ثقافات

الشعر العربي والصمت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"فنّ الشعر: فنّ تشكيل الصمت. القصيدة لا توجد إذا لم يُسمع، قبل كلماتها، صمتُها" *يقول خوسيه أنخل بالنتي, شاعر إسبانيا الراحل. ولمّا كنت مهموماً بفن الشعر منذ يفاعتي, فقد أخذتني غواية البحث عن تعاريف مكثفة له, غير حكاية"الموزون المقفى.." منذ يفاعتي أيضاً. وكعادة من يبحث عن شيء "غامض", وجدت غير قليلٍ من الإجابات عنه. وكانت إحدى هذه الإجابات للفيلسوف الألماني هايدغر. وكان الشاعر اللبناني فؤاد رفقة صدّر بها أحد دواوينه, في الستينات, ولعلّه يكون ديوان "حنين العتبة". فما كان مني, وأنا أتهيّأ لإصدار ديواني الأول"تأملات الولد الصعلوك" في مدينة القدس, عام 90, إلا أن آخذ تعريف هايدغر ذاك من الشاعر رفقة, وأُصدّر به ديواني أنا أيضاً. يقول هايدغر:[جوهر الفن: الشعر. وجوهر الشعر: إقامة الحقيقة]. كانت "الحقيقة" في تلك السنوات, أشبه بجواز مرور, لكل من يريد التناغم مع عصره وتقريظَ مثقفي ذلك العصر. فهي تعني أنك كاتب معنيّ ب"الواقع", في المقام الأول, أي كاتب لا تهوّم في الأحلام والغيوم! على الضدّ ربما, أو على مبعدةٍ, مما قصدَه هايدغر ورفقة معاً. فكلاهما, كما أظنّ, لم يكن في وارد هذا المعنى المسطّح والمباشر.(هايدغر, كما هو معلوم, عالمياً, أحد أفضل وأكفأ الفلاسفة الذين تناولوا الشعر بالنقد والتحليل. ورفقة, كما هو معروف, عربياً, شاعر تأمّلٍ وميتافيزيقا). لكن ما علينا. فلكل بلدٍ ظروفه وخصوصيته وطريقته في التأويل, خاصة إذا كان واقعاً تحت احتلال, لا ينتج عنه, في أنساق الوعي, أحياناً, إلا اختلال!
مضت السنوات. وكرَّ الزمن. وها أنا ذا, أقع اليومَ, على هذا التعريف الموجز للشاعر الإسباني, فأجده أقرب إلى حقيقة أعماقي, واهتماماتي, وحقيقة الشعر, بشكل خاص وعام, من قول هايدغر ذاك. فهايدغر, ومهما كان السياق الذي قال فيه تلك العبارة, يظلّ, في الأخير, فيلسوفَ عقلٍ, لا شاعراً مثل الإسباني بالنتي.
فن الشعر, إذاً, هو فن: تشكيل الصمت. لا إقامة الحقيقة, إلا يا دوب, بالمعنى المجازي للكلمة!
فإذا نظرنا وأعملنا النظر في مدونة الشعر العربي, في القرن العشرين, وقاربناها من هذا المُقتَرب, فماذا نحن واجدون؟
لا أظنّ أننا واجدون محصولاً يقينا غائلة الجوع. فما أندر"الصمت" في هذه المدونة. وما أندر أن "يتشكّل" فناً, فيبدو قريبَ النوال بحيث لا يتعب الساعي لو سعى إليه.
إنّ الأغلب الأعمّ من منتوجنا الشعري, طوال القرن الماضي, هو قصائد تسبقها كلماتُها, وتنتهي بها. لا مكان للصمت, المكظوم والخافي, لا في مفتتحها ولا في وسطها ولا بعد الانتهاء منها.
ونادرة حقاً تلك القصائد التي قرأتها فوجدتها طافحة بالصمت, ظلالاً وإيماءاتٍ, أكثر من طفحانها بالكلمات وصليل الكلمات[ وبالطبع, لا أبرّء شعري نفسه من تهمةٍ كهذه أو مصيبة كهذه. فأنا مثل غيري, أسير ثقافة لا تعير الصمت الخافي, لا في الحياة ولا في الشعر, قليلَ احترام. وكلنا رهائن ظروفنا وثقافتنا].
ولأنني اكتب انطباعاتٍ لا بحثاً ولا نقداً, فإنني اكتب الآن من ذاكرتي, دون التفكير بالاستنجاد بالمراجع.
وعليه, فما أتذكره من قصائد لشعراء عرب, بقيت في الذاكرة[لأنها تقول ب"صمتها" أكثر من قولها بالكلمات: تتوسل الظلّ والإيحاء, فتؤثّر فينا, أكثر مما لو رمتنا تحت عين الشمس] هي جدّ قليلة. ومن هذه القصائد, قصيدةٌ غنائية كنت قرأتها ذات يومٍ بعيد, يرثي فيها شاعرُها العراقي علي جعفر العلاّق, مفكرَ مصر وفيلسوفها الجغرافي جمال حمدان_ الذي مات محترقاً. والقصيدة نُشرت في مجلة إبداع المصرية, بعنوان"نار الآلهة". ولم أرها في مجلد الأعمال الشعرية للشاعر الصادرعام98.
يقول العلاق:
[نركضُ خلف ناركَ الخضراء
نصغي إلى رمادك الأخضر: يستحيلُ قبّةً
من الشذا أو شفقاً من صلوات الماء(...)
ثم يختمها: كيف انتشرتَ
في مرايا الريح؟ كلُّ عشبةٍ
تصغي إلى نيرانكَ الغضّةِ
كل عشبةٍ تهرب من رمادنا الخاملِ:
لا مجدٌ
ولا خطيئهْ
تركتَنا لنارِنا الخبيئهْ..]
ثمة الكثير مما لم يُقل بعد" الخبيئة".. ثمة الصمت, ثمة صمت!
كذلك وجدت مبتغاي في بعض قصائد سعدي يوسف القديمة**, وربما في بعض شعر سامي مهدي, ومن قبلهما في بعض إنتاج أدونيس. وكم كنت أتمنى لو أستشهد بتلك القصائد كدليل على ما أقول, لكنّها الذاكرة وما أدراك ما الذاكرة. وهو الكسل وما أدراك ما هو الكسل! فمعظم ما كتبَ هؤلاء موجود في مكتبتي, أو عند الأصدقاء, أو في مظانّ الصحف, وبقليل أو كثير من الجهد, سأصل إليه. ومع ذلك أتقاعس وأراهن على همّة القارئ المعنيّ بالبحث والتنقيب.
فإذا تركت شعراء التفعيلة هؤلاء جانباً, وذهبت إلى شعراء قصيدة النثر و الشعر الحرّ, وجدت مبتغاي في نص صغير"غير غنائي" للشاعر الراحل سركون بولص بعنوان (مديح) من ديوانه(إذا كنتَ نائماً في مركب نوح) وإليكم القصيدة:

[سأمضي في مديحي
العالمُ معلّقٌ من شعره الطينيّ في أبراج القصائد
والشاعرُ محاصَرٌ يحرق وثائق الليلة الماضية بنظرة ختامية
لا تعرف الصُلح. سأمضي في مديحي
حتى في الحدود الشعرية, التي لا يعرف أحدٌ ما هيَ.]ثمة كلام كثير محذوف لم يقله الشاعر هاهنا. كلام من الأحشاء عن معاناته وقلقه مع الشعر, هذا الفن الأصعب. كلام لو قاله, بعدَ "التي لا يعرف أحدٌ ما هيَ", فلربما, بل يقيناً, ما كانت قصيدته لتؤثر فينا هذا التأثير العميق. إنه فنّ الصمت: فن الحذف***. الفن الذي لا يتقنه غير كبار الفنانين.
وعليه, فمن حقنا أن نضيف إلى ما قاله بالنتي بأنّ القصيدة لا توجد إذا لم يُسمع، بعدَ كلماتها، صمتُها, أيضاً!
ومع أني وضعت عنوان هذه المقالة تحت عنوان" الشعر العربي والصمت", إلا أنني أستميحكم عذراً, لأني أودّ أن أختمها بالإشارة إلى قاص وفنان كبير هو القاص والروائي إبراهيم أصلان. فما وجدت في كاتب عربي سواه, هذا القدر من "الصمت" المحذوف إنما المُخيّم في نصوصه. إنه سيد من يتقن هذه اللعبة: لعبة " الحذف" وتخليص جسد النصّ مِن كل ما يثقله. ومن كل ما لا لزوم إليه. بل نكاد نشعر ونحن في حضرة **** قصصه القصيرة المتقشفة, أننا نتعامل مع ظلّ النص لا جسده. لقد غاب الجسد, وحضرت ظلاله أو أشباحه فقط!

أليس هذا هو الفنّ بأسمى معانيه؟ *خمس شذرات إلى أنتوني تابييس نص: خوسيه أنخل بالنتي ترجمهُ عن الإسبانية: أحمد يماني, ونشرهُ موقع "الأوان".
** مع أنّ الكثير من قصائده المُنقطة حالياً, تفشل في إحالتنا إلى ما وراء النص. فلا تكفي لعبة"التنقيط" عبر أكثر من سطرٍ, لتجعلنا نشعر بثقل "المحذوف" أو "المسكوت عنه" في هذه القصائد.
*** لعلّنا نتذكر هنا الأمريكي همنغواي, وطريقته في الكتابة. فقد كان ينظر إليها بوصفها كجبل الجليد: رأسه يظهر للعيان, وقاعدته ومعظم جسمه يقبع تحت سطح الماء. وبهذا المعنى, فهو"رائد فن الحذف", وشيخ هذه الطريقة, على مستوى العالم.
****على سبيل التمثيل لا الحصر: ارجعْ إلى قصتيْه"شتاء" و"المستحمّة" من مجموعته القصصية (حكايات من فضل الله عثمان).


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف