أرواح الحجر: بين ريلكه ورودان
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة: غريب اسكندر المرة الأولى التي أقرأ فيها عن أوغست رودانAUGUSTE RODIN كانت في كتاب جون بيرغر JOHN BERGER الفن والثورة حول النحات السوفييتي إرنست نيسفيزتني ERNST NEIZVESTNY. وكان لرودان تأثير مهم على نيسفيزتني، ولكن قبل الحديث عن أعمالهما التي قدم عنها بيرغر نظرة عامة عن علاقة النحت بالفضاء SPACE.إذ يقول بيرغر عن "مقارنة عمل
"يعاد من الحجر
الى الحياة، الى الحياة محرراً".
"أنا جميلة جمال حلم من حجر".
وكما نرى من مجموعة الاقتباسات المختلفة هذه، بأن العلاقة بين هذه الافكار المتصلة ليست ثابتة- لا تمكث في الحجر، إن صح التعبير. فهناك حركة مائعة ولينة بين أفكار الحجر سجناً واحتواء، في نومه وحلمه، بيقظته وعودته الى الحياة. ويحتوي الحجرعلى الشكل ويتحرر الشكل من سجون الحجر ويبقى الوجود الحي محصوراً فيه. ومهمة كلمات ريلكه - في شعره وفي كتابه عن رودان - كانت لتسجيل هذا الاحساس العفوي الاعمق لبواطن الجوهر الحلمي في صمت الحجر ولتسجيل اليقظة الدائمة لوجوده. وفضلاً عن ذلك وخلافاً لمايكل أنجلو الذي تحدث عن تحرير الأشكال من الحجر، فإن العملية معقدة بالنسبة الى طريقة رودان التي هي ليست نحتاً فقط. فقد كان فناناً يصنع أشكالاً طينية بيديه. ومن القوالب المستمدة من هذه الاشكال الطينية ومن النسخ الجصية التي يمكن أن تكون قوالب؛ ومن الاشكال الجصية التي يمكن أن يصنعها طين اخر، ومن قالب برونزي يمكن أن يصنع في النهاية. (كل نسخ أعمال رودان الرخامية نحتها مساعدون). وبعبارة أخرى، فإن هناك سلسلة متوالية من القيد والتحرير، ومن السجن والحرية، ومن الايجابي والسلبي؛ هناك قلب مستمر لفكرة الداخل والخارج، للعميق والسطحي. وكما عبر ريلكه عن ذلك بإيجاز بارع "يجب أن يكون ما يحيط بالعمل موجوداً في داخله".وكتب واصفاً تكنيك رودان "ببطء، وبتفحصٍ، قد انتقل من الداخل خارجاً الى سطحه، وفي الوقت نفسه تُمد يد من الخارج الى الأمام وتقيس هذا السطح وتحدده من الخارج بالقدر نفسه الذي تحدد به الداخل". وطبقاً لريلكه فإن رودان كان أفضل مَن يرى بأن جمال الناس والحيوانات والأشياء معرضة لمخاطر الزمن وتقلبات الظروف". وقد كيّف أشياءه في محاولة منه للحفاظ على الجمال المهدد " الى فضاء أقل عرضة للخطر وأكثر سكوناً وخلوداً". وبينما تقدم عمل رودان فإن العلاقة بين العمل وما يحيط به تغيرت؛ "في حين أن أعماله في ما مضى قد وقفت في منتصف الفضاء، وبدا الأمر كما لو أن الفضاء يختطفها اليه". وما جرى في أعماق الأشكال امتصه السطح. لذلك فإن الاثارة الملفتة لعمل رودان هي معنى أن يكون السطح ممتلئاً بما في الداخل. وبصورة عامة فإن أعمال رودان عن الناس تظهرههم في حالة من العذاب والحسرة. وأسهم رودان بشكل أكبر في صناعة فكرة أنه بوصفه المبدع فإن كل تلك النسخ من يد الله، لكن ابداعاته الذكورية قلما اقرت بذلك العرفان. وعلى الأصح تتصرف مثل آدم، تندب فشله في الفردوس المفقود (في أسطر استعملتها ماري شيللي كتصدير لكتابها فرنكينشتاين):"هل طلبتك؟ أيها الصانع
عندما كنت طينا
لتجعلني انسانا
هل توسلتك
من الظلمة لتنشئني...؟".
إن أشكال رودان الذكورية تظهر عذاب المجيء الى الحياة. ولنعبر عن ذلك بشكل غير ملائم الى حد ما، تعبر أشكاله عن الألم في أن يكونوا احياء. وهذه الصدمة الشديدة للوعي تظهر بشكل أكثر وضوحاً في مواطني كاليه BURGHERS OF CALAIS، حيث كان الالهام الفوري لنصب رودان التذكاري من حادث جرى عام 1347 عندما وافق إدوارد الثالث أن يعفو عن الباقي من سكان مدينة كاليه المحاصرة إذا سلم ستة رجال أنفسهم اليه. وبوحي من مثال أُوستاج دي سانت بييرEUSTACHE DE SAINT PIERRE تطوع خمسة آخرون من مواطني كاليه البارزين للالتحاق به. ويذهب معنى العمل المنجز بعيدا الى ما وراء أصل الحادث (وعلى أية حال فإن أكثرنا اليوم يتجاهله). ويظهر عمل رودان رجالا أثقلهم الحزن ليس بسبب القدر بل بسبب اختيارهم، نادمين على القرار الذي شجعهم، مدركين وواعين للعمل الذي قاموا به. وقد انعطفت عليهم السماء بقوة شديدة لخطورة ما فرضوه على أنفسهم. ودعوة الى تقديم بادرة من التضحية الذاتية فإن تعظيم المثل الاعلى للاستشهاد هو تقويض للخيانة من خلال إيماءاتهم. وكانت المقالة التي كتبت بنقد لاذع رداً على ماكيت بعرض قدمين أنجزه النحات ونشرت في "باتريوت كاليه" في الثاني من آب / أغطسس من عام 1885خاطئة جدا في حكمها لكنها دقيقة في عرضها لـ "المشاعر المنبثقة من العمل عموما"ً بوصفه "حزنا وقنوطا واكتئابا لا حدود له". وضع الرجال أنفسهم الى الامام بارادة كافية لكن قوة القرار لم تكن كافية لتحمل نتائجه. ومع كل العظمة، إلا أن هناك شعوراً ثابتاً باللاجدوى بكل معنى الكلمة. "هل لأن الصلصال أصبح شاهقاً؟"، منذ أن سأل ويلفريد أوين WILFRED OWEN في عام 1918 في قصيدته "اللاجدوى''FUTILITY وايماءات الحسرة "للمواطنين" أُعيدت ورددت في ليس فقط في الصور الفوتوغرافية للحرب والعذاب، بل في الرياضة وفي الشوارع. وكما يرى رودان فإن بعض الإيماءات تشير الى الأبدية، ولكن لا يتبع هذا ان معناها ثابت لا يتغير. وما صوره رودان في عمله "المواطنون" كان ولادة لشكل حديث لليأس على وجه التحديد: الرضا بأن ليس هناك مصدر خارجي للإعتاق ومعرفة ان حياة المرء ليست لها القدرة على توليد قدرتها على الانعتاق. ولكن ما هو عزاؤنا في مواجهة هذه الورطة؟ الإحتمال الأول ان العمل ("لعنة آدم" كما عبر عنه ييتس)، تكريس مباشر لبراعة أثرت بريلكه الى حد كبير. أما الاحتمال الآخر فهو التعهد الجنسي الذي
"يلقي هو على حواء رغبة جسدية تلتهب،
وهي بنظرات شهوانية تردها إليه...".ودرب رودان نفسه على رسم النساء اللائي كن سعيدات بتسليم أنفسهن اليه، من دون أن يرفع عينيه عليهن، بينما كان يمنع نفسه عن التحديق. (وليم روثنستن WILLIAM ROTHENSTEIN، الذي اليه ابدى رودان ملاحظة عن أهمية المرأة، مذكراً إياه بـ "بملامسة (موديلاته) بعينيه وبعض الأحيان بيديه أيضاً"). فتشتغل يداه مثل إبرة ماكينة عالية الجودة، ويكيف نفسه لموديلاته في كل حركة. إنه لا يريد لأي شيء، حتى نفسه، أن يعرقل المرور المتدفق بين الموديل والورقة. فكانت مشاهدة الفن وابداعه واحدة. وهذا الهوس المتأخر في الرسم لم يؤسس بداية جديدة أو تغييراً مع ممارسته المبكرة. ووصف رودان نحته بأنه "رسم بتعمق"؛ فبالنسبة الى المشاهد يبدو أنه ليس أقل من يقظة حجر.مترجم المقال شاعر عراقي يقيم في لندن
gareebiskander@yahoo.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف