عندما قال الشعر للجميع: لنْ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
I
علاقتي بأنسي الحاج تعود إلى سنوات الستينيات عندما كنت أقرأ ما أقع عليه من بعض كتاباته التي أشعرتني أنني أقرأ نبرة مختلفة عمّا كنّا متعوّدين أن نقرأ؛ نبرة تنتمي إلى روح غير سائدة، ورغم قلّة ما كان يصل، كان كافياً أن يقدح في صلب الإدراك شرارة روح... إشكالية لم أفهمها آنذاك! فظلّت كامنة في لاوعيي، ولم تعلُ إلا عندما جاءت اللحظة المناسبة؛ لحظة التمرّد الناضج في باريس السبعينيات، وكأنَّ لِما تيسّر لي في بغداد من كتاباته، قدرة على إيقاظ ما فيّ من تهيّؤ ثقافي كافٍ لقبول السوريالية، بل لفهم السوريالية
II
يقوم شعر أنسي الحاج، خصوصاً في "لن"، "الرأس المقطوع"، وإلى حدّ ما في "ماضي الأيام الآتية"، على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبيّتها البلاغية، فاتحاً تنسيقاً جديداً للكلمات من حيث نظام تتابعها النحوي. وكأن اللغة هي التي تحدّد موضوع القصيدة، وليس الموضوع الخارجي هو من يحدّد لغة القصيدة، وبالتالي موضوعها. وتكشف معظم قصائد الكتابَيْن الأولَيْن عن تجاور كلمات توليديّ في نحو الجملة وتركيبها، تتخلّص فيه الكلمات من المعنى المُعطى لها قاموسياً، محدثةً انزياحاً جديداً في الحقل الدلالي المطلوب لفهم الجملة:
"... أقرأ. كلّ شيءٍ في الهواء؛ وأنا. رحْ إلى الشطّ أيها الفكر، تحلحل. الحياة ذبابة ذبابة، طاقتي عينان رياضيّتان. أرفض العصر! لا تشدّوني! آخرون آخرون؛ أنا ظلّ، أريد هذا. مرحباً! أنت أيضاً؟ ليس هناك واحد؟" ("مجيء النقاب" من "لن").
وفي هذا التركيب النحوي syntax الجديد، لا يعود إدخال كلمة عامّيّة، مثلاً، من باب تفضيل على الفصحى، بل من باب مقصودٍ: إحداثُ لبس لغوي يضع "التعبير عن" على المحك، سامحاً لكلمة دارجة كـ"تحلحل" أن تكتسب، من خلال وجودها في فضاء الفصحى، معنى آخر أكثر عمقاً، بل معان إذا قمنا بدراسة اشتقاقية.
كما لا يبقى (كنتيجة شعرية لهذا الكسر الذي اجترحه أنسي الحاج آنذاك،في نحو الجملة وتركيبها) إمكانٌ يُصبح فيه شعرُ أنسي الحاج إيقاعَ قضيةٍ أيديولوجية مهما كانت نبيلةً وثوريةً وعادلةً، بل كان دائماً يتعدّاها. وبالفعل، في شعر أنسي الحاج ليس ثمة قصيدة واحدة تعبّر عن أي قضية ينتظر جمهورٌ تعبيراً شعرياً عنها، بل ليس ثمة قصيدة واحدة فيها صدى لما يجري من أحداث اجتماعية، سياسية... إلخ، رغم أن معالم الحياة العربية كلّها كانت تُجبر الشاعر خصوصاً على أن يجعل شعره صدىً لها، عن بُعد أو عن كثب، عبر رمز تراثي، أو تلميح سياسي، أو شعار معركة (كم من قصيدة، دوّخ شعراءٌ كبار رؤوسَهم بكتابتها، وفقدت بريقها في ما بعد بسبب إقحامهم فيها ألفاظ الـ"مع" والـ"ضدّ"). شعر أنسي الحاج هو هو وليس عن.
III
لقد استفاد أنسي الحاج من الكتابة الآلية وسرد الأحلام السوريالية قدر استفادته من تشطير الشعر الحرّ الفرنسي وقصيدة النثر الفرنسية. ومع أنه كتب قصائد نثر مكتوبة وفق النموذج الكلاسيكي على غرار ماكس جاكوب ("أسلوب"، "بحيرة" وعاد إليها في ديوانه الأخير "الوليمة")، إلا أنه فضّل أن يكون أكثر مواكبة لعصرية قصيدة النثر الفرنسية (ميشو وشار) ومتجاوزاً النموذج المؤسّس (بودلير وجاكوب)، وذلك باندماج نثري للكتلة والبيت الحرّ. فغالباً ما نجد القصيدة في شعره، وكأنها أبيات مشطّرة على طريقة الشعر الحر، وفي الوقت ذاته، جمل وفقرات.
لم يُرد أنسي الحاج، في الحقيقة، اتّباع طريقة كلاسيكية معطاة لقصيدة النثر. فالتقطيع، عنده، تقطيع سرديّ، في الأساس، مع الحفاظ، في آن واحد، على المعنيين للكلمة الفرنسية ligne التي تدلّ في الشعر الحرّ: بيت، وفي النثر: سطر. وهكذا تصبح الوقفة ثم الذهاب إلى رأس السطر، أشبه ببداية فقرة جديدة في عمل نثري طويل مقطّع إلى فقرات.
فبينما بقيت قصيدة الماغوط النثرية، مثلاً، أسيرة تشطير الشعر الحرّ العربي مسكونة بشبح تفعيلة ما وأمينة لتقطيع الشعر الحرّ، تحرّرت قصيدة الحاج النثرية من الشكل الثابت للتشطير ومن السرد الملازم لقصيدة الكتلة النثرية. قصيدة الماغوط، وبالتالي معظم ما يسمّى قصيدة النثر العربية، نثر نبريّ يعتني قبل كلّ شيء بإيقاع التقطيع المستخدم في شعر التفعيلة (رغم أنها لاتخضع لقوانين التفعيلة)، بينما قصيدة الحاج نثرٌ فَقَريٌّ حيث "السطر" بمفهومَيْه حاضر: ظاهره تجريد مكثف، وباطنه سرد طويل:
"نزلتُ وانحنيتُ على الأرض.
قرّرتُ عقرها بمخيّلتي" ("الثأر" من "لن")
أو:
"ذلك العهد يدُ ماموت لم تكن ظَهَرت" ("ماموت وشعتقات" من "الرأس المقطوع")
أو:
"نَعِسَ العالمُ ونام.
خرَجَ العاشقُ من السيف" ("الحياة المقبلة" في "الرأس المقطوع")
وأنسي الحاج أكثر الشعراء تحرّراً، في معظم قصائده، من النعت الذي يعتبره بعض النقّاد الأوروبيين من عيوب كتلة قصيدة النثر. ذلك أن النعت كلب مشرّد يدخل من الباب الخلفيّ بحثاً عن فاعلٍ... مفعولٍ به، عن قصدٍ ينخر فيه. لذا نرى أنسي الحاج، اللاعب في شعاع اللاغرضيّة، غالباً ما كان يقفل الجملة بإحكام متوتّر وإيجاز.
IV
إن الرسالة التحرّرية لشعر أنسي الحاج الخالي من أي تلميح أيديولوجي، تكمن، من جهة، في أنه وضع توجّهاً شعرياً كلاسيكيّ المنحى كان سائداً، على الرفِّ؛ مرّةً وإلى الأبد. ومن الجهة الأخرى، في قدرته على زجّ اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن إلى صور تسمعها العين.
إن غياب الأيديولوجيا ورموزها في شعر أنسي الحاج، ساعد عدداً كبيراً من الشباب على تجنّب الشعارات في شعرهم، والتركيز أكثر على وظيفة فكرهم الحقيقية، بل بتنا نرى، في الآونة الأخيرة، شعراً أنثوياً متخلّصاً من نحو الذكورية، وخطاب البلاغة السلطوية. يجب أن تشكر كل شاعرة عربية اليوم أنسي الحاج، محمد الماغوط، وتراجم مجلة شعر لهذا التمهيد اللغوي الفالت (لكنهجوهري لهن) الذي ساعدهن على خرق التركيبة القرآنية للغة وبلاغتها الكلاسيكية، دافعا إياهن إلى شاطئ الآخر حيث كل جملة، حتى لوكانتفي تركيبة نحوية خاطئة،تصبح هي بالذاتالتعبير الأنقى عن لغة قبيلة الأحاسيس الحقيقية، والإيقاع الأسمى لفحيح الجسد.
لكن... لا أعني بغياب الوعي الأيديولوجي، أن أنسي الحاج لم يكترث لما كان يحدث في العالم من أحداث تحتاج إلى تحليل وموقف. على العكس، كان نثره الأسبوعي في ملحق "النهار" تحت عنوان "كلمات كلمات كلمات"، يبيّن إلى أي مدى كان المجتمع اللبناني، وبالتالي العربي، يحقّق الحرية أو لا. ذلك أن أنسي الحاج، بقدر ما كانت شاعريّته تتبلور قصائد نموذجية خارجة على المألوف العربي، كان هو مُلقى في خضم الحياة، في معمعان الحرية اللبنانية التي كانت تصل الجوار العربي هواء نقيّاً يَعِدُ بألف مستقبل مضيء. بل كان يعرّض نفسه للخطر بسبب مقالات جريئة وواضحة، كتلك التي قرأها في طرابلس دفاعاً عن المرأة: "والرجل ما دوره؟ على الرجل أدوار لا دور واحد. عليه أن يحرّض المرأة على الحرية، وعليه أن يكون لائقاً بها متى تحرّرت، وعليه، وهذا هو الأهم، أن يكون هو نفسه حراً". كم أودّ أن أرى، ذات يوم، ناقداً نزيهاً، غير متحيّز، يقوم بمقارنة بين مقالات أنسي الحاج في ملحق "النهار" وبين ما كان يكتبه، مثلاً، أدونيس في "لسان الحال". وكم أتساءل: هل يجرؤ أدونيس على إعادة نشر مقالاته المتراكمة في "لسان الحال"في كتاب دون أن يكشف عن حقيقته كديماغوجي يتغوغأ وفق العوام. أنسي الحاج قال كلمته، بوضوح، في الوقت المطلوب، وليس عشرات السنين في ما بعد، أي عندما أصبح الادّعاء بكل شيء بضاعةَ الجميع.
في الحقيقة، إن أنسي الحاج استطاع أن ينجز ما لم يستطعه جورج حنين في أربعينيات القرن الماضي. إذ حنين، على عكس الحاج، لم يكتب بالعربية وإنما بالفرنسية. لكنّ كليهما شاعر متميّز، وكليهما كاتبُ مقال صحافي ذي أسلوب جديد لم يُعهد من قبل، طبعاً كلّ منهما بحسب الواقع الذي يكتب فيه واللغة التي يتقنها والمادة التي يتناولها. لكنْ، كلاهما يتجاوز الثنائيات المميتة، خصوصاً ثنائية شرق - غرب. إذ كلاهما ينطلق من موقف كونيّ حقيقيّ بأن الغرب ليس كموقع جغرافي، وإنما محور لتمرّدات الروح الإنسانية كلّها من أجل الحرية والشعر وحقّ الفرد في أن يكون صوته هو لا صوت سيّد ما.
يكفي أن نقوم بمقارنة أسلوبية بين مقالات الحاج الأسبوعية في ملحق "النهار" ومقالات حنين التي كان يكتبها أسبوعياً في الصحافة الفرنسية، حتى نرى كم من تشابه بينهما في تغطيتهما لحدث، لكتاب، لفيلم أو ظاهرة أدبية بلغة ثاقبة ودعابة سوداء. ومثلما اليوم ما إن نقرأ مقالات جورج حنين التي كان يكتبها في خمسينيات القرن الماضي، حتى نشم هواء الحرب الباردة وكأننا في شتائها الرمادي وشمسها المشرقة، فإننا نشعر كذلك، حين نقرأ الجزء الأول من "كلمات كلمات كلمات"، بنبض السيرورة الطبيعية التي كان يمرّ فيها لبنان: الحرية، حركة المطابع من أجل التنوير، الرقابة بنموذجها الطبيعي وليس الأيديولوجي القمعي كاليوم؛ باختصار: لبنان ماضي الأيّام الآنـ ـيّة!
شعر أنسي الحاج ومقالاته في ملحق "النهار" واحد يكمل الآخر. ذلك أنه عندما حلّت حقبة "مصرع الوضوح"، وانتصر سوء استعمال اللغة، وبينما كان "أولئك" يحصدون الجوائزَ وينحنون أمام تصفيق جمهور الرعاع، قرّر أنسي الحاج أن يصامت اللغة؛ أن يمنح كلماته فرصة التأمّل والصمت كي تعود أقوى في لحظة الكلام. صمت انصهر فيه الشعر والنثر خواتمَ يدمغ بها عالماً بلا أخلاق، شظايا بالروح النوفاليسيّة نفسها، تتوهّج في أعالي الروح، ما وراء الأجناس الأدبية والهُوّيات الطائفيّة.
كتبت خصيصا لمجلة "نقد" ونشرت في عددها الأخير المخصص لأنسي الحاج.
التعليقات
روعة
أحمد المنور -روعة يا عبدالقادر..أدونيس يستحق اكثر من ذلك..دراسة شرسة تليق بشراسة انسي الحاج
ولكن
جمال مصطفى -تحليل الجنابي صحيح وشبه دقيق ولكنه غير دقيق تماما لأنه ( اي التحليل )يتناسى أو يمر مرورا خاطفا ً على انعطافة انسي الروحية التي بدأتفي ماضي الأيام الآتية ثم افصح عنها في ما بعد افصاحا متصاعداً ولم يلتفت الى الوراء لكن النقد ومنه ما يكتبه الجنابي لا يسبح إلا بحمد اسفار انسي الحاج الأولى ويصمت عما بعدها . ولكن انسي الحاج في نضوج متصاعد( النضوج هنا اشمل من الشعريوأرحب).في الحقيقة لقد لعبت اسفار انسي الأولى دورا تثويريا أدى المطلوب منه.ولكن اسفار انسي الحاج ما بعد ماضي الأيام الآتية لم تقرأ جيدا. هنا يجب ان يعمل النقد فإما انها رفيعة لا يمكن الأقتراب منها إلا بنقائية تكاد تنهزم امام تمرغ بدرجات في وحل حاضر لا يسمح بالبقع فقط ولا يرضى إلا بانغماس كامل أو انها اقل قيمة مما سبقها.انسي الحاج هو الآن قديس والقديس لا يصنع قديسين بينما كان انسي الأول قائدا حربيا ولذلك استطاع ان يقنع جيشا من المحاربين بج بهم سد الأجترارات التي دامت مئات السنين
مقالة مذهلة
حسين -مقالة تضع عبد القادر الجنابي في الطليعة هناك كلمات وجمل يجب أن تكتب بماء الذهب، مثلا: يجب أن تشكر كل شاعرة عربية اليوم أنسي الحاج، محمد الماغوط،...لهذا التمهيد اللغوي الفالت .. الذي ساعدهن على خرق التركيبة القرآنية للغة وبلاغتها الكلاسيكية، دافعا إياهن إلى شاطئ الآخر حيث كل جملة، حتى لو كانت في تركيبة نحوية خاطئة، تصبح هي بالذات التعبير الأنقى عن لغة قبيلة الأحاسيس الحقيقية، والإيقاع الأسمى لفحيح الجسد. سلمت يداك وضاء نور قلبك
روعة
جاسم العزاوي -روعة يا عبد القادر..لا أحد يعرف شعر انسي اكثر منك..وكل التحية لمجلة نقد وللشاعرة المبدعة زينب عساف والشاعر ماهر شرف الدين