ثقافات

محمود الريماوي وبلاغة المفارقة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عواد علي:لا تتضح القوة السردية لقصص محمود الريماوي، في مجموعته الجديدة "رجوع الطائر"، الصادرة عن دار فضاءات للنشر في عمّان، بجلاء عند قراءتها الأولى، فما إن ينتهي القارئ من قراءتها حتى يقول لنفسه (هكذا أفترض): "إنها قصص قصيرة جيدة، ولكن ليس فيها شيء خاص، شيء يدير الرأس إعجاباً". وربما يشعر هذا القارئ بمثل شعور من يقرأ مسرحيات تشيخوف أول مرة، كما عبّر المخرج المسرحي الروسي استانسلافسكي، أعني يشعر بأنه غير قادر على أن يبدي فيها رأياً محدداً، إلاّ أنه ما إن يستعيدها في ذهنه حتى يود أن يمضي التفكير فيها من جديد، وحينذاك يدرك مدى العمق الذي يختفي تحت سطحها الخارجي. وهو عمق مصدره رؤية الكاتب الثاقبة لظواهر الحياة اليومية العادية، وقدرته على تحويلها من صور ولقطات أو لمحات عابرة ومحدودة إلى تجربة إنسانية مكثفة، ولكنها ثرية يكتنفها مزيج من الغموض والقلق والسأم والتذمّر والأمل، وتحكمها مفارقات مشهدية ولفظية مثيرة للسخرية الناعمة، ومواقف غير معقولة ومتنافرة مع الواقع، أو تتسامى عليه باشتباك أصحابها مع أحلام وهواجس وأفكار ذات نفحة أخلاقية عالية، وبحث طفولي مفعم بالبراءة والحساسية عن الإلفة والوداعة والجمال في الكائنات الحية: الطير والشجر والحيوان، بوصفها أكثر وفاءً وبراءةً وصدقاً، وربما حكمةً، من الإنسان الذي لوثته أنانيته ومصالحه المادية، وأضاع جوهره الروحي والأخلاقي. وهذا المغزى الأخير ليس جديداً على تجربة الريماوي القصصية، بل نجده في مجموعته السابقة "سحابة من عصافير"، الصادرة عن دار الساقي عام 2006، وخاصةً في قصص: "الشجرة تبتئس"، "الشجرة تمشي"، "الشجرة تطير"، حيث يبلغ به ولعه الطفولي بالعالم النباتي إلى درجة أنسنته، وتغريبه على نحو مطلق، مستلهماً عالم قصص الأطفال، والسرد الغرائبي الحديث، والموروث الحكائي الخرافي، في اتحاد كامل بين الواقعي والفانتازي.
يستهل الريماوي مجموعته بقصة قصيرة جداً، هي قصة "الأستاذان"، توحي من أول سطر فيها أنها قصة كابوسية ذات منحى "كافكوي"، إذا صح التعبير، فثمة شخص مجهول الاسم، تقذف به جماعة مجهولة، أيضاً، إلى أرض خلاء، في يوم عيد مبلاده الخمسين. وإذ يُفاجا هناك بوجود صديقين له، منهمكين وقوفاً في حديث حار وموصول، يذهب الظن بنا إلى أنه سيكون بمأمن عن أي خطر، وخاصةً أن الصديقين لم ينتبها إلى وصوله واقترابه منهما. ولكن ظننا يبدأ بالتلاشي مع ظهور شخصيتين أخريين في موقع الحدث: رجل يقف خلف عمود معدني على هيئة مفتاح مصري، وآخر خلف مقصلة عصرية لامعة بسيطة التركيب. الأمر مريب إذاً، إلاّ أن الشخص المجهول اعتقد، واهماً، بأنهما "يقومان بأعمال المساحة الهندسية، أو يستخدمان أدوات متطورة وغريبة لأغراض التصوير". وهذه إحدى مفارقات النص القائمة على سذاجة الشخصية، كما يسميها د. سى. ميوك (أهم دارسي المفارقة). وعندما يسأل صديقيه عما يجري هناك يجيبه أحدهما بأن دوره قد حان لتسليم رقبته إلى المقصلة في عملية روتينية لا تستغرق وقتاً! ويبلغه الثاني بأنه "ليس الأول أو الأخير الذي يأتي إلى هنا، وأنه مهزوم لا محالة في النقاش!". وتنتهي القصة باستجابة الرجل للأمر، في حين يتبادل الموظفان نظرات الارتياح، ولسان حالهما ينطق بالصعوبة التي تواجه عملهما لولا تفهم وحماسة الأستاذين (الصديقين)! وهكذا يتداخل في القصة المنحى الكابوسي، كما أوحت بدايتها، مع منحى عبثي يفتقر فيه المشهد السردي، وفضائه، وموقف الشخصيات، وسلوكها، وحوارها القليل البارد، بل حتى الوصف الذي يقوم به الراوي العليم، يفتقر إلى المعقولية والمنطق، وكأن القصة كلها حلم مزعج لشخصية تثق بالآخرين ثقة عمياء فيكشف لها اللاشعور عن فساد تلك الثقة. وهي، أي القصة، محملة برموز، أو إشارات عرفية عديدة يمكن للقراءة السيميائية أن تستنطقها وتأولها تأويلات شتى.
ويرسم الريماوي في قصة (خطأ طبي) صورةً ساخرةً لشاعر، تخطى الخمسين بخمس سنوات، حياته مغلفة بالأوهام والرومانسية والقناعات المعاكسة للواقع، والتعالي عليه، حيث تضجره حقائقه، ويزعجه التفكير فيها، ولا يجد وقتاً يخصصه لها وهو المشغول كلياً بمناجاة "ربات الشعر (وسواهن). ولو وهنت نفسه وانشغل" بأمر من أمور الحياة العادية ومتعلقاتها فلن ينجو من لعناتها، وكأنه "أوريست" في الأسطورة اليونانية، الذي سخطت عليه ربات الانتقام بسبب قتله أمه ثأراً لأبيه. هذا الشاعر كان منهمكاً على الدوام في ترقيص الأحياء والأشباح بموسيقى كلمات تختلط بأنفاسه ووجيب قلبه ووقع أقدامه، وقلما عقد موعداً مع مرض أو استشفاء في حياته، ولم يعره أدنى اهتمام، لأنه "ببساطة لا يناسبه، كما لا تناسب البعض مزاولة السباحة، أو تدخين الأرجيلة، أو تناول البيض المسلوق، أو الاستيقاظ في وقت متأخر، حتى أن أخبار الأصدقاء المرضى تزعجه وتضجره"، واحترامه لهم "كان يهتز ما إن يبلغه وقوع أحدهم طريح الفراش، أو انزواؤه في مستشفى!"... "أما الموتى (من غير الضحايا والشهداء) فيثيرون غضبه وحيرته، وكذلك شعوره بالحرج، ويتثاقل عن أداء واجب العزاء كي لا يألف الانكسار أمام هذا العدو، فيؤدي الواجب إذا أداه بتعجل وضيق!".
كل ذلك يخبرنا به الراوي بضمير الغائب (في سياق معرفته الشاملة بما هو ظاهر وباطن في شخصية الشاعر: ماضيها وحاضرها، أفكارها ومشاعرها وأحلامها)، وهو يتابع مراجعته، برفقة ابنه، عيادة أمراض القلب القريبة من بيته، "في ضحى يوم صيفي، إرضاءً لأسرته وتهدئتها، ولمجاملة طبيبه ومسايرته في مواعيده وطقوسه". والحدث الأساسي للقصة لا يحتل سوى نصف مساحة السرد فيها، ويقوم على حركتين، أو حافزين (يمثلان أصغر وحدتين سرديتين): في الأول يحصل على نتيجة غير سيئة للفحص الطبي، كما توقع، ويغادر العيادة، وفي الثاني يصاب بأزمة قلبية مفاجئة تؤدي إلى وفاته في الشارع عقب مرور دقائق على الحافز الأول. وعندها تبدأ لحظة التنوير التي تكشف عن الخطأ الطبي الذي ارتكبه الطبيب في فحصه لقلب الشاعر، وهو خطأ يحمل روح المفارقة، ويضيء الأوهام التي كان الأخير يدفن رأسه في عتمتها.
ويركّب الراوي جرعة السخرية في نسيج النص من مفارقة مركبّة تتكون من ثلاثة مستويات تنتزع الابتسامة من أعماق القارئ: الأولى، ويمكن عدّها من نوع مفارقة خداع النفس، تتمثّل في مناهضة الشاعر لحقائق الحياة المرة، وتعاليه عليها، وتشبثه بالمثاليات، والثانية مفارقة الورطة الناتجة عن الجهل، وتتمثل في فشل الطبيب في تشخيص حالة مرضية "يمكن لعابر سبيل لا شأن له بالطب أن يشخصها بمجرد المعاينة الظاهرية بالعين المجردة"، والثالثة مفارقة لفظية درامية، وتتمثل في افتراض الراوي نفسه، الذي يعرف ما لا تعرفه الضحية، بأن الشاعر، "حتى وهو في ترابه"، لن يغفر لمن يجنح "إلى دعابة ثقيلة إو إلى اللؤم المفرط ويبلغه بموته"، أو يكتب مرثيةً عنه، لأنه سوف يورثه "مشاعر التطير والنقمة الشديدة!".
ينتقل الريماوي في قصة (ألون) من نمط المفارقة الإنسانية إلى نمط المفارقة الحيوانية، محاولاً إيجاد خصال مشتركة بينهما. وتتمثل هذه المفارقة في مشهد سردي ثانوي داخل النص يرويه المعلم المتقاعد إبراهيم، لصديقه، الذي يتولى سرد القصة بضمير المتكلم، وهما يتجاذبان حديثاً جاداً، خلال استضافته له في حديقة بيته، عن السلوك المشين لقطه (ألون)، وماضيه التراجيدي، وطبائعه الغريبة، وكأنه إنسان مثلهما. يقول إبراهيم إنه أطعم (ألون) قبل بضعة أيام ما زنته نحو كيلوغرام من بقايا سمكة، بعد أن فرغت أسرته من تناولها، "على أن ألون أفندي أحنى رأسه عليها والتهمها في لحظات بغير شكر ولا من يشكرون". ويفسّر إبراهيم ذلك بأنه قط "نهم شره يحتسب نفسه من أهل البيت، ويعتني بصحته أكثر من أي فرد من أفراد العائلة". ولكن ما يثير الاستغراب أنه، رغم شبعه، وثب فجأةً على شجرة اللوز، واختطف منها عصفوراً دورياً حياً، وهرب به بين فكيه إلى خارج الحديقة، وهناك عند الباب الخارجي حاول ابتلاعه، ولما عجز عن ذلك قذف به من فمه ممزقاً مدمى. ويمضي إبراهيم في إضفاء سمات بشرية على قطه فيصفه بأنه "حقير لم يكن جائعاً، كان ينشد التسلية والبغددة فقط"، ولذلك فقد كرهه. أما الصديق/ السارد فإنه يحول هذه المفارقة إلى قضية جرمية عصفت بـ "وحدة الكائنات والتوازن ما بينها"، وأفشلت رهان الفلاسفة والمتصوفة الذين طالما هتفوا لها، وراهنوا عليها. ويحلل الحادثة/ المفارقة، مخاطباً صديقه، بأنها "جريمة قتل متعمدة عن سابق تصور وتصميم، وشهدت تضارباً تناحرياً في المصالح، بين كائنين: طير وحيوان، بين عصفور وقط، وعلى مرأى من كائنين آخرين هما: أنت الكائن البشري، والشجرة الكائن النباتي دون تدخل منكما". ولكن المعلم المتقاعد يضحك، ساخراً من مفارقة صديقه اللفظية، وهو ينهر قطه بحدة أقل مما سبق، ويقول له إن: "ألون على سوء أخلاقه وطويته ليس أشد توحشاً من بشر أكارم". ويلخص هذا القول، حسب قراءتي، رسالة القصة، أو دلالتها الأساسية.
ويبني الريماوي مفارقة قصته (يعقوب اسمه مكتوب) على هاجس الموت الذي يساور الإنسان حينما يتقدم به العمر. ونموذجه هنا رجل اسمه يعقوب السعيد (أبو يزن) في مطلع الثمانين، مضى على تقاعده ربع قرن، وليس مريضاً بغير مرض السكر وارتفاع ضغط الدم! إنه يواظب على قراءة الصحف منذ خمسين عاماً في الأقل- بأكثر وأدق مما يواظب موظف على أداء عمله ـ مذ كان موظفاً في دائرة الإحصاء بعمّان. يتوقف قليلا ًعند الصفحة الأولى، ويمنح الصفحات التالية وقتاً متساوياً، بما ذلك الانتباه إلى بعض الإعلانات التجارية. لم يكن في شبابه يتوقف طويلاً عند صفحات الوفيات، لكن اهتمامه بها بدأ يتنامى، ثم استفحل مع تقدمه في السن، ووفاة زوجته، وتحول إلى عادة مستحكمة بعد تقاعده. حين يقرأ تلك الصفحات يدقق النظر فيها، لسبب إضافي لم يكتمه عن نفسه، ولم يبح به لأحد، وهو خوفه من أن يصادف اسمه ذات يوم بين الأسماء. خاطر "جنوني" تلبسه ولازمه، منذ وقت غير قصير ولم يفلح في التخلص منه، زاعماً أنه ليس خوفاً، بل هو رهبة الساعة الأخيرة، ساعة الانتقال ومبارحة الدنيا وما فيها. وإذ يقرأ ذات يوم نعي شخص اسمه يعقوب السعيد تغيم عيناه، ويشرد ذهنه، وتنتابه الحمى، ويشعر بجفاف، ثم بمغص. وفي نهاية القصة نكتشف، مع ابنه الذي يقرأ النعي، أن الميت بالفعل اسمه (يعقوب السعيد)، ولكنه رجل أعمال عراقي توفي في البصرة في حادث إجرامي!
ورغم أن المفارقة في هذه القصة تنطوي على سخرية، وربما فكاهة، "تشيخوفية" بامتياز، لا تبلغ حد التهكم، فإن الشخصية التي ترسمها تنبض بأحاسيس وهواجس إنسانية طافحة بالحيرة والقلق وحب الحياة في لحظاتها القصوى. وذلك ما يدفع القارئ إلى التعاطف معها تعاطفاً نابعاً من القلب.
في قصة (مساء أبيض) لا تبعث المفارقة، وهي من نوع المفارقة الخفية، على السخرية، بل أنها تخفف من وقع المأساة، وهنا مأساة الحرب تحديداً، والدمار الذي تخلفه، في نفس القارئ: "سيدة وحيدة بملابس الجدات العتيقة الفضفاضة، ممن قذفت بهم حرب تموز في لبنان إلى العراء"، تتخذ لها موقعاً بين ركام البناية التي كانت تقع فيها شقتها، "وتنتظر، من غير أن تكون على عجلة من أمرها، نجاح الباحثين في العثور على ما يبهجها من بقايا المتاع". ولذلك لم "يبدُ عليها قلق كبير، كبقية العائلات اللبنانية المنكوبة، التي تنتظر انتشال شيء ما ذي قيمة من حطام البيوت"، بل أنها "لم تكن تكتم ابتسامتها، التي كانت تتفلت من بين أصابع يدها فوق فمها، حتى حين يفشل المتطوعون في العثور على شيء". وهو ما تسبب في حيرتهم، وخاصةً بعض الشابات اللواتي أثرن نقمة مكتومة عليها، "فهل هو وقت الضحك، وهل جاءت هنا لتتسلى، أم لتبحث بحق عن مفقودات ثمينة وسط الحطام؟". وفي اليوم الأخير من البحث لم تستغرب هذه السيدة الغريبة الأطوار أو تحتج، كما فعلت نسوة مكلومات أخريات لأن المتطوعين لم يعثروا لها على شيء ذي بال.. بل تنهدت فقط بعمق دلالةًً على أسف أسيان وخيبة مريرة لأنهم "لم يعثروا لها على الشيء الوحيد الذي تمنته وانتظرته وتلهفت عليه"، وهو ثوب عرسها!
إنها مفارقة مقنّعة طريفة جداً، تتميز بخاصية التعمد في إخفائها، حيث تتجنب الشخصية أية إشارة من شأنها أن تكشف عنها، أو توحي إليها. وقد حققت للقصة توازناً كبيراً بين الجد والفكاهة، بين هول الكارثة التي سببتها الحرب، وبساطة رغبة السيدة، التي تبدو ظاهرياً أنها رغبة غير معقولة ينقصها المعنى والحكمة، ولكنها في جوهرها استعارة تستعيد من خلال تحقيقها صورة شبابها، وتضيء الجوانب الخفية في أعماقها: ألم الوحدة، ولوعة غياب زوجها وحبيبها الراحل، الذي فقدت عبق أنفاسه في البيت، وخاصةً أنها "يساورها خاطر ملحاح بأنه إذا ما رجع إليها يوماً" أحد الغائبَين عنها (زوجها، وابنها المهاجر) "فسيكون الزوج لا الابن".
تقوم قصة (هذا هو أنت)، الطويلة نسبياً، على التمثيل السردي الرمزي للصراع الفلسطيني الصهيوني خلال ستين عاماً، وتنتج المفارقة فيها عن تحول سلبي يطرأ على موقف الشخصية الرئيسة، فتستأثر باهتمامه قضية ثانوية، يلعب عليها خصومه والوسطاء غير المحايدين، ويهمل القضية الجوهرية ليجد نفسه يدور في حلقة مفرغة تثير الشفقة والسخرية في آن. وتكاد تشبه هذه المفارقة، على مستوى التنميط، مفارقة خداع النفس، أو التشبث بالوهم التي انطوت عليها قصة (خطأ طبي)، فها هنا أيضاً ثمة خطأ كبير يرتكبه بطل القصة، صاحب الحق المستلب، الملقب بـ "الأستاذ"، أي الأستاذ في الخسارة (يرمز إلى بعض القادة الفلسطينيين)، حينما يتخلى عن هدفه الأساسي، وهو سعيه المشروع لاستعادة ما سلبه منه أشباح مرئيون (يرمزون إلى الصهاينة) بسطوٍ مبتكر متكرر الحلقات (سلبوه ما لا يُضاهى بثمن (يرمز إلى الأرض)، ولكن لأسباب تخصَه يتحدث لمن يهمه الأمر (يرمز إلى المجتمع الدولي) عن "ألف دينار ذهبي"، هي كل ما يملك وآخر ما يملك)، ويركز، عوضاً عن ذلك، على هدف ثانوي هو ما سيفعله بحقه المسلوب ما إن يستعيده! مثل من يترك قربة مائه في قبضة اللص ويلهث وراء السراب، زاعماً أنه "خطط للأمر تخطيطاً محكماً، بعد أن تفكر ملياً". إن ما يريد أن يفعله بحقه المسلوب هو شراء "سيارة" (ترمز إلى الدولة)، وقد اكتشف أن هذا وليس شيء آخر، هو ما ينقصه حقاً، لتتويج رحلته الشاقة "في الحياة" التي أمضاها ماشياً على قدميه، وأحياناً حافياً بلا حذاء، "من حقي امتلاك سيارة. من حقي في نهاية المطاف، أن أكون مستقلاً في سيارة خصوصية كالآخرين". وترتفع حدة السخرية حول هذا المطلب حتى تبلغ حد التهكم، ففي البداية يشرع الوسطاء (يرمزون إلى الدول الكبرى الراعية لعملية السلام)، وقد فوجئوا به، في البحث عن "سيارة" مناسبة له، سيارة مقبولة وتؤدي الغرض كما قالوا. وسرعان ما أوضحوا له بعد أن دعوه للتفاهم والاتفاق، أنها لن تسجل باسمه في البداية، إذ ستكون مرهونة لهم. وقال بعضهم إنها ربما تكون باصاً صغيراً (كوستر) أو (بِِكب) على الديزل، ويمكنه، بحكم وضعه المتعثر، تحويلها إلى مركبة عمومية لنقل الأشخاص والبضائع (لا المهرَبات كما شَددوا)، فترضي طموحه لاقتناء مركبة، وتؤمَن له مورد رزق هو في أمسَ الحاجة إليه، وليست سيارة خصوصية بالضرورة. على أنهم قد ينجحون، إذا حالفه الحظ، في توفير "ميني سيارة" له (ذكَرته الكلمة بالميني جوب فابتسم مع نفسه)، وأنهم سوف يختارونها له (السيارة وليس من ترتدي ميني جوب)، بعد تحصيل ما يَسَعهم تحصيله من ثمنها، من أولئك الذين سلبوه كما قال كل ما يملك وآخر ما يملك، وعليه فإن الصورة لابد أن تكون واضحة في ذهنه. ولكن الصورة لم تتضح في ذهنه، بل زادت تشوشاً، ومع ذلك فقد وافق على مضض، من دون أن يكون قد أصغى جيداً، أو أعطى بالاً لما ساقوه من شروحات واستدراكات، لاهجاً بالتصريح: أريد سيارة، لماذا يستكثرونها عليّ؟ أما الأشباح المرئيون الذين سلبوه مدخراته، ودأبوا على استثمارها ورفضوا إعادتها له، فقد سارعوا إلى القول إن الفكرة لا تستحق التفكير المضني بها، فهو لا يحسن القيادة أبداً، وهو ما يغفل عنه الوسطاء الذين أخذتهم الشفقة به فلم يحسنوا تقدير الموقف، بل أنه لا يحوز رخصة قيادة، وهو ما كان جديراً بانتباههم، وليس بحاجة أصلاً لهذه المركبة، التي ستستهلك المزيد من الوقود الذي يكاد ينضب، وتزيد الزحام زحاماً والتلوث تلوثاً، وتتسبب في المزيد من حوادث السير! واقترح رهط من هؤلاء الاشباح حلاً بديلاً، ولو مؤقتاً، بضمان نقل شبه مجاني للأستاذ، ولأبنائه في حافلاتهم الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة مقابل خدمات رمزية يؤدونها، كتشييد أسوار لقلعتهم الممتدة، أو رعاية أبقار سليمة في المزارع والحظائر، أو جمع قمامة البيوت والشوارع، أو تنظيف المراحيض العامة، أو مواكبة كلاب بوليسية في نزهتها اليومية، فتنتفي حاجته لمركبة خاصة به وبالعائلة!! وبخلاف ذلك رأى رهط آخر أن الحل يكمن في تأمين دراجة هوائية للأستاذ، لتفادي التلوث الذي تتسبب به عوادم المركبات، واقترح أن تكون الدراجة ذات موديل متطور، وبثلاث عجلات عريضة ومتينة لا باثنتين كبقية الدراجات، وأنّ تُقلَ أكثر من راكب، مع تزويدها بنصف موتور وإضافات عصرية أخرى، وعلم صغير يخفق في مُقدَمِها، كسيارات السفراء ومدراء الشركات الكبرى، وأن يتم منحه إجازة قيادة قانونية، ورخصة تسجيل نظامية للدراجة على الفور!!! أما "الأستاذ" فقد أشاح بوجهه مستاءً متأففاً عن هذا العرض، ورفض عروضاً شيطانية مشابهة كما وصفها.. ورأى فيها تحايلاً خبيثاً لحرمانه من تحقيق حلم حياته، باقتناء سيارة حقيقية تملأ العين ولأول مرة في العمر،"كل هذه السيارات بمختلف الموديلات والأحجام، في الأقبية وفي المعارض وفي شوارع العالم، ويستكثرون عليَّ سيارةً صغيرةً قديمةً". إلاّ أن الأمر ازداد سوءاً على مرّ الأيام والأسابيع والشهور، في وقت كانت فيه آماله تكبر، وتبدو له على وشك التحقق، إذ تعرَض فوجٌ من أبنائه بأعمار مختلفة من بنين وبنات، للدهس والاعتقال على أيدي محترفين ومقَنعين من الأشباح. وفي الوقت الذي تلقى فيه تعاطفاً من هنا وهناك على ما أصابه، وحظي بمعونات عاجلة ومتأخرة، مشفوعة بدعوته إلى التزام الهدوء وضبط النفس، كي يبرهن على حكمته وشجاعته، فقد حمّله الأشباح الشركاء (أصبح اللصوص شركاء!) مسؤولية طيش أبنائه وعدم تقَيدهم بقواعد السير على الأرصفة وعبور الشوارع، وهددوه بالاحتجاز أو الطرد إذا لم يضبطهم. ولكن هذا الجور الذي فاق حده أخرج ما تبقى من أبناء الأسرة عن طورهم فبدأوا برشق مركبات هؤلاء الأشباح بالحجارة (ترمز إلى الانتفاضة) وبكل ما تقع عليه أيديهم، وسعوا إلى تعطيلها وأحياناً إحراقها، معرضين أنفسهم، ومعهم الأب، إلى حصار وتقييد في الحركة داخل أزقة ضيقة وأحياء متربة شبه مغلقة لا تعبرها المركبات، وقلما تنفذ إليها أشعة الشمس.
حتى هذه النقطة التي تصل إليها أحداث القصة لا يكشف السرد عن حضور لافت لشخصية الأم، زوجة الأستاذ (التي ترمز إلى الوعي الوطني الأصيل)، أو لموقفها من المفارقة التي انساق إليها زوجها، وأصبحت شغله الشاغل، رغم كل المساومات والأكاذيب والألاعيب التي أحاطت بها، وكأن السارد تعمد إرجاء ذلك ليظهرها في لحظة حرجة من تطور المفارقة، لحظة وصولها إلى عنق الزجاجة، ويسند لها وظيفة تنويرية تفضح بها الأحوال التعسة المنكودة للأب الذي أصابه "جنون" اقتناء سيارة، حتى أفرد مكاناً لها في الحوش ككراج (مرآب) خاص بها، وبات يُستفز من أخبار زيادة سعر البنزين. لقد ضاقت هذه الأم ذرعاً بثرثرة الأب عن سيارته الموعودة، وهي التي لا تعدَ نفسها أفهم منه، غير أن هناك في هذه الدنيا ما لا يحتاج إلى فهم أو شرح، لكي تمَيزه عن غيره، كحلول الليل، أو فورة الحليب، أو خمير العجين، أو ظهور الحصبة على الأولاد، أو رائحة النعنع والريحان... إلخ، ولذلك تنفجر في وجهه قائلةً: "إنهم يبيعونك سمكاً في الماء، لماذا تقبل؟ إنهم يطعمونك جوزاً فارغاً... أنت تفعل مالا يفعله أحد، أنت على خطأ". وحين يحاول الأب أن يستفهمها تسكته بكلام، أقرب إلى الصفعة منه إلى الحوار، كلام صادم مفعم بالحرارة والصدق والعفوية والحكمة: " أي سيارة يا ابن الحلال، أي مجننة، أي سخمطة، أيَ ضراب البين، أية تخاريف، أية سواليف لا تودي ولا تجيب، تماماً مثل سيارتك التي في بالك؟ صرنا مضغة في كل فم، وعلى لسان من يسوى ولا يسوى. غداً يحضرون حمارة جرباء ويقولون هذا حصان لك أركبه، وهذه هي سيارتك، مبروك. ساوموك ثم وعدوك ألف مرة، وعيش يا قديش... أهكذا يتمسك عاقل بحقه، يطلب سيارة لأنه يفكر بشرائها حين يستخلص حقه؟ ما شأنهم بنواياك ومشاريعك؟ أية شطارة؟ أية فتاكة؟ أية عبقرية؟ أي عمى قلب؟ أطلب حقك فقط يا ابن الناس. هل تستكثره على نفسك؟ هل نسيته؟... خذ حقك أولاً، خذهُ، ثم اشترِ سيارةً أو طيارةً أنت حر".
وفي محاولة من الريماوي فك الاشتباك بين الدلالة الرمزية لأحداث القصة وأطارها المرجعي غير الخفي على القارئ العربي، أو "تغريب" تلك الأحداث وكسر التماهي بينها وبين ذلك الإطار يدفع الأم إلى تشبيه ما يفعله الأب بما يفعله بعض الفلسطينيين، وهو ما لا يفعله عاقل أو نصف مجنون: "صار حالك مثل حال فلسطينيين، هل تعرفهم؟ إنهم يطنطنون ليل نهار في التلفزيون والإذاعات يريدون دولة كباقي الدول والمِلل. دولة، دولة، نريد دولة، أعطونا دولة. ويجيبون عليهم: تستأهلونها، ابشروا هذه السنة، ثم في السنة التي بعدها إن شاء الله، ثم دعوها إلى السنة اللاحقة، لِمَ العجلة، العجلة من الشيطان... وهذا هو أنت مع سيارتك المهيوبة، حالها حال دولتهم الموعودة. هذا هو أنت. أتكون فلسطينياً ولا أعرف ذلك؟".
وأخيراً، تميل المفارقة في قصة (رجوع الطائر)، وهي أطول قصة في المجموعة، ويتقاسم بطولتها الراوي وطائر الببغاء، تميل إلى أن تكون مفارقة المصادفة، أو القدر، فالراوي، المتقاعد المثقف، يشتري طائر ببغاء مع قفصه، ويحضره إلى بيته بدافع الفضول: ليتيقن من وجود الببغاء، كطائر حي لا مجازي، وما إذا كان لا يستحق سوى الهزء به ككائن غبي، لا فضل ولا ميزة ولا خصيصة سوى تقليد أصوات البشر. وإذ يستقبل أبناؤه هذا الطير في بادئ الأمر بقليل من الفضول، والمشاعر الحيادية فإن فضولهم يخفت شيئا فشيئا، اعتقاداً منهم بأنه يبدو لهم طائراً عادياً، بلا خصوصية تميزه عن غيره من الطيور. ثم يعتادون على وجوده ككائن غريب، وضيف مشكوك بأنسه، وإكراماً لأبيهم يرتضون به كأمر واقع. أما الأب فيكتشف منذ اليوم الأول أن للطير صوته الخاص الذي يميزه، فعارفوه لا يأتون على ذكر صوت له، حتى افترض قبل أن يأتي به، أنه إما أن يكون أبكم أو يشرع فقط في إصدار أصوات مقلدة. ولكنه يجد أنه يزعق على سجيته بصوت أجمل من نعيق الغراب، وليس أسوأ من حشرجات ووعورة بعض أصوات الخلق. ولذلك يتعلق به، ويتولى رعايته وإطعامه، ويصير يقضي معه أمام قفصه بعض الأوقات كلما استبد بي الضجر. وتبدأ المفارقة حين يظهر مرض إنفلونزا الطيور، وتبدأ حملة شعواء على الطيور، ويغدو الببغاء هدفاً لنقمة المعارف والزوار والجيران، بعدما كانوا "يحسدونه" عليه. وهناك من يهدد برفع شكوى إذا لم يسارع بالتخلص منه، والمقصود قتله. ولكن الأب يصمد بصعوبة بالغة، ويسعفه في ذلك أن الجيران وكذلك أفراد أسرته، لم يتوقفوا عن تناول الدجاج (لارتفاع أسعار اللحوم الحمراء). إلاّ أن المشكلة تبقى قائمة، فالأولاد ابتعدوا عنه، والزوجة تصرح أمام نفسها بمخاوفها منه مرة بعد أخرى. لقد بات المنكود يعيش في جو عدائي. وأدى ذلك إلى وقف مخالطة بعض الجيران للأسرة، وانقطاع أصدقاء أبنائها عن زيارتها. ولم يعد الأب يملك شجاعة سؤال أحد عن أفضل الوسائل للعناية به، فالسؤال يثير شبهة اقتناء ممنوعات، ولم تعد هناك وصفات لحماية الطيور وتطبيبها من أي مرض. الوسيلة الفضلى، كما تجمع الصحف والتلفزيونات، هي التخلص من الطيور المنزلية جميعها، أي القضاء عليها بغير تخصيص أو تردد أو تأخير. ويزداد الأمر تعقيداً أمام الأب مع ظهور ثلاث حالات: أولهما تنبيه زوجته له إلى أنه يرتكب مخالفةً بالاحتفاظ به، وأنها لا تستبعد أن يشي ابن أو بنت حلال به، وحينئذ سيفتح باب المشاكل على نفسه. وثانيهما أن الببغاء دون أن يقصد تسبب في انشقاق الأسرة،، كما يحدث كثيراً مع دخول شخص غريب إلى البيت. وثالثهما تهديد ابنه الوحيد بقتل الببغاء، وما ينجم عن تنفيذ تهديده من اهتزاز للعلاقة بينهما. وأزاء كل ذلك يضطر الأب، ذات فجر، إلى حمل الببغاء في قفصه، ويمضي به إلى الغابة، ويحرره هناك بعيداً عن أنظار الناس.
ورغم أن المفارقة التي تقوم عليها هذه القصة تكشف عن مغزى أخلاقي نبيل، وتجسد ما أشرت إليه في المقدمة، وهو البحث الطفولي المفعم بالحساسية عن الإلفة والوداعة والجمال في الكائنات الحية، فإنها تحمل مغزى سياسياً، ربما يشكل رسالةً أراد المؤلف الضمني توجيهها إلى القارئ، ويتمثل هذا المغزى بقول السارد: "خارج البيت لم تكن الأيام بهيجةً مؤنسةً، كان يتمّ حصد أرواح في فلسطين والعراق ودارفور عشوائياً وبنشاط مسعور، دون أن يوقف أحد القتلة هنا وهناك، بينما يتجند الناس والسلطات لمطاردة الطيور وقتلها"!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الريماوي قاص كبير
هادي الحسيني -

محمود الريماوي هو واحد من أعلام القصة العربية وهو نموذج للمثقف العربي الذي يفتخر به . شكرا لك ايها الصديق عواد علي على هذه الدراسة القيمة