مقاطع من جحيم رامبو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة وتقديم: حسن ملهبي
- رامبو متمردا أوروبيا:
في كراس "فصل في الجحيم" كما في "رسائل الرائي" و"المركب السكران"، ثمة ما يستحق الاهتمام والتقدير، فأول ما يستحق التقدير -وهذا أمر لا يجب إغفاله - أن ذلك الشعر وتلك الرؤية هي لشاب يافع متمرد ولا امتثالي، كان يقرأ بنهم وحماس لا يخلوان من ذكاء، ويكتب -خاصة في قصائده النثرية - بجريان متدفق وتداع متحرر (هذيانات). أما ما يستحق الاهتمام فهو أن تلك القصائد كانت تحمل بشائر ميلاد شاعر سيصل إذا امتد به سن الكتابة والنضج إلى أن يكون كاتبا ذا خبرة ثرية ورؤية عميقة (وهو ما كان ?ـرلين يحاول أن يثبته وينبه إليه)، لكن رامبو ولأسباب لا نعرفها (قد نخمنها) قرر أن يهجر أرض الكتابة، بقرار قد يكون الأهم، من حيث الدلالات الرمزية، في تاريخ الإبداع. وكل ما يمكن أن يكون قد كتبه بعد ذلك القرار لم يطرح منه للتداول سوى ما نعرفه: "رسائل عدن".. وهي رسائل عائلية لبقة، ليس فيها كثير من العواطف والحنين، بها فقط قليل من الشكوى من الحرارة المرتفعة وآلام الركبة!
مات رامبو بعد ذلك (بسبب تلك الركبة) وهو يعرف أن ذلك الكراس الصغير قد وجد أثناء غيابه اهتماما وإعجابا من بعض الشعراء والنقاد والمثقفين... مات وهو لا يعرف أن "جحيما" أكبر من جحيمه كثيرا ستبدأ فصوله عند مطالع قرن الحداثة، مات وهو لا يعرف أن ذلك الشاعر المتسكع الذي كتب "آه فليتصدع هيكلي، آه فلأغرق في البحر"، سيصير مدرسة عملاقة لها تلاميذ وأتباع ومريدون، من السريالية حتى الصوفية! الذنب حتما ليس ذنب أحد (وهو طبعا ذنب جميل لا ينتظر الغفران)، كما أن الثقافة - أو الحداثة - الأوروبية قابلة لإنتاج واستيعاب أشياء من هذا القبيل...
لقد تم الاعتراف برامبو الأسطوري من داخل مقامين اثنين : من داخل ما كتبه وما حاول الاشتغال عليه كمقام ثان، أما المقام الأول ـ وهو أساسي في ذلك الاعتراف ـ فكان تلك الشجاعة التي امتلكها بإطلاق رصاصة الرحمة على كائن هش وهائم اسمه الشاعر بداخله... فحلقت الفكرة حتى هيمنت ظلال جناحيها، وصارت استيهاما خطيرا لدى شعراء ومبدعين متمردين ولا امتثاليين - أو إنهم يعتقدون كذلك -يعيشون في عالم صار لا يرحم ولا يصغي لهشاشتهم، عالم كافكاوي تسوده أنظمة سياسية وأخلاقية واجتماعية قاسية، أنظمة سماها البعض أحيانا "سُلط الرعب". من هنا جاءوا غالبا إلى رامبو، لكن رصاصة الرحمة لم يعد يطلقها أحد بعده!
- رامبو المشرقي:
ما حدث - أو ما يحدث - عندما تعرفت اللغة العربية إلى رامبو هو أن تصدعات كثيرة أصابت الهيكل... (للإشارة فإن بعض ترجماته إلى العربية هي بحق متميزة بمقاييس كبيرة) وتمت ترجمة، ليس شعره وحده، بل كل التاريخ الأسطوري الذي نسج حول شعره وشخصه، وتحول بشكل غريب، وبدافع من مؤسسات ثقافية مؤثرة ادعت بأنها أكثر وأجدر من يعرفه، إلى أب روحي ونموذج كتابي، على من أراد أن يكون "حداثيا" أن يتمثله وأحيانا أن يتماهى معه. لقد تم ترسيخ "حقائق" عديدة حتى دون وقفات تأمل في ماهية تلك الحقائق، وتمت الترجمة في غلاف من الاحتفالـية دون أدنى تحلـيل لسياقات كتاباته في زمنها: ما قرأه وما تأثر به وما أثر فيه. فهـو - حسب ما هو متداول حوله في اللغة التي كتب بها - لم يكن أبدا مصبوغا بالأحمر، ولم يكن يسعى لأي نوع من الحلول الإلهي. وهو أيضا، من خلال شعره، لم يكن ذا عبقرية لا نظير لها في الكون (جوهر "فصل في الجحيم" لا ينفصل كثيرا عن تأثر رامبو بكتاب "أزهار الشر" وهيغو و"الكتاب المقدس" والمناخ الثقافي السائد آنذاك)، بل كان شاعرا مهما وثريا، لكن ثراءه هذا لا يلغي ـ وما ينبغي له ـ أي شاعر آخر يستحق أن يوصف بذلك.
فهو حتى وإن كتب " متى سنذهب للاحتفاء بميلاد العمل الجديد..." فإن ذلك لا ينفصل عن ذلك الحنين المهيمن على شعره والمتمثل في حلمه بالعودة إلى زمن أسلافه البدائيين المتحلقين حول النار. وهو حتى وإن كتب "أرى مسجدا مكان المصنع" فإن ذلك لا يخلو من تلك النظرة الإكزوتيكية التي طبعت كثيرا من الكتابات الغربية، منذ غوته، والمتمثلة في الانبهار بذلك الشرق الساحر الذي ما زال يكتنفه كثير من الغموض والجمال والأسرار. إنه ذلك الموقف الصارخ من العالم، في ظل واقع أوروبا القرن 19، والذي عبر عنه بودلير بعمق في قصيدته النثرية "في أي مكان خارج العالم".
إن حديثا شائعا - كثيرا ما كرسته مجموعة من التنظيرات النقدية - حول أن رامبو إن لم يكن شاعرا فريدا، فهو على الأقل ضلع في ثالوث شعري هو بمثابة الخالق لما جاء بعده من شعر، ويتعلق الأمر، حسب تلك التنظيرات، برامبو وبودلير ومالارميه، وهذا أمر يستحق وقفة صغيرة وتحليلا بسيطا لمجريات الأمور :
لا مجال مؤكدا للربط بين الشعراء الثلاثة بهذا الشكل "القدسي"، فبودلير على الأقل لم يقرأ للاثنين الآخرين ولم يتأثر أو يعجب بهما، بل كان له جحيمه الخاص أو ربما فردوسه! وأثره واضح على الاثنين كل بطريقته الخاصة. أما مالارميه الذي "مجد" بودلير، فقد كان يعمل في محترفه الخاص طامحا لتحقيق شيء من الكيمياء الشعرية التي لم تكتمل أبدا في ذلك "الكتاب" الذي كان يحلم بأن يكون هو "أثره". أما رامبو الذي "قدس" بودلير فإن شعره، إضافة إلى ما ذكر سابقا، يمثل نوعا ما "الوحشي" في الكتابة، إنه شعر البراري التي لم تطلها بعد تنقيحات البستاني!
لكن، وكما نعرف، فإن تصورات الحداثة العربية عندما أرادت ترجمة الشعر العالمي، فقد آثرت أن يكون رامبو في القمة، الشاعر الوحيد - حسب علمي - الذي ترجمت أعماله الكاملة... (وشخصيا أعتقد أن من يستحق ذلك أولا، وليس أخيرا، هو بودلير الذي أتمنى أن تتاح فرصة الحديث عنه في مناسبة أخرى وفي سياق آخر) فالمتحكم في مزاجنا الثقافي عامة ليس مؤسسات أو دور نشر تؤمن بالحد الأدنى من الحياد المعرفي الذي ينقل ويترجم كل ما له أهمية وتأثير في التلقي والتداول، بل المتحكم غالبا هو مزاج ثقافي يدعي بأنه مؤسسة رصينة وصلبة، يصل بها التضخم النرجسي أحيانا إلى حد اعتبار نفسها أرصن وأصلب حتى من البنى الثقافية التي تترجم عنها.
في هذا السياق السريع أردت أن أتحدث عن رامبو الذي أحبه، وهذه بعض المقاطع من "فصل في الجحيم" ومقتطف من إحدى رسائله، فيها شيء من التذكير وبعض من الاحتفاء وقليل من الإضاءة، في ترجمة لا تطمح لأكثر من متعة ممارسة الخيانة بمسوغات أخلاقية...
مقاطع مختارة
(1)
في ما مضى، إن كنت أذكر، كانت حياتي مأدبة تتفتح فيها كل القلوب، ويسيل فيها كل النبيذ.
ذات مساء، أجلست الجمال على ركبتي - فوجدته مريرا. - وأهنته.
لقد تسلحت ضد العدالة.
لقد هربت. أيتها الساحرات، أيها البؤس، أيها الحقد، أنتم من اؤتمنتم على كنزي!
تمكنت أن أبدد بداخلي كل أمل إنساني. وأمام كل فرحة بخنقه وثبت وثبة الحيوان الشرس الصامتة.
ناديت الجلادين لأعض، هالكا، أطراف بنادقهم. ناديت الكوارث، لأختنق بالرمل والدم. وكان الشقاء إلهي. تمددت في الوحل، تجففت بهواء الجريمة وراوغت في جنون.
والربيع، لقد حمل إلي ضحكة المعتوه المرعبة. وها أنا أخيرا قد وجدت نفسي أجهش بالزفرة(2) الأخيرة! توهمت البحث عن مفتاح المأدبة القديمة، حيث كنت قد أستعيد شهيتي.
المحبة(3) هي هذا المفتاح. أستلهم هذا لأني حتما قد حلمت!
" ستبقى ضبعا(4)، الخ."، يصرخ الشيطان الذي كللني بخشخاشه(5) الجميل. "التحق بالموت بكل شهواتك، بأنانيتك وبكل الخطايا المميتة." (...)
دم فاسد
ورثت عن أسلافي الغاليين العين الزرقاء البيضاء، الأفق الضيق والرعونة في القتال. أجد ثيابي بربرية مثل ثيابهم، لكنني لا أدهن شعري.
الغاليون، كانوا يسلخون الوحوش، يحرقون الأعشاب، كانوا الأكثر حماقة في زمانهم.
ورثت عنهم: عبادة الأوثان وحب التدنيس، كل المساوئ(6)، الغضب والفجور، - رائع هو الفجور- وخاصة الكذب والكسل.
ترعبني كل المهن، معلمون وعمال، كلهم فلاحون، واطئون. اليد حاملة الريشة تتساوى مع اليد التي تدفع العربة. - يا له من قرن يدويrlm;! - لن أملك أبدا يدي(7).
(...) لكن من جعل لغتي خؤونة، حتى أنها ظلت تقود وتحمي حتى الآن كسلي؟ فدون أن أستخدم حتى جسدي لأحيا، وأكثر عطالة من الضفدع، عشت في كل مكان. (...)
الدم الوثني(8) يعود! الروح قريبة، لماذا لا يمد لي المسيح يده، مانحا لنفسي رفعتها وحريتها. للأسف، فالإنجيل قد مضى (...)
بشراهة أنتظر الرب. فأنا من سلالة واطئة منذ الأبد.
ها أنا على الشاطئ الأرموريكي. فلتتوقد المدن في المساء. لقد تم نهاري وسأغادر أوروبا. سيلفح هواء البحر رئتي وستلوحني المناخات المفقودة. سأسبح، سأدوس العشب، سأصطاد، سأدخن خصوصا وسأشرب كحولا قويا مثل معدن يغلي، كما كان يفعل أسلافي متحلقين حول النار.
سأعود، بأعضاء من حديد، ببشرة سمراء وبعين متوهجة: إن رأوا قناعي سيحكمون بأني من سلالة قوية. سيكون لدي ذهب: سأكون متبطلا وشرسا. سأخالط الساسة وسترعى النساء توحشاتي المعطوبة العائدة من بلاد حارة. سأعيش خلاصي.
أما الآن، فأنا تحت وطأة اللعنة، يرعبني الوطن. لا شيء أفضل من نومة سكرانة على بساط من الرمل. ليل الجحيم
تجرعت من السموم جرعات. (...) أحشائي تتمزق، السم يسري في أعضائي فتتصلب، يشوهني، يطمرني. أموت ظمأ، أختنق، أعجز عن الصراخ. إنه الجحيم، العقاب الأبدي! انظروا إلى النار كم تتأجج متعاظمة، إني أحترق كما ينبغي. هيا، أيها الشيطان!
(...) إنها الحياة ما تزال! إن كانت اللعنة أبدية، فالذي يرغب في تقطيع أوصاله هو حتما ملعون، أليس كذلك؟ أعتقد نفسي في الجحيم، إذن أنا فيه موجود. إنه قضاء المسيحية. إذ أنني أسير معموديتي. والداي، لقد صنعتما شقائي.. وشقاءكما أيضا. يا للمسكينين البريئين! فالجحيم لا تصيب نيرانه الوثنيين. - إنها الحياة ما تزال!
(...) هاهو ذا! ساعة الحياة توقفت عقاربها قبل قليل، وأنا لم أعد قط في العالم. - التعاليم الإلهية حقيقية، فالجحيم يقينا في الأسفل - والسماء في الأعلى - انخطاف، كوابيس، نوم في وكنات من نار.
(...) أهلك تعبا. إنه القبر، أندحر فيه تجاه الديدان، يا للرعب! تريدني أن أتحلل، بتأثير من سحرك، أيها الشيطان الألعبان. ألتمس ذلك! طعنة من مذراتك، قطرة من النار.
آه، أن أصعد ثانية إلى الحياة! أن ترى عيناي إلى تشوهاتنا. وهذا السم، هذه القبلة التي لألف مرة ملعونة! ضعفي، قسوة العالم! الرحمة إلهي، خبئني، بالكاد أستطيع! فأنا مختبئ ولست كذلك.
إنها النار التي تتأجج متعاظمة مع نزيلها الأبدي. هذيانات (عذراء مجنونة)(9)
-البعل الجهنمي -
لنستمع لاعتراف إحدى رفيقات الجحيم :
" أيها البعل السماوي، يا إلهي، لا تصدد اعترافا لأكثر خادماتك حزنا. فأنا ضائعة، سادرة، مكللة بالعار. يا لحياتي!
غفرانك أيها السيد الإله! غفرانك، لم تعد ثمة سوى دموع، ودموع أيضا في ما بعد!
في ما بعد، سأعرف البعل السماوي... فقد ولدت خاضعة له. وبإمكان الآخر أن يصرعني الآن!
منذ الآن، ها أنا أسفل العالم! آه يا صديقاتي... لا، لستن صديقاتي... كم هذا غبي أن أفكر بمثل هذا الدهق والهذيان.
أتألم، أصرخ. حقا إني أتألم. ومع ذلك فأنا أستحق كل هذا، أنا المثقلة بدناءة أكثر القلوب بعثا على الاحتقار.
(...) أنا أسيرة البعل الجهنمي، ذاك الذي ضيع العذارى المجنونات. إنه ذاك الشيطان.هو حتما ليس شبحا، حتما ليس طيفا. لكني أنا التي ضيعت حكمتها، أنا التي مت لعينة في العالم، لن أحظى بالقتل! كيف أصف هذا، أنا التي تاهت كلماتي عن لساني. أنا خائفة وأبكي في مأتمي... قليلا من البرد والسلام إن شئت، قليلا إن شئت حقا ذلك يا إلهي." صباح
(...) ومع ذلك أعتقد اليوم بأني انتهيت من سرد قصة جحيمي. لقد كان حقا الجحيم، الجحيم القديم، ذاك الذي فتح ابن الإنسان(10) أبوابه.
في نفس الصحراء، في نفس الليل، تستيقظ دوما عيناي المتعبتان على النجمة الفضية، دوما، دون أن يتأثر لذلك ملوك الحياة، هؤلاء المجوس(11) الثلاثة: القلب، الروح، العقل. متى سنذهب، عبر الطرق الرملية والجبال، للاحتفاء بميلاد العمل الجديد، الحكمة الجديدة، هروب الطغاة والشياطين ونهاية زمن الخرافة، للاحتفال - سباقين! -بالميلاد على الأرض.
أنشودة السماء، مسيرة الشعوب! عبيدا، فلنعمل على ألا نلعن الحياة. وداع
حل الخريف! لكن لماذا الندم على شمس أبدية إن كنا قد تهيئنا لاكتشاف ضياء إلهي، بعيدا عن ناس يموتون على مر الفصول.
الخريف. قاربنا المعتلي غيوما راسخة يستدير نحو مرفأ الشقاء، حيث المدينة العملاقة بسمائها المبقعة بالوحل والنار. آه، الأسمال الرثة، الخبز المبلل بالمطر، الثمالة، هذا الحب الذي لألف مرة ظل يصلبني! أبدا لن تنتهي هذه السعلاة(12)، ملكة ملايين الأرواح والأجساد التي ستحاكم! أراني ثانية هناك، بجسد ينخره الوحل والطاعون، يطفر بديدان تجوس في شعري وفي إبطي، بديدان أكبر تدب في قلبي، أراني هناك ممددا بين غرباء بلا ملامح تحجرت أحاسيسهم... كان بالإمكان أن أموت هناك... يا للخلاص المرعب! أنا أمتهن البؤس.
وأرتاب من الشتاء، لأنه فصل الرفاه(13)! مقطع من جحيم عدن!
(من رسالة إلى أمه بتاريخ 28 سبتمبر 1885) " (...) لن تتصوروا أبدا هذا المكان، فليس ثمة شجرة هنا، ولو متيبسة، لا أعشاب، ولا حتى حفنة تراب. عدن قائمة على فوهة بركان خامد يدفنه ماء البحر والرمال. لا نرى هنا ولا نلمس أبدا سوى الحمم والرمل التي لا تنبت شيئا. كل ما يحيط بالمكان محض صحراء جافة. لكن المرتفعات هنا تمنع انتشار الهواء، فنشوى في قعر هذه الحفرة كما لو كنا داخل فرن لشيّ الطين... على المرء أن يكون حقا مجبرا على العمل من أجل خبز يومه، لكي يشتغل في جحيم مثل هذا." - هوامش المترجم :
(1)- نصوص " فصل في الجحيم" تمثل نوعا من اليوميات للتأريخ لنزول متخيل إلى أعماق الجحيم، بكل الحمولات الممكنة للكلمة: فهو العالم السفلي الميثولوجي، وهو الجحيم - العقاب كما تصوره المسيحية، وهو كذلك الجحيم - الخلاص الذي أسس له الملاعين ليكونوا رفقة الشيطان، إله المعرفة... وهو أيضا جحيم الخيميائيين الذين يبحثون عن المعرفة والسعادة وسط أفرانهم المتوهجة بالنار. وبهذا كان فصل في الجحيم يوميات لنزول وبحث عميق عن جوهر السعادة والشقاء، واعتبره الكثيرون بمثابة رسالة وداع أخيرة.. رسالة قابلة لتأويلات عديدة، هل هو وداع للجحيم أم للشعر أم للعائلة المقدسة؟ أم هل هو ببساطة وداع للحياة من منظور شعري؟
(2)- في النص الفرنسي Couac، والكلمة تستعمل في الأصل لتعبير عن الأخطاء أو النشاز الذي يرتكبه العازفون الموسيقيون، وأحيانا حتى المغنون. أما في الاستعمال الدارج فيقصد بها الزفرة الأخيرة أو الموت. واستخدامها عند رامبو يتم بالمعنى الثاني، مع الاقتراب من المعنى الأول إذا نحن اعتبرناه النشاز الأخير أو الخروج الأخير عن التناغم الجماعي الذي يطبع عادة الولائم القديمة.
(3)- بالفرنسية chariteacute;، والكلمة إنجيلية تنبني عليها إحدى أهم قيم الفضيلة المسيحية. وتنطوي ضمنيا على معاني المحبة والإحسان والرأفة... وبعيدا عن تداولها الإنجيلي، تنحدر الكلمة من الميثولوجيا الإغريقية: فالكاريات Les Charites هن إلهات الإحسان والجمال، بنات زيوس، ويعرفن غالبا باسمهن الروماني غراشيا Les Gracirc;ces، ولا يغيب هنا طبعا ما تعنيه كلمة gracirc;ce الفرنسية من نعمة وفضيلة وعطف.
(4)- الخطوات الأولى للنزول إلى الجحيم تسبقها هذه اللعنة، بكل ما تحمله كلمة ضبع من رموز: منبوذ، مرعب، آكل جيفة، ساكن مقابر، وأيضا الحيوان الذي يدجنه - في بعض الميثولوجيات الشرقية - السحرة وحفارو القبور.
(5)- الخشخاش هذه النبتة ذات الأزهار الحمراء هي نبتة رمزية بامتياز، فمنها يستخرج الأفيون، ذلك المخدر الذي صنع الفنانون والشعراء مجده (بودلير، شكسبير...) كرديف للنوم والطمأنينة، وأيضا للخلاص بتجرع السموم. ورامبو هنا قبل نزوله إلى الجحيم يتلقى وصية الشيطان (التحق بالموت بكل شهواتك...) بعد أن كلله بتاج من الخشخاش، وفي هذا استحضار للرؤية الخيميائية القديمة التي كانت أحيانا تسمي الحجر السحري الأحمر بخشخاش الفلاسفة، لقرابتهما في اللون وفي التأثير.
(6)-تنطوي كلمة Vice الفرنسية على مدلولات كثيرة، وهي بصفة عامة تعني العيب أو الخلل الأخلاقي أو الجسدي، أي العيب في الجسم أو العيب في النفس. وترد عند رامبو بالمعنى الأخلاقي في بعد شعري تمردي وبنوع من المسيحية المضادة.
(7)- تتجاور في هذا المقطع أفكار على درجة متوترة من التناقض. فيد الشاعر (الفنان) التي تحمل الريشة، لتحمل بها الأنوار إلى الإنسان، صارت في نفس مستوى يد العامل التي تدفع العربة. وهذه المساواة هي التي يرفضها رامبو هنا.. رامبو الكسول والمتبطل مثل ضفدع، وكأنه يقدم موقفا من مفهوم اليد العاملة ومن فكرة المهنة عموما، ليعيد الاعتبار - في ذلك الزمن اليدوي! - لمهنة الشاعر.
(8) - الدم الوثني: فكرة يتأسس عليها جانب كبير من فصل في الجحيم، فقبل الصيغة النهائية لهذا الكراس، كان رامبو يرغب في أن يعنونه ب "الكتاب الوثني"، انطلاقا من صراع دفين مع معموديته، ومن تمنيه لو كان منذ البداية وثنيا، وهو الموقف الرافض للاهوت المسيحي المبني على طاعة الناموس وعلى العقاب الذي ينتظر كل من عرف بتعاليم الإنجيل ولم يمتثل إليها، وبالمقابل لا يشمل هذا العقاب في المسيحية الوثنيين الذين لم يعرفوا يوما، ولم يخضعوا، لهذه التعاليم (انظر: رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل رومية [2: 12؛14]).
(9)- العذراء المجنونة (أو الجاهلة) نالت حيزا مهما لدى دارسي فصل في الجحيم وفسرت بعدة تأويلات، ونورد هنا السياق الإنجيلي الذي استلهمها منه رامبو: (1"حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. 2وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. 3أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، 4وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. 5وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. 6فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! 7فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. 8فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. 9فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. 10وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. 11أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! 12فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. 13فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ." إنجيل متى (الإصحاح 25)
(10)- هنا تحوير رامبوي لسياق عبارة ابن الإنسان، التي هي صيغة إنجيلية (متى [8: 20])؛ (مرقس [2: 10])؛ (دانيال[7: 13]).
(11)- في هذا المقطع استعادة واستثمار للقصة الإنجيلية عن الملوك المجوس الذين اقتفوا النجم إلى بيت لحم ليحملوا النبوءة بقداسة يسوع الصبي (متى [2: 1؛12]).
(12)- بالفرنسية goule، وهي من الأصل العربي "الغول"، وهو الوحش الخرافي لثقافات البحر الميت وشرق البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعتقد بأنه يفترس جثث الموتى في المقابر، ومؤنثه سعلاة.
(13)- يستعمل رامبو الكلمة الإنجليزيةcomfort، وفي كثير من قصائده المتأخرة يوجد هذا الميل للتنويع من داخل اللغة الإنجليزية لإضفاء مناخات ومدلولات أخرى على لغته.
التعليقات
الترجمه
ماجد -اتذكر في ترجمة خليل حاوي-كلهم فلاحون انذال ,اليد التي للقلم كاليد التي للمحراث - وهنا يترجم حسن ملهبي --كلهم فلاحون، واطئون. اليد حاملة الريشة تتساوى مع اليد التي تدفع العربة. – هذاعلىسبيل المثال الا ترون الفرق
لا تختلف
سردار -لا تختلف عن ترجمات رمسيس نجيب وخليل الخوري. قد تقولون لأن القصيدة هي نفسها ولكني أقول، مثلا، هناك إختلاف كبير بين ترجمة ادونيس لقصيدة أناباز للفرنسي سان جون بيرس، وترجمة علي (النجار)؟ لنفس القصيدة
تصحيح معلومة
هادي ياسين -الأخ ماجد : مترجم رامبو الذي تقصده هو الشاعر السوري الذي عاش و توفي في العراق : خليل الخوري ، و ليس الشاعر اللبناني المنتحر عام 1982 خليل حاوي . وبالتأكيد فأن الفرق واضح بين الترجمتين هنا ، فمهما اوتي المترجم ( أي مترجم ) من تمكن في اللغتين اللتين يترجم من احداهما الى اثثانية فانه لن يتمكن من نقل ( روح ) النص الشعري .و بهذا الخصوص كان صديقنا الراحل الكبير و المترجم الأمهر ، جبرا ابراهيم جبرا ، يردد دائماً : ان ترجمة الشعر تشبه القبلة من وراء الزجاج .
نعم ماجد ثمة فرق
وسام -نعم ماجد ثمة فرق لكن الا ترى معي ان ملهبي كانت ترجمته اجمل بخصوص هذه الجمل التي اخترتها لان جملة حاملة الريشة تتساوي مع اليد التي تدفع العربة فيها فعل واوضح بمعنى اكثر تعبيرا بينما جملة الراحل حاوي اسمية وشعارية نوعا ما على الاقل بفكرة الانذال والقلم والمحراث في السائد من لغتنا معاصرا
فرق جميل
said elbaz -هنيئا حسن لترجمتك، وننتظر المزيد... وقصائدك كذلك.