الروس والاوروبيون في رواية دستويفسكي المقامر
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من الناحية الشكلية فان "المقامر" هي الرواية الوحيدة التي كتبها دوستويفسكي وصدرت(1866) بكتاب من دون ان تُنشر في مجلة ادبية كما هي الحال بالنسبة لرواياته الاخرى. وكانت الرواية مخاض " مقامرة " محضة كادت تؤدي بالاديب الكبير بالافلاس نهائيا وتحول من دون ظهور رواياته الكبرى الاخرى: الجريمة والعقاب والاخوة كارامازف والابله والمراهق.... فالمقامر كانت نتاج اتفاق قاسي فرضه الناشر ستيلوفسكي على دستويفسكي، يقضي بانه ولقاء اصدار كافة اعماله، قرضه مبلغا ماليا كان بأمس الحاجة له وان ينتهي من كتابة رواية باقل من تسعة اشهر، وبخلافه فانه سيصادر حقوق طبع اعماله لتسع سنوات واسترجاع السلفة. وشرع دستويفسكي بكتابة الرواية قبل شهر من انتهاء المهلة وربح " الجولة" فقط بفضل ظهور " الملكة" انا سنيتكينا(1813ـ1893) التي ساعدته على نسخ روايته وتنقيحها في الفترة المطلوبة. فكتب الرواية في غضون 26 يوما تلك الايام التي كانت ايضا منعطف في حياة دستويفسكي الابداعية. فقد تزوج من سنيتكينا التي ستظل رفيقة دربه وسكرتيرته الخاصة حتى اللحظات الاخيرة من حياته. الرواية بشخوصها وبنيتها وافكارها الرئيسية كانت قد اختمرت في ذهن الكاتب، ويبدو انها كانت بانتظار المخاض، الذي عجتلته المقامرة المريرة.
وتراهن العائلة ومن حولها على موت الجدة صاحبة الاطيان الذي تنتظر وصول خبره من موسكو ببرقية عاجلة لتقاسم الورث وحل المشاكل العالقة، ولكن العجوز لا البرقية تفاجئ الجميع بالوصول بنفسها لروليتنبورغ وتشرع بالمقامرة بثروتها لتخسرها.وتتمحور الرواية حول مصير الكسي ايفانوفيتش الذي يمارس القمار نزولا لرغبة بولينا ويحالفه الحظ في البداية بالربح، ولكنه يتحول في نهاية المطاف الى مقامر مدمن لا علاج له، اي كما وصفه المستر استلي "انسان ضائع" ويتضح في نهاية الرواية بانه يتنقل بين مدن القمار باوروبا وينحدر ليكون خادما، ويصدر به حكما بالحبس بسبب عدم ايفاءه بالتزامات مالية.فالادمان كان ملاذا من مأساة الحب غير الناجز، لخنق اصداءه بانفعالات الربح والخسارة, ويرصد الكثير من الباحثين في سيرة دستويفسكي الكثير من ملامح شخصيته والاحداث التي مرت به والناس الذين تعامل معهم في الرواية. فازدواجية الحب والحقد التي ميزت علاقة الكسي ايفانوفيتش ببولينا تذكر بعلاقة الحب المعقدة التي ربطت دستويفسكي بابوليناريا سوسلفا. وكان دستويفسكي ايضا قد ولع لمدة 10 سنوات حتى الادمان بالقمار مثل بطل روايته المقامر.
شخوص رواية المقامر، مثلهم مثل اغلبية شخوص روايات دستويفسكي الاخرى يقفون عند على حافة الهاوية. هاوية ما. الافلاس،او فقدان الصواب او التعرض لمرض نفسي الموت الفراق مع القريب او خسارة كل الممتلكات او الربح او اجترح مأثرة او اقتراف جريمة. دائما يقفون امام خيار تراجيدي. ومعظم تلك الشخصيات ايضا كما يقول ميخائيل باختين متعددة الاصوات. ففي اللحظة الواحدة تتقلب المشاعر والانفعالات ويدلي الانسان او يفعل ما لايخطط له ولم يفكر به. هذه الاجواء تهب عالم دستويفسكي وديناميكية تربك حتى القارئ وتحدث صدمه لديه. دستويفسكي يُشٌَرِح الروح الانسانية ليقدم لنا الاجزاء المتكونة منها التي تعوقها عن تحقيق حلم المسيح باقامة الجنة على الارض.
وينقسم شخوص رواية المقامر الى معسكرين. الاول يضم الشخصيات الروسية الرئيسية منها الكسي ايفانوفيتش وبولينا الكسندورفنا والجنرال والجدة انتونيدا فاسيليفنا واربع شخصيات ثانوية يكتفي بايراد اسماءها فقط. والمعسكر الاخر يضم شخصيات اوروبية فرنسية مودموزيل بلانشيه ورفيقها دي جريو والانجليزي المستر استلي والالماني البارون بورميلجيليم. ويعكس المعسكران توجهين حضاريين وثقافتين مختلفة بل ومتناقضة لايمكن ان تلتقي، ونظرة للامور تختلف حتى حينما يمارسان نفس الفعل. لكل منطلقه فيه. فالمال مثلا بالنسبة للروسي ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لنيل الحرية والتحكم بالمصير الشخصي، ومحاولة انقاذ الاخر، الغريب عنه وفي نهاية المطاف تحقيق الحلم الاثير لدى الروسي: تخليص العالم. الروسي يعيش بعواطفة منفعلا متأججا جامحا مخترقا للابواب من دون الاكتراث بالمراسيم والبروتوكولات، وهو مضياف كريم، حال ما تظهر لديه نقود سيدعو احدا ما لوليمة غداء، انه قليلا ما يفكر بالغد، وهو مستعد لالقاء نفسه من قمة جبل نزولا عند امر حبيته او ارتكاب الحماقات ليبعث السرور في قلبها، ويقع في حبائل الاوروبي الذي يتقن حبك المكائد، انه يعرف الاورووبي طيب ولكنه احمق.
ويدرج دستويفسكي في المعسكر الاوروبي من شخوص روايته خمس شخصيات تمثل طيف اكثر الامم نفوذا في عصره: الفرنسية والانجليزية والالمانية وهناك اشباح بولونية، او على الاقل الامم التي لها صلات على مستويات مختلفة بالامة الروسية والسلافية عموما. ونتلمس من خلال تفاعل الشخوص وصدامها ان لكل فرع ايضا خصوصيته في ذهنية الانسان الروسي. والاحكام التي تطلق على "الاوروبي" هي في واقع اصداء لميول اجتماعية وسياسية كانت سائدة في روسيا. فالفرنسي مغامر يبحث عن المال باية وسيلة كانت، وهو رغم الرأي الشائع عنه يمتيز فقط باناقة الشكل من دون يكون له محتوى ولا مضمون. المال بالنسبة له هدفا نهائيا ومن اجل يغامر ويخدع ويخون ويلبس الاقنعة ويحتال، لكنه متكبر ينظر للاخرين وخاصة للروس من الاعلى.ويلوح الالماني دقيق في حياته، انه يضحي بحاضره في سبيل تأمين مستقبل احفاده ويعيش لذلك في ظل قواعد لايحيد عنها تؤدي الى جفاف روحه. ويبدو الانجليزي غامض وبارد في مشاعره يحقق اهدافه بخفاء دون ان يبوح عنها، ولكنه يظهر الكرم والشهامة عندما يجد ذلك مناسبا.
وعموما فان الاراء والمواقف من الاوروبي والروسي تاتي على لسان شخوص الرواية ليس بالضرورة هي مواقف الكاتب، لكن المعروف عن دستويفسكي انه اصولي روسي اصبح محافظا متدينا، بعد الافراج عنه من سجن الاعمال الشاقة بسبب انتماءه لحلقة بيترشيفسكي الاشتراكية التي نشطت احدى جماعاتها لتحويلها الى منظمة فعل جماهيري لقلب نظام القيصر. وكان يؤمن بخصوصية الروح الروسية وبرسالته الروسي لانقاذ العالم لانه مزاج حضارتين. كان يؤمن ان الشعب الروسي تجسيدا للرب، فكان يدافع عنه ويدعو لتنقية صفوفه لايصاله بطريق السلام والعمل الى الجنة الموعودة. وكان دائما يبحث عن البديل للحضارة الغربية التي بالغت بميولها المادية.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شكرا
muhsin -شكرا جزيلا على هذه المقاله الجميله