولوياتها من وجهة نظر مصير الانسان لا مقاييس حزبية، مقاييس الفنان الحر. بيد ان المخطوطات لن تحترق كما يقول في احد قصصه، فجاءت الحياة الاخرى لبولجاكوف بعد رحيله، حين استجاب الجمهور القارئ بقوة لمؤلفاته. ولحد اليوم تغص المكتبات باعماله بمختلف الطبعات وتحولت بعضها لمسرحيات واخرى لافلام وأظهر استطلاع ان بولجاكوف من بين افضل عشرة كتاب روس في القرن العشرين. وتواصل مراكز البحث في افضل الجامعات حل لغز روايته الشهيرة " المعلم ومارجريتا" " اعقد عمل ادبي في القرن العشرين". علما ان مؤلفاته ولم ترَ النور بصورتها النهائية إلا بعد انطلاقة إعادة البناء (البيريسترويكا) والجلاسنت التي دشنها الرئيس ميخائيل جورباتشوف في عام 1985 .
وتعرضت اعمال بولجاكوف الروائية والمسرحية في عصر الاتحاد السوفياتي السابق للشطب والاختصار، وصدرت حينها ناقصة ومشوهة وتباينت المواقف من أعماله الأدبية واثيرت حولها السجالات، نظرا للغموض الذي يحف مضامينها ويوفر التعددية في قراءتها وتفسيرها. بيد ان أجواءها تسربلت بالشفافية والبساطة الحياتية حيث تركت مهنته كطبيب بصماتها عليها. فالمكان في قصصه: كييف وموسكو، والموضوع الاثير لديه: سخريات شيطان ذكي وفنان عاجز ومحجوز في دار المجانين، والأبطال الذين تعج بهم اعمالهnot; مولير وبوشكين ودون كيشوت وبقايا الحرس الابيض والمهاجرون الروس، وهم لا يطلبون شيئا بل يقفون بانتظار من سيأتي في منحهم هباته، وهكذا في كل مكان. كانو فيه. ان بولجاكوف لم يضع في مهامه مواجهة السلطة فهو لم ينخرط في نضال سياسي، بل كرس حياته للادب. الادب الخلاق الذي يصطدم القارئ ويعيد بناء رؤيته للعالم.

المعبود
وكان ستالين معبود بولجاكوف و بطل اخر اعماله، مسرحية "باتوم"، رغم ان (شاريكوف) بطل قصته قلب كلب، كلب حاول البرفيسور بريوبريجينسكي تحويله لبشر اثار التداعيات السلبية عن الواقع السوفياتي الذي خلقته ثورة أكتوبر البلشفية وصرخة باستحالة تغير جوهر الانسان وانما يمكن تطويره في ظل طروف معينة، وتضمنت اعماله الرئيسية نصوص غير مرئية توحي بالكثير. لكن هذا الأديب لم يستطع تحدي عصره، وكل ما كان بمقدورهان يفعله وكاي فنان هو طرح قضايا ملحة تشغله وتشغل عصره و يكون شاهدا عليه مفكرا وكاتبا، يطلع الناس علي رؤيته لتوسيع بصيرتهم. وأقصى ماكان يرجوه ألا يزج به ومن دون ارتكابه جريمة في سجن او معسكر عمل اجباري وألا تصادر مخطوطاته.
تخرج بولجاكوف عام 1916 من كلية الطب في جامعة كييف ومارس مهنته حتي عام 1919 ليتفرغ للادب. وشاهد الفضائع التي ارتكبت باسم الثورة، وتدمير اجمل في عهد القياصرة على يد الغوغاء فقابل عالمه بسخرية لاذعة. وفي عام 1921 عرضت روايته(ايام عائلة توربين) الشهيرة التي تناولت عالم الجيش الابيض، في المسرح الفني، في موسكو وعرضت مسرح "فوختانجوف" مسرحية "شقة زايكين" وشاهد ستالين المسرحيتين عشرات المرات لاعجابه الشديد بهما، رغم انهما تعرضان بجوانب من الحياة السوفياتية.
. وفي عام 1920 باشر في كتابة رائعته" المعلم ومارجريتا" " وعمل في الوقت نفسه مساعد مخرج في المسرح الفني الي جانب ستانسلافسكي. ولم تظهر "المعلم ومارجريتا" الا في عام . 1967
شبح ستالين
وصدر مؤخرا في موسكو كتاب يضم رسائل الاديب الروسي ميخائيل بولجاكوف والمذكرات التي سجلتها زوجته عنه التي تنشر لأول مرة لتلقي المزيد من الضوء علي علاقته المعقدة بجوزيف ستالين التي تعد واحدة من أكثر صفحات حياته مأساوية.
فكرة واحدة ظلت تراود بولجاكوف وتقض مضجعه وهو علي فراش الموت يلفظ انفاسه الاخيرة، وكاد يفقد نظره تماما: لقد أفلتت الامور من يدي، لقد فشلت في الحديث مع ستالين . بيد ان الحوار الذي استمر بين الاديب والدكتاتور ظل متوترا على مدى عشر سنوات، دون ان يسمع الكلمة الاخيرة التي انتظرها بولجاكوف فشبح ستالين كدكتاتور وكشخصية تاريخية كان لها دور في مسرحية التاريخ، كانت تطارده.
وتعرض رسائل الأديب المشهور ومذكرات زوجته موت روح الأديب قبل أن يفارق جسده الحياة. والجانب الاكثر اثارة في الكتاب تلك المذكرات المتفرقة التي طلب من زوجته تدوينها حينما شعر بدنو النزع الاخير. ولاحت الضربة الاخيرة في المبارزة بين الاديب والسلطة كأنها قدر محتوم. فلم يسمح الا بعرض مسرحيات معدودة من اعماله، ولم تسمح الرقابة بطبع أي من رواياته.
وفي نهاية الأمر راهن بولجاكوف بكل شيء وكتب "باتوم" المسرحية التي كرسها لسيرة ستالين الشخصية في مطلع شبابه في القفقاز، علها تشفع له. ولكنه تسلم في 15 أغسطس عام 1939 خبرا غير سار مفاده ان بطل"باتوم" ( ستالين) منع وضع المسرحية التي تناولت سيرته. ولم يرافق المنع أية تفسيرات، فربما كانت المسرحية ناقصة في تناولها للموضوع. لقد كان ستالين يهتم جدا بكل ما يكتب عنه، لكي يتناسب والصورة الوهمية التي رسمتها الماكنة الاعلامية عنه بذهن الجماهير( كان ستالين يقول ان الصورة التي رسمتها الجماهير عنه غير ستالين الحقيقي)، ا و لان بولجاكوف انتهك قواعد اللعبة القائمة حينها بين القط والفأر. لقد كانت تلك بداية النهاية. وظل يتسائل من زوجته التي كانت دائما بجواره، وهما في حافلة كانت تقله وهو عائد لبيته: إلي أين نذهب؟ إلى الموت؟. لقد ساوره الشعور بانه ميت، وراح يتجرع الموت فعلا، ففقد بصره، وعانى من صداع الشقيقة، التي زادها بعد وقت سريع آلام في الظهر. واستولي عليه مجددا الخوف والكآبة. لقد كانت تلك اعراض مرض نفسي، وأدرك المحيطون به ذلك. ووجه ثلاثة من أصدقائه، من ممثلي المسرح الفني، رسالة التماس إلي سكرتير الدكتاتور طلبوا بها تدخل ستالين، فذلك الامل الوحيد لإنقاذ الأديب الكبيرnot; وسيكون منعطفا قويا وايجابيا يمكن ان يعيد حب الحياة لبولجاكوف . وعُـقدت حينها الامال على تكرار المعجزة التي وقعت عام 1930، حينما رد ستالين علي رسالة الاديب اليائسة بمكالمة تليفونية، تم بعدها عين بولجاكوف في المسرح الفني الذي كان يديره ستانسلافسكي والسماح للنظر بعرض عدد من مسرحياته. ولكن ستالين اكتفى هذه المرة بالاعتراف علنا بان" باتوم"مسرحية جيدة، مما جعل قراره بمنع عرضها يبدو قرار غير مفهوم. ولم يساعد ذلك الرأي علي انتشال الاديب من تلك الهاوية التي راح يسقط بسرعة في اعماقها. وظل بولجاكوف ينتظر دعوة ستالين للقاء به منذ 18 ابريل/نيسان 1930 حينما رن الهاتف في شقة بولجاكوف. الاتصال من ديوان القائد. اخذ ستالين بنفسه الهاتف " تريد الرحيل؟" ومن ثم بصوت فيه شئ من الاعتذار " هل ازعجناك للغاية؟". فرد عليه بولجاكوف انطلاقا من ايمانه العميق، بان على الكاتب الروسي العيش بروسيا. وبلغ بولجاكوف ستالين عن رغبته العمل في المسرح فاشار عليه ستالين بتقديم طلب للعمل بالمسرح الفني. واختتم ستالين المحادثة بالقول" علينا الالتقاء ةالحديث معك"فرد بولجاكوف " نعم نعم من الضروري الحديث معكم" ستالين" نعم. ينبغي ايجاد الوقت والالتقاء، حتما". وظل الكاتب الكبير ينتظر متى تحين الفرصة!
نهاية المبارزة
وبذل بولجاكوف علي فراش الموت مجهودا مضاعفا لانهاء الكتابة النهائية لرائعته "المعلم ومارجريتا" وقال لزوجته: انني علي استعداد للتضحية بكل شيء بالرواية وبالنظرمقابل ان تزول عني آلام الرأس الفظيعة. ويصبح أحيانا بعد تناوله جرعة من المهدنات شديدة التأثر والحساسية، ويستعيد مرارة الواقع: المسرح والحرب الاهلية وستالين. وسرد على زوجته قبل يومين من موته حلما راوده: كنت واقف وسط حجر جميل رمادي. أردتِ ان اتحدث لستالين، اردت ان يقول لي بنفسه شيئا ما، لكني لم افلح جره للحديث مع ستالين، وسيكون الحلم واضحا حين تفسيره وفق نظرية يونج، وهو مشابه لحلم بونتيا بيلاتا احد ابطال روايته "المعلم ومارجريتا" الذي تحقق في الواقع. ويواصل بولجاكوف بإصرار الحوار ولكن هذه المرة وهو علي شفرة الموت. لقد كان ستالين بالنسبة له القوي العليا الخرافية التي بمقدورها وحدها الحكم علي اعماله وتقييمها. ولم يتم بينهما اللقاء الذي عقد الاديب عليه الامال الكبير، ولذلك فان بولجاكوف يرتب ذلك اللقاء بمخيلته (كان بمقدوري ان ارد.، دون شك كان بمقدوري ان ارد ليعرف الجميع ذلك . (من سيأخذني من سيستقبلنا؟، ولا اتمني الشر لاحد وبعدها غدت الكلمات مبهمة. ينادي زوجته ويحاول كل مرة ان يقبض علي السكين. وعقب ذلك صرخة (النور) انها صرخة بطل مسرحيته (مولير قبيل موته. ورددت زوجته في الساعة 39، 16 في العاشر من مارس عام 1940 جملة واحدة لقد مات ميشا " اسم التدليل لميخائيل" ورن في اليوم التالي جرس التليفون في المسرح الفني، وجاء صوت سكرتير ستالين علي الخط ليتساءل، أصحيح أن الاجل واغى الرفيق بولجاكو. وجاء الرد حزينا:نعم صحيح. ولف الصمت الجهة الاخري من الخط. انتهت المبارزة، وسقط الاديب دون يسمع الكلمة الاخيرة.
والسؤال يظل ماثلا عن موقف ستالين الحقيق من ستالين. هل هو الشيطان الذي هبط على الارض ( كما في روايته المعلم ومارجريتا) لكي يصلح الامور على الارض ( الروسية) وينشر العدالة والمساواة؟.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف