ثقافات

أوراق بولندية من حياة بيكاسو

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بابلو بيكاسو في مؤتمر دعاة السلام عام 1948
أوراق بولندية من حياتهأحمد حسين: فرانسواز جيلوالمرأة السادسة في حياة الفنان الذي رحل عن عالمنا في 8نيسان/أبريل 1973،والتي قال عنها النقاد إنّها كانت مجد بيكاسو، ذكرت في كتابها (حياتي مع بيكاسو) أنّ رحلة بابلو الى بولندا، وغيابه عنها لأول مرة حوالي ثلاثة أسابيع، ثمّ توجهه إلى باريس بعد العودة وبقائه فيها لأسبوع، كانت في الحقيقية لحظات الهدوء التي سبقت العاصفة، أيْ تلكالعاصفة التي أدت إلى فراقهما سنة 1953بعد حياة عائلية هادئة دامت عشرة أعوام. كان بيكاسو قد استعاد كل طاقته الإبداعية قرب هذه الفتاة الجميلة التي تصغره بأربعين عاما. ترك باريس من أجلها ليعيش في مدينة فالوريس (جنوب فرنسا)، حيث كان يمارس الرسم يوميا، ثم اقتحم ميدان الخزف، وعاد من جديد إلى الطباعة الحجرية (الليتوغراف). وكل ذلك من أجل أن يلبي رغبتها في إقامة متحف خاص يحمل اسم بابلو بيكاسو. من جانب آخر، وعندما قرر بيكاسو السفر إلى بولندا أظهرت عدم رضاها لأنّها لم تكن قد فكرت بغيابه عنها لفترة طويلة. ومع هذا سافر وتركها لوحدها مع ابنهما (كلود) الذي لم يبلغ عامه الثاني بعد. ولم يتصل بها شخصيا عندما كان في بولندا، وإنما تكفل بهذا الأمر سائقه وسكرتيره الخاص مارسيل بوودين. ما هي حكاية هذه الرحلة البولندية....وماهي تفاصيلها..؟
في صباح يوم الأربعاء 25 آب/أغسطس 1948، بدأت في مدينة فروتسواف البولندية أعمال (المؤتمر العالمي الأول للمثقفين للدفاع عن السلام). وفي حوالي الساعة الواحدة ظهرا، هبطت في مطار هذه المدينة طائرة بابلو بيكاسو قادمة من باريس. وهي طائرة عسكرية روسية، وضعتها الحكومة البولندية تحت تصرف بيكاسو(ضيف الشرف في هذا المؤتمر). كان بصحبة بيكاسو صديقه الشاعر الفرنسي بول إيلوار وسائقه مارسيل بوودين وثلاثة من الصحفيين الإنكليز، وكذلك أعضاء الوفد البولندي المرافق برئاسة السكرتير الأول في السفارة البولندية بباريس. وقد أحضر بيكاسو معه عشرين قطعة من الخزف من إنتاجه الأخير. وقد عرضت هذه المجموعة من القطع في القاعة الرئيسية المؤدية إلى قاعة المؤتمر. كان معرض الخزف هذا هو الأول الذي أقامه بيكاسو في حياته. أثار وصول بيكاسوالى مدينة فروتسواف البولندية (الواقعة بالقرب من الحدود الألمانية حيث تعرضت للدمار أثناء الحرب العالمية الثانية)اهتمام سكانها. لقد كانوا طوال أيام المؤتمر يقفون صفوفا لرؤيته وهو يتنقل بين قاعة المؤتمر وفندق (مونوبول) حيث كان يقيم،أوعندما كان يتجول في شوارع المدينة التي غطت جدران بناياتها المدمرة شعارات الترحيب بأعضاء المؤتمر وأعلام بلدانهم.وكان نصيب بيكاسو من هذه الشعارات كبيراً: أنت في القلوب ياصاحب غورنيكا ورجل السلام (اشارة الى لوحته الشهيرة-غورنيكا- التي رسمها عام 1937،كتعبير عن مواقفه المعادية لجرائم الدكتاتور الإسباني فرانكو)،.... بولندا ترحب بالرفيق العظيم بابلو بيكاسو (في عام 1945 أعلن بيكاسو عن عضويته في الحزب الشيوعي الفرنسي). هذه الشعارات وغيرها من مظاهر الاهتمام الشعبي كانت وراء سعادة بيكاسو. تقول المترجمة البولندية المرافقة لبيكاسو(إيفا ليبينسكا) في يومياتها: " بيكاسو كان فرحاً ومسروراً كالطفل الصغير.. لم يصدق ما يجري حوله، حتى بسطاء الناس والأطفال يلتفون حوله. هذه هي المرة الأولى في حياته التي يعيش فيها أجواء مثل هذه اللقاءات الجماهيرية ". كان بيكاسو خلال جلسات المؤتمر الأولى هادئا وصامتا، وهو يتابع باهتمام ما يجري حوله من نقاشات ساخنة وحادة دون أن يساهم فيها أو يسجل أية ملاحظات. كان يجلس في الصف الأمامي من القاعة وهو محاط بالثلاثي الدائم: الشاعر بول إيلوار، وسائقه مارسيل بوودين ومترجمته البولندية. بينما في فترات الاستراحة وبعد عودته إلى الفندق، كانت هناك حياة أخرى لبيكاسو،حيث اللقاءات والحوارات الممتعة مع بعض أعضاء الوفود المشاركة في المؤتمر. أمّا الفتاة السمراء (دي سيلفا)، رئيسة وفد سيلان- سريلانكا، فكان لها حصة الأسد من تلك اللقاءات. وقد انعكس هذه الأمر في الصحف البولندية المتابعة لأعمال المؤتمر من خلال كثرة التعليقات والصور الفوتغرافية التي يظهر فيها بيكاسو إلى جانب هذه الفتاة الشرقية الجميلة بزيها الوطني والتي لم يفارقها طيلة أيام المؤتمر. كما أنّ أمسيات بيكاسو لم تخلو من الحوادث والحكايات الطريفة. ففي مساء اليوم الأول من المؤتمر خلال حفلة العشاء في فندق (مونوبول) ابتعد بيكاسو عن الثلاثي المرافق له ليجلس في وسط مجموعة من الفتيات، وبعد ارتشاف الكأس الأول سأل بيكاسو إحدى الفتيات إن كانت لا تمانع بأنْ يخلع سترته (جاكيته) لأنه يشعر بحرارة الجو. وبعد أن وافقت على ذلك طلب منها بعد بضع دقائق السماح له بخلع ربطة العنق ثم القميص. وهكذا ظهر النصف العلوي من جسده الأسمرعاريا على غرار ما يكون عليه عادة في مشغله في فالوريس، وليس في حفلة عشاء رسمية. كان الشاعر بول إيلوار يراقب المشهد عن بعد، وحينما رأى بيكاسو واقفا،طلب من المترجمة البولندية أن تسرع إليه قبل أن يقوم بخلع سرواله (بنطلونه). وتروي المترجمة كيف أنّها أقنعت بيكاسو بأن يضع سترته فوق كتفيه (على الأقل)، وكيف أثار هذا المشهد اهتمام النساء في القاعة الى الحد الذي اندفعت إحداهن صائحة بأعلى صوتها: هكذا يجب أن يكون جسد الرجل الحقيقي...وإلا.. فلا !!. وبعد انتهاء وجبة العشاء في هذه الأمسية، وقف أحد أعضاء الوفد السوفييتي وقال إنّ الوفد سعيد لحضور بيكاسو إلى هذا المؤتمر، ولكنه كمثقف ملتزم يستنكر استمرار بيكاسو في الرسم بطريقة تقود إلى هذه الدرجة من الانحطاط المعبرة عن الثقافة البرجوازية الغربية الأشد سوءاً. وبعد أن جلس هذا الروسي، وقف بيكاسو ليرد عليه وسط صمت ساد قاعة الفندق قائلا: " لن أسمح بان يهاجمني بهذه الطريقة كائن من كان! ومن لا يعرف من هو. فإذا أراد أحد أن يشتمني فعليه اختيار مصطلحاته وأن يدين أحد خالقي التكعيبية.لقد سبق أن هاجمني النازيون في ألمانيا وفرنسا خلال فترة الاحتلال كرسام يهودي- ماركسي..". وفي هذه اللحظة اضطرب الجميع وتوالت الاحتجاجات من كل الجهات، في الوقت الذي حاول فيه البولنديون تهدئة الوفد السوفييتي عبر تسليمهم بأن قسماً من لوحات بيكاسو ربما يكون منحطا، ولكنهم لا يمكن أن يسمحوا أبداً بشتم ضيوفهم.
بيكاسو فوق منصة الخطابة:خرج بيكاسو في اليوم الأخير من المؤتمر(السبت 28 آب) عن ذلك الصمت الذي رافقه خلال الجلسات السابقة ووافق على قراءة مسودة القرار المتعلق بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا (وهو من أصدقاء بيكاسو المقربين،وكان في تلك الفترة مطاردا من قبل النظام في بلاده). كانت هذه أبرز مفاجئة حدثت داخل أروقة المؤتمر. لم يكن بيكاسو خطيبا، ولم يسبق له أن ألقى خطابا جماهيريا. فعندما نهض من مكانه وتقدم نحو منصة الخطابة ساد القاعة سكون غريب، وصفته بعض الصحف البولندية حينذاك بأنه يشبه حالات الإغماء المفاجئة التي أصابت الحاضرين وقطعت أنفاسهم، بحيث لم يعد يسمع شيء سوى خطوات بيكاسو وهو يمشي نـحو المنصة، والاندهاش والاستغراب.. كان الكل على ما يبدو يشك بمقدرته على الحديث وإلقاء كلمة أمام حوالي ألف إنسان داخل القاعة، وآلاف أخرى خارجها وفي أماكن أخرى (الجلسات الختامية للمؤتمر تمّ نقلها على الهواء مباشرة من قبل محطات الإذاعة البولندية والأجنبية). وقف بيكاسو على المنصة، وقبل أن يقرأ نص القرار المكتوب، ألقى كلمة قصيرة باللغة الإسبانية امتازت بصدق روحه الإنسانية وباستخدام مفردات حماسية مثيرة للمشاعر. وقد أكد منذ اللحظة الأولى أنه قادر على مخاطبة الجماهير، الأمر الذي أثار اهتمام الحاضرين، حيث كانوا يقفون ويتعالى تصفيقهم له كلما تحدث عن الحرية والسلام،وكلما ذكر اسم بابلو نيرودا. وفي نهاية كلمته هذه خاطب الحاضرين بأسلوب مسرحي قائلا: " هل يعلم أحدكم أين يعيش نيرودا الآن...إنه مطارد في بلاده،ولا يعامل كإنسان وإنّما كالكلب.. لا أحد يعرف مكانه...إنّ هذا المؤتمر لن يكون مؤتمرا لناس أحرار مثلنا إذا لن يحصل هذا الشاعر العظيم على حريته..". ثم قرأ بعد ذلك نص مسودة القرار التي تم التصويت عليها بالإجماع وسط هتافات وتصفيق الحاضرين. أود أن أشير هنا إلى أن (مجلس السلم العالمي) قد نظم في مطلع آيار/ مايو عام 1973 ندوة عالمية للمثقفين في نفس هذا المكان وذلك بمناسبة مرور ربع قرن على انعقاد هذا المؤتمر. رافقت هذه الندوة مراسيم خاصة بمناسبة رحيل الفنان بابلو بيكاسو (توفي في يوم الأحد المصادف 8 نيسان/أبريل 1973)، وكان من المفروض حضور الشاعر بابلو نيرودا ليلقي كلمة في هذه المناسبة ومن على نفس المنصة التي وقف عليها صديقه بيكاسو قبل ربع قرن. ولكن الأوضاع السياسية التي سبقت انقلاب أيلول/سبتمبر عام 1973 في بلاده حالت دون حضوره، ورغم هذا فقد ألقيت هذه الكلمة نيابة عنه. يذكر أن نيرودا توفي في سنتياغو يوم 23 أيلول من العام المذكور بعد نجاح انقلاب الدكتاتور بينوشيت.

بيكاسو في ضيافة الحكومة البولندية:
في صباح يوم الأحد 29 آب وصل بيكاسو ومرافقوه إلى وارشو، حيث سكنوا في فندق (بريستول) الواقع وسط المدينة. ومنذ هذا اليوم وحتى مغادرته بولندا كانت أيام بيكاسو حافلة باللقاءات والزيارات، وقد رافقتها كالعادة حوادث وحكايات عديدة. سنذكر البعض منها في سياق الحديث. خلال الساعات الأولى من نهار هذا اليوم أجرت بعض الصحف المحلية والأجنبية لقاءات صحفية معه في قاعة الفندق. وقد شوهد بيكاسو ولأول مرة منذ وصوله الى بولندا وهو يمارس الرسم، حيث رسم صورة شخصية (تخطيطاً سريعاً بقلم الفحم) لصديقة الكاتب الروسي إيليا أرنبورغ، وكذلك لمترجمته البولندية (إيفا ليبنسكا). وفي مساء هذا اليوم حضر بيكاسو حفلة العشاء التي أقامتها الحكومة البولندية على شرف الوفود المشاركة في مؤتمر المثقفين العالمي. بدأت وفود المؤتمر بمغادرة بولندا في يوم الاثنين 30 آب بعد أنْ قاموا بزيارة لخرائب وأطلال وارشو القديمة التي دمرتها الحرب. أمّا بيكاسو وبول إيلوار ومارسيل بوودين وبعض أعضاء الوفد الفرنسي فقد وضعت الحكومة البولندية لهم برنامجاً خاصاً استمر سبعة أيام. بدأ البرنامج يوم الثلاثاء 31 آب، حيث سافر بيكاسو ومن معه بطائرة خاصة إلى مدينة كراكوف التاريخية. قام بيكاسو خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في هذه المدينة بزيارة متاحفها الفنية ومعالمها الأثرية وأسواق التراث الشعبي. واشترى مجموعة من الثياب البولندية التراثية (الأزياء الجبلية) لفرانسواز جيلو، ولابنه كلود. كما اشترى عدداً من التماثيل و اللوحات التراثية ونماذج من الفن الشعبي البولندي. وترى المترجمة البولندية أنّ أهم حدث في هذه الزيارة هو جولة بيكاسو إلى معسكرات الاعتقـال النازية في ضاحية (أوشفينشيم). ومشاهدته لأفران وغرف الغاز التي استخدمها الألمان في قتل ضحاياهم وحرق جثثهم. تقول المترجمة: " أثارت مشاهد غرف الغاز لدى بيكاسو مشاعر وأحاسيس إنسانية غريبة يصعب وصفها أو الحديث عنها.. ربما كان الشاعر إيلوار وحده يدرك عمق تلك المشاعر، عندما أشار لنا بإيماءة من رأسه بما معناه أن نترك بيكاسو لوحده ونبتعد عنه قليلا... أقول إنني وبعد ساعات من هذه الجولة،كنت أخشى أن أحدثه، لأنني كنت أرى الألم طاغيا على ملامحه، وإنّ السيكارة لم تفارق أصابعه..". في صباح يوم الجمعة 3 أيلول،وبعد عودته من كراكوف، واصل بيكاسو برنامج لقاءاته وزياراته، حيث قام بمعية بول إيلوار ومارسيل بوودين ورئيس لجنة إعمار وارشو بزيارة إلى أحد الأحياء السكنية الذي دُمِّر أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي بدأت فيه عملية إعادة البناء وتشييد مساكن جديدة. وخلال تجوالهم في هذا الحي قادهم المهندس الدليل إلى إحدى الشقق الصغيرة الواقعة في الدور الأرضي التي أصبحت جاهزة للسكن، وقد طليت جدرانها الداخلية باللون الأبيض.. فرح بيكاسو بهذا الإنجاز السريع ودفعه إلى أن يطلب سجل الزوار لكي يكتب بعض الكلمات في هذه المناسبة (بعد زيارته لمعسكرات الاعتقال النازية في كراكوف رفض بيكاسو تدوين أي شئ،واكتفى بوضع توقيعه تحت النص الذي كتبه بول إيلوار). وحينما علم بعدم وجود مثل هذا السجل في موقع البناء استدار نحو بول إيلوار وكأنه يستفسرعن أمر ما. وعندما ابتسم إيلوار أخرج من جيب سترته قطعاً من أقلام الفحم وقام خلال دقائق قليلة بالرسم على أحد جدران الغرفة الوحيدة في الشقة. كان الرسم عبارة عن شكل كبير الحجم يصور مع بعض التحوير رمز مدينة وارشو: (حورية البحر- سرينا). فقد رسمها وهي تحمل بيدها اليمنى مطرقة "رمز البناء والإعمار" بدلا من السيف "رمز الحرب والدمار" كما هو في الشكل الأصلي، ثم وضع توقيعه وتاريخ اليوم على الجانب الأيمن من اللوحة. كان طول اللوحة مترين وعرضها متراً. ربما تبدو هذه الحادثة مجرد واحدة من طرائف ونوادر بيكاسو الكثيرة، ولكن الذي حصل هو أن وسائل الإعلام البولندية التي كانت تتابع تحركات هذا الفنان بدأت تتناقل أخبار حورية بيكاسو (هكذا أطلقت عليها الصحافة). وعبر الناس عن رغبتهم بمشاهدة هذه اللوحة في مكانها بعد أن شاهدوا صورها على صفحات الجرائد المحلية وسمعوا عنها في نشرات الأخبار الإذاعية. ولغرض الحفاظ على هذا العمل الفني النادر اختارت بلدية وارشو السيدة سافيسكا وزوجها (لم ينجبا أطفالاً) للسكن في هذا المتحف الصغير(الشقة)، وتنظيم حركة زائريه. سنعود إلى هذا الموضوع بعد استكمال برنامج زيارات بيكاسو الخاص الذي كان آخر يوم فيه هو السبت 4 أيلول. ففي صباح هذا اليوم وفي حفل توديعي في قصر الرئاسة البولندية قام الرئيس البولندي (بولسواف بيروت) بتقليد بابلو بيكاسو وبول إيلوار وسامين من الدرجة الأولى (وسام نهضة بولندا). كان بيكاسو قد وصل إلى هذا المكان برفقة بول إيلوار وسائقه مارسيل بوودين وعدد من مراسلي الصحف البولندية والأجنبية. كان بيكاسو يرتدي بدلة رمادية اللون وقميصاً أبيض وربطة عنق. هذا الطقم هو نفسه الذي كان يرتديه يوميا منذ وصوله إلى بولندا، مع أنّ هناك أعرافاً وتقاليد خاصة في مثل هذه المناسبات. وكان هذا الأمر واضحا على أزياء الآخرين في هذا الحفل. (حاولت التدقيق في صور بيكاسو وهو في بولندا فلاحظت أنّ سترته - جاكيته- ينقصها ثلاثة أزرار في الكم الأيسر، بينما هناك اختلاف في نوعية الأزرار الموجودة في الكم الأيمن). تروي فرانسواز جيلو في مذكراتها بعض الحكايات حـول بيكاسو ومشكلته مع الملابس والأشياء القديمة.....حيث كان لا يرغب في شراء الملابس الجديدة. كان لديه طقمان قديمان خلال سنوات حياتهما المشتركة. تذكر جيلو " أنّه كان يرتدي الأقدم بينهما يوم ولادة ابنته بالوما. كان هذا الطقم بالياً إلى الحد الذي تمزق فيه السروال -البنطلون- عند الركبة وهو يهم بدخول السيارة التي ستقله إلى العيادة. وحين وصل بابلو في ذلك المساء...لاحظت أن ركبته عارية...". ولكن مهما كتب وقيل في هذا الموضوع فإنّ " للعظماء طقوسهم الخاصة وتقاليدهم في الحياة... يجب مراعاتها دائما ". بهذه الكلمات ختم كاتب بولندي مقالتة التي وصف فيها تلك اللحظات، عندما كان بابلو بيكاسو ببدلته القديمة يقف إلى جانب الرئيس البولندي بعد تقليده أرفع وسام في بولندا. وبطبيعة الحال لم يخل هذا الحفل من مفاجآت بيكاسو. اعترضت لجنة الاستقبال في قصر الرئاسة على دخول مارسيل بوودين إلى قاعة المراسيم، ولكن بيكاسو طالب بدخول سائقه ووقفه إلى جانبه لحظة تقليد الأوسمة. فكان له ماأراد..." مارسيل قطعة من التراب الفرنسي ": هذا ماكان يردده بيكاسو دائما ً. لـقد تغير هذا الأمر بعد سنوات قليلة،وانتهت تلك العلاقة الحميمة بينهما على أثر حادث سيـر بسيط، يتعلق بعدم انتبـاه مارسيل الذي أدى إلى تحطيم سيارة بيكاسو القديمة في أحد شوارع باريس. يرى كتاب سيرة بيكاسو أن هذا الفنان كان يستشيرمارسيل بوودين في كافة أمورحياته، وقد كان أكثر أصدقاء بيكاسو من الشيوعيين الفرنسيين تأثيرا ًعليه في دعوته إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي. ولكن ماحدث ربما كان جزء من أمور كثيرة قادت فيما بعد إلى تحولات في حياة بابلو بيكاسو وعلاقته مع الآخرين. في يوم الأحد 5 أيلول كان بيكاسو وإيلوار ومارسيل في ضيافة عائلة بولندية (من معارفه القدامى) في بيتها الريفي الواقع في ضواحي العاصمة وارشو. وقد توزعت أوقاته حينئذ بين السباحة في البحيرات القريبة وصيد السمك ورسم صور شخصية (تخطيطات) لأفراد هذه العائلة و ضيوفهم. وفي صباح يوم الاثنين 6 أيلول غادر بيكاسو ومرافقوه وارشو بالطائرة البولندية الخاصة. وقبل أنْ يخرج من فندق (بريستول) كان عليه أن يشكر إدارة الفندق بطريقته النادرة،حيث وضع توقيعه وتاريخ مغادرته على أحد أطباق الطعام. كان هذا الطبق معروضاً ولفترة طويلة في خزانة زجاجية في صالة الفندق، ثم اختفت آثاره منذ مطلع الثمانينات. وعندما وصل باريس لم يغادرها مباشرة إلى (فالوريس) حيث كلود وأمه، وإنما بقى هناك بصحبة بول إيلوار ومارسيل بوودين قرابة سبعة أيام للمساهمة مع الحزب الشيوعي الفرنسي في تشكيل (مكتب المثقفين العالمي للاتصالات). وهذا المكتب هو إحدى اللجان التي وافق على تشكيلها المؤتمرالعالمي الأول للمثقفين للدفاع عن السلام.

العيش مع حورية بيكاسو:
في واحد من اللقاءات الصحفية الكثيرة، والمنشورفي جريـدة السياسة البولندية - نيسان1975بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل بابلو بيكاسو،تروي السيدة (سافيسكا) تفاصيل الأعوام التي عاشتها هي وزوجها المريض (كان من نزلاء المعتقلات الألمانية) بالقرب من لوحة بيكاسو. كانت هذه السيدة تعتقد في البداية بأنّ العيشمع أعمال فنان كبير بشكل دائم شئ ممتع ويجلب الراحة والسرور. ولهذا قامت بعمل ستارة خاصة تغطي جدارية بيكاسو في الليل وترفع عنها في النهار، كما خصصت مكاناً تحت الجدارية لباقات الزهور، ووضعت بالقرب منه سجلاً خاصاً للزائرين مع ملاحظة تقول: "رجاء اكتب ما يدور في ذهنك حول الحورية سرينا، واترك توقيعك هنا..". كانت هذه الشقة التي تبلغ مساحتها 34 متراً مربعاً وخلال خمسة أعوام متحفاً صغيراً ومزارا لعامة الناس وطلاب المدارس وشخصيات سياسية وثقافية وفنية كثيرة. كان من بين الزائرين رئيس الدولة وأعضاء البرلمان البولندي وبعض الوزراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية وعدد مـن الكتـاب والفنانين البولنديين والأجانب. و في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1950 وبمناسبة انعقاد المؤتمر الثاني لأنصار السلامفي وارشو زارت الوفود المشاركة في المؤتمر هذه الشقة (المتحف)، وكان من المفروض حضور بيكاسو إلى هذا المؤتمر، ولكنه تغيب عن المشاركة بسبب ظروف عائلية. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ماذا كان يحدث لوأن بيكاسوتواجد في وارشو في ذلك العام..؟؟ على كل حال نعود الآن إلى ذلك اللقاء الصحفي، والى حكايـات السيدة (سافيسكا) وما فيها من طرف ونوادر. تروي هذه السيدة قائـلة: " أتذكر أنني سمعت بعد ساعات الظهر في أحد الأيام طرقا على الباب،وحينما فتحته كان هناك رئيس الدولة ومعه رئيس البرلمان البولندي وعدد من الوزراء والمرافقين...جلس الرئيس أمام حورية بيكاسو وهو يستمع إلى شرح أحد الحاضرين..وبعد أن قدمت لهم القهوة وقفت إلى جانب زوجي الفرح جداً. وفي هذه اللحظة سألنا رئيس البرلمان مازحاً: رفاق، ألا تخافون النوم مع هذه الحورية..؟؟ ثم نظر إليّ... رفيقه، إنّ زوجتي لا يمكن أن توافق على النوم في هذا المكان ولو أعطوها كنوز الدنيا...ابتسم زوجي ورد قائلا: لكل مكان أهله يا سيدي!!..وبعد أن ترك هؤلاء الزائرون شقتنا كان بانتظارهم في الخارج أهالي الحي، ومن بينهم مجموعة كبيرة من سكان الثكنة العسكرية القريبة وهم يهتفون بحياة الرئيس ويطالبونه بسكن أفضل... وبعد فترة أمر الرئيس البولندي بتشييد بناية سكنية حديثة لهم أطلق على هذه البناية في البداية اسم الثكنة الحديثة، ثم تغير اسمها إلى بناية الرئيس بيروت... أقول أن هذا قد حصل بفضل لوحة بيكاسو، حتى أن سكان هذه البناية علقوا على بوابتها الخارجية يافطة كُتِبَ عليها: شكرا لبيكاسو.. شكرا للرئيس... وبفضل هذه اللوحة أصبحت أنا معروفة من قبل الناس. كان البعض يطلق علي اسم: صاحبة بيكاسو، والبعض الآخر كان يهمس في أذني:كيف حالك يا رفيقة سرينا... كنت فرحة ممزوجة بتعب شديد..". بدأت هذه العائلة بمرور الأيام تشعر بالضجر والملل وعدم الاستقرار، وصار السكن والعيش مع حورية بيكاسو أمراً لا يطاق، ولاسيما أن عدد الزائرين أخذ يتجاوز أكثر من 400 زائر وخاصة في أيام الآحاد. وكان بعض هؤلاء الزائرين يجلب التراب والغبار بأحذيته في أوقات الصيف والأوحال والأطيان في الشتاء. وكان أكثر إزعاجا للسيدة (سافيسكا)هو زيارة صغار التلاميذ وعمال المناجم والبناء بملابس العمل، وكانت وحدها تقوم بتنظيف أرضية الشقة يوميا دون مساعدة أحد من المسؤولين. تقدمت هذه العائلة في منتصف سنة 1952 بطلب إلى التعاونية السكنية في بلدية وارشو من أجل الحصول على شقة أخرى أو إيجاد حل لجدران الغرفة التي تحول لونها الأبيض إلى الرمادي، وانتشرت البقع السوداء فوق أرضية الشقة. ولكن هذه الدائرة أخبرتها بأن الأمر لم يعد من اختصاصها وعليها الرجوع إلى مجلس إعمار محافظة وارشو والى وزارة الثقافة والفنون. وفي 14 شباط/فبراير1953 أرسلت السيدة سافيسكا إلى هذه الجهات طلباً جديداً يحتوي على كلمات تعبر عن التمرد والغضب الشديد..." نطلب الانتقال إلى شقة أخرى أو الموافقة على ترميم شقتنا وطلاء جدرانها بما فيها لوحة بيكاسو.. وإلا سأقوم بهذا الأمر بنفسي..". وبعد أيام انتشر هذا الخبر بين الناس..وبدأت المعارك الصحفية والكلامية بيـن المؤيدين لإزالة هذه اللوحة وبيـن المعارضين لـهذا الأمر. وقدمت مقترحات كثيرة، من بينها تحويل الشقة إلى متحف صغير لبيكاسو، أو رفع طبقة الجبس المرسوم عليها ثم إعادة بنائها في مكان آخر. ولكن هذه المقترحات وغيرها ذهبت أدراج الرياح. وفي 12 آب من هذا العام حصلت السيدة سافيسكا على موافقة الجهات المسؤولة لطلاء جدران الشقة وإزالة لوحة بيكاسو. وتتذكر هذه السيدة تلك اللحظات التي اختفت فيها الحورية (سرينا)..." وقبل أنْ يقوم الصباغ بمباشرة عمله وقفت وزوجي أمام جدارية بيكاسو... شعرت بإحساس غريب، وكأننا نقف أمام إيقونة مقدسة...شاهدت الحزن في عيون زوجي المريض، وكنت خائفة، ولكن ما العمل..؟؟.. بدأت ملامح اللوحة تختفي تدريجيا تحت فرشاة الصباغ وألوانه البيضاء...". وبعد أعوام قليلة توفي زوج السيدة (سافيسكا) وأصيبت هي بحالات من الوحدة والاكتئاب، ولم يكن بمقدورها العيش في نفس الشقة. انتقلت إلى شقة أخرى في الطابق العلوي من نفس البناية، ومعها أرشيفها الخاص بحورية بيكاسو. ولا أدري ما هو السبب وراء مرض هذه السيدة.. ربما كان السبب هو رحيل زوجها، وربما كان هو غياب الحورية من حياتها. ولكن حالتها كانت أفضل من حالة زوجة بيكاسو الأخيرة (جاكلين روك) التي عاشت موت الفنان كداء لم تبرأ منه، حتى انتحرت بإطلاق الرصاص على رأسها من مسدس في عام 1986. والأمر الغريب في حكاية حورية بيكاسو أنها لم تنته بإزالة آثار اللوحة من جدار تلك الشقة، وإنما استمرت لسنوات طويلة،ولاسيما في مناسبات احياء ذكرى الفنان (تحتفل الأوساط الثقافية والفنية في بولندا سنويا بذكرى رحيل بابلو بيكاسو)، أو في حالة افتتاح معرض لأعماله الفنية في وارشو. نجد أنّ الصحافة البولندية تعيد إلى الأذهان تفاصيل تلك الحكاية وتناقش مسؤولية ضياع ذلك الأثر الفني العالمي. وفي سيرة بيكاسو هناك حكاية مشابهة. ففي سنة 1903 رسم الفنان لوحة جدارية كبيرة في بيت صديقه (جيم سابرتس) في برشلونه. وكانت هذه اللوحة مرسومة على كامل جدار إحدى الغرف، وبعد بيع هذا البيت قام أصحابه الجدد بطلاء جدرانه الداخلية وطمس معالم هذه اللوحة. وعندما بدأت شهرة بيكاسو العالمية بالذيوع بعد سنوات خيم الندم على أصحاب هذا البيت، وحاولوا إعادة الحياة إلى تلك الجدارية، ولكن دون جدوى حيث كانت آثار التزوير واضحة. ماذا حدث بعد هذه الرحلة البولندية:
حين عاد بابلو بيكاسو إلى فالوريس، وهو محمل بالهدايا البولندية لم يتوقع حدوث شيء ما. مارسيل وحده كان خائفا من ثورة فرانسواز المفاجئة،لأنه كان يحرر وحده البرقيات ويرسلها من بولندا باسم بيكاسو، وكان يستخدم عبارات ليس من قاموس بيكاسو الذي تعرفه فرانسواز جيداً. كانت فرانسواز تنتظره على المقعد (المصطبة)، وحينما تقدم نحوها كان بيكاسو منشرحا للغاية ومبتسما،وبادرها بالقول:" ماذا؟ أمسرورة أنت برؤيتي؟ " فصفعته: خذ هذه قبلات السائق الطيبة! وأضافت قائلة: بأنّه حين يسافر في المرة القادمة لمدة ثلاثة أيام ويعود بعد شهر دون أن يكتب سطراً واحداً لها، فلن تكون موجودة هناك بانتظاره. ثم هرولت وأغلقت الباب على نفسها في غرفة ابنها كلود. كانت هذه الصفعة قد أحدثت أثرا ملائما. وكما تقول فرانسواز:" كان بابلو يردد طوعا لازمته المفضلة حول نوعيين من النساء: الإلهات والحصائر، وكنت أرى أني إلهة ولو بشكل مؤقت ". ورغم كل ما حدث فأن بيكاسو ودون أن يتحدث أي منهما بكلمة واحدة عن مشهد الليلة السابقة، قدم لها في صباح اليوم التالي الهدايا التي أتى بها من بولندا. وتتمثل الهدايا بمعطف كستنائي من الجلد، مزخرف بالأحمر والأزرق والأصفر ومبطن بجلد خروف أسود، مع معطف مماثل لكلود، لكنه مبطن بجلد خروف أبيض. عاد بيكاسو من جديد إلى ممارسة الرسم، وفرانسوازالى جانبه. ففي شتاء هذا العام بدأ بتنفيذ سلسلة من الرسوم الليتوغرافية التي عرفت فيما بعد بصور(فرانسواز بالمعطف البولندي) أوصور(فتاة بملابس بولندية). كما رسم عدداً من اللوحات الزيتية لها ولابنها كلود بالزي الشعبي البولندي. ورغم هذا فأن حالة من البرود بدأت تتسرب إلى علاقتهما العاطفية. كان هناك إحساس داخلي يدفع فرانسواز إلى التفكير بأن بابلو لم يعد كالسابق، وأن الكثير من رموزها السابقة بدأت تختفي من لغتة الفنية، ولاسيما بعد أن انشغل بتنفيذ سلسلة جديدة مـن الرسوم الليتوغرافية التـي تصورحكايات الفرسان،والتي استلهم عناصرها من تراث الفن الشعبي البولندي. وكانت رسوم هؤلاء الفرسان وأسلحتهم تلاحقها في أحلام اليقظة والمنام. وفي الوقت ذاته فأن التفاف (فرسان) حركة السلام حوله ومنذ عودته من بولندا، كان يثير قلقها وخوفها على ما تبقى من العشق القديم.
في الواقع إنّ منزل بيكاسو ومشغله في فالوريس،تحول بعد الرحلة البولندية إلى فناريساري أومحطة يتردد عليـها عدد مـن الشخصيات الثـقافية البولندية والإسبانية، ونشطاء حركة السلام الفرنسية. كما انشغل منذ أواخر سنة 1949 إلى جانب الشاعرين بول إيلوار ولويس آراغون بالأعداد للمؤتمر العالمي الأول لأنصار السلام في باريس، وكان عليه أن يصمم شعاراً لهذا المؤتمر. وفي هذا المجال هناك حكاية طريفة وذات دلالات توثيقية تقول تفاصيلها: أوائل شباط/فبراير1949 كان هو الموعد الأخير لبيكاسو في تنفيذ الشعار، وإرساله إلى لجنة المؤتمر. ولكن هذا الأمر لم يحدث حتى منتصف هذا الشهر، وعندئذ جاء لويس آراغون إلى مرسمه الباريسي في شارع (غران-أوغستن)، فوجد أن بيكاسو لم يفعل شيئا، وليس لديه فكرة محددة وواضحة، ولم يقرر بعد ماذا يرسم. ولكي ينقذ الموقف راح آراغون يبحث في ملفات رسوم بيكاسو الكرافيكية، فوقع اختياره على صورة حمامة. وهنا انتهت حيرة بيكاسو وقلقه، وأخذت هذه الصورة طريقها إلى المطبعة...". وفي الخامس والعشرين من آذار/مارس1949 ظهرت على جدران باريس وغيرها من العواصم الأوربية ملصقات (بوسترات) تعلن عن موعد افتتاح هذا المؤتمر. وبرزت في هذه الملصقات لأول مرة حمامة بيكاسو، والتي ما تزال تعرف بحمامة السلام، أو رمز السلام إلى يومنا هذا، أو تعويذة السلام المشؤومة (كما أطلقت عليها فرانسواز جيلو ذات مرة). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الحمامة هي الشكل الأصلي لحمامة السلام،وبعد ذلك أستخدمت أشكال أخرى من الحمائم وكان أغلبها من رسوم بيكاسو أوأشكال مزورة. وقد منح المؤتمر العالمي الثاني لأنصار السلام (عقد في وارشو عام 1950) بابلو بيكاسو جائزة السلام العالمي تثمينا لرسمه شعار السلام (الصدفة)،أو بالأحرى تثمينا لحمامته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس إسوة بصاحبها.
إنّ هذه الحمامة الشهيرة واحدة من صور الحمام التي رسمها بيكاسو في مطلع عام 1949 وحسب نموذج(موديل) حي. ويعتقد أنها صورة إحدى الحمامات الأربع التي حصل عليها بيكاسو من الرسام الفرنسي هنري ماتيس كهدية أوتمائم مباركة بعيد عودته سالما من بولندا. ويذكر أنّ بيكاسو كان ملحدا من حيث المبدأ،إلا أنه كان يؤمن ببعض الطقوس السحرية، ومصابا بالوساوس الإسبانية، وهذا ما تحدثت عنه بالتفصيل فرانسواز جيلو في مذكراتها. أمّا علاقته بالحمام ورسومها فتعود إلى فترة طفولته،حيث كان يقلد أشكال الحمام التي يرسمها والده المغرم بتربية الطيورالبيتية. كما أنّ بيكاسو رسم في عام 1943 مجموعة من صور الحمام (تخطيطات ورسوم بالحبر)، وقد بدأت تظهر أشكال الحمام كذلك في بعض إنتاجه الخزفي والزيتي والكرافيكي منذ سنة 1946.
بالوما حمامة طارت مع أمها:
تتحدث فرانسواز جيلو في مذكراتها بمرارة عن أحداث شهر نيسان/آبريل 1949. فقد كانت في الأيام الأخيرة من فترة حملها الثاني، بينما كان بابلو بيكاسو منشغلا جدا مع رفاقه من حركة أنصار(فرسان) السلام. ذهبت في السادس عشر من هذا الشهر إلى طبيبها الخاص، فتقول: " فحصني الطبي وأشار عليّ أن أعود بعد ثلاثة أيام،ولدى مرور الأيام الثلاثة، أمرني بالدخول فوراً إلى عيادة الولادة.وبما أن ذلك اليوم كان هو يوم 20 نيسان، وهو يوم افتتاح مؤتمر السلام في قاعة بلاييل بباريس، وبما أن بابلو سيكون منشغلا في المؤتمر، سألت الطبيب إذا كان ذلك ضروريا، فأكد لي: سوف أزرقك بإبرة لتسريع الولادة، في الوقت الذي أجبته بأنّ الدخول إلى العيادة يتم في وقت غير مناسب إطلاقا. فقال:هذا لا يعنيني.. إنّ الأمر ضروري، ولا جدوى من المناقشة ". بعدعودتها إلى البيت، قالت لبيكاسو ما قرره الطبيب، وسألته إذا كان في وسع مارسيل أنْ يأخذها إلى العيادة. فبدا عليه الانزعاج: " أنا بحاجة لمارسيل اليوم. أنت تعرفين تماماً أنّ علي الذهاب مبكراً إلى مؤتمر السلام، إضافة إلى مروري على المغني بول روبسون لاصطحابه إلى المؤتمر". قالت له بأنها تفهم ظروفه، لكن أمرها صعب أيضا، فرد عليها قائلا: " بما أنك بحاجة إلى سيارة، فلا بد من إيجاد حل آخر.لماذا لا تطلبين سيارة إسعاف؟ " كان مارسيل يقرأ،وقد رفع عينيه، وقال: " يمكننا اصطحابها إلى العيادة ونحن في طريقنا إلى المؤتمر". هز بيكاسو كتفيه وقال: " خذني أولا ثم عد لاصطحابها. فأنا لا أريد أن أصل متأخراً". لقد كان المؤتمر في الواقع يستأثر بكل قلقه واهتمامه، فهو لم يكن عضواً في الوفد الفرنسي أو الإسباني وإنّما كان شخصية عالمية. فوجوده في أروقة المؤتمر كان يعني الشيء الكثير، ولهذا كان له برنامجه الخاص. ابتدأ البرنامج قبيل افتتاح المؤتمر بالالتقاء بعدد من أعضاء الوفود الأوربية، ولاسيما بأعضاء الوفد البولندي الذين اتفقوا معه على أن يقوم هو بتقديم اقتراحهم إلى رئاسة المؤتمر حول تخصيص جائزة للسلام العالمي. وهذا ما حدث في اليوم الأخير من المؤتمر حيث حصل هذا الاقتراح على إجماع الحاضرين. وفي الساعة الثامنة من مساء هذا اليوم كان بيكاسو جالسا في قاعة بلاييل والى جانبيه إيلوار وآراغون. وبينما كان يتابع كلمة افتتاح المؤتمر باهتمام أقترب منه مارسيل ليخبره بولادة طفله الثاني. ورغم أنّه استقبل الخبر بفرح إلاّ أنّه لم يغادر القاعة بما في ذلك في فترة الاستراحة، واكتفى بمكالمة هاتفية مع العيادة مستعلما عن حالة فرانسواز وطفلها الجديد. وعندما علم بأنّ هذا الطفل هو أنثى أعطاها اسم بالوما (تعني حمامة بالإسبانية)، وكأنه أراد من وراء ذلك - على حد تعبير لويس آراغون- أن يملك حمامتين في آن واحد، واحدة للسلام،وأخرى للحب. ولكن هذه الحمامة الأخيرة طارت مع أمها بعد أربعة أعوام من هذا التاريخ، حينما أصبحت الحياة لا تطاق مع بابلو- كما قالت فرانسواز-. وبذلك انتهت علامات المحبة وشواهدها، حيث عادت مع طفليها إلى باريس تاركة بيكاسو لوحدته. وكحالته دائماً وبعد كل قطيعة أو عاصفة لم يبق وحيداً لفترة طويلة، فقد تعرف بعد أشهر قليلة على (جاكلين روك) التي أصبحت موديله الخاص وزوجته طيلة الأعوام العشرين الأخيرة من حيـاته. كان يرسمها والموت يداهمه في يوم الأحد8 نيسان/أبريل 1973.المصادر:
1- باللغة البولندية (مجموعة من الكتاب)Picasso w Polsce ، Krakow1979 ويحتوي على نصوص من مذكرات فرانسواز جيلو.
2- عدد من المجلات والصحف البولندية القديمة،وهي محفوظة في المكتبة الوطنية
في وارشو.
3 - فرانسوازجيلو:"حياتي مع بيكاسو "،ترجمة كميل داغر،حمص1996
4 - Ingo F. Walther.Pablo Picasso (1881-1973) Bonn 1986.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
العجائب
جحا -

لماذا لم تترك الامور للمتخصصين وتهتم بنفسك وتعمل الرياضة كي تكون في صحة جيد

إيلاف ليس جايخانة يا
ياسمين عرفان كركوكي -

من المؤسف جداً أن يسود الإنفلات ردود وتعليقات البعض على ماينشر على صفحات إيلاف ثقافات،كتعليق من سمّى نفسه جحا؛ وعليه العمل بضوابط لهكذا إنفلاتات لامسؤولة،فإيلاف ليس جايخانة لثرثرة السفهاء ونكاتهم السمجة السخيفة، في الوقت الذي لاتحظى المساهمات الجادة بالنزر اليسير من الإنصاف، بل ما أقل الإلتفات إلى المواضيع القيمة،أليس كذلك يا دراويش الطريقة الإيروتيكية؟!

موضوع نادر
عادل سعيد -

ألف شكرلصاحب هذاالموضوع ورغم اطلاعي على خفاياحياةبيكاسو المنشورةالاانني لم اعثرعلى مثل هذه التفاصيل المشوقةوالهامة

مقال جميل
نعوم -

شكراً لهذا التقديم للكتاب الذي اشتريته من مكتبة للكتب القديمة قبل 4 سنوات ولم أقرأه حتى الآن، أقصد كتاب "حياتي مع بيكاسو"، وها أنت تشجعني على قراءته لما احتواه من معلومات كثيرة عن طريقة عيش فنان كبير، وهذا المقال سأجعله بجانبي عندما أقرأ المقال. تحية ومحبة.

بيكاسو رسام مبهر
امين ميسوم -

ان رسم بيكاسو جميل ومبهر ولاكن بعض رسووماته مخيفة

البؤس لكسالى القراءة
د.فاضل سوداني -

من البؤس ان يكتب المعلق باسم جحا وتحت عنوان العجائب بهذه الطريقة مع الاسف عن موضوع موثق واستعراض مهم لكتاب مهم من خلاله يمكن لكسالى القراءة ان يتعلموا الكثير منه اما الذين يهتمون ببيكاسو فانهم يتمتعون حتما بلذة القراءة وساضيف ايضا رد الاخت ياسمين لانه مناسب لهكذا تعليق شكرا للاخ احمد حسين على هذا الجهد الرائع