ثقافات

الطين

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قصة: جيمس جويس
ترجمة: زعيم الطائي المؤلف:1941-1882
حظى جيمس جويس بأعتراف جميع النقاد بأنه الروائي الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، وعدت مجموعته القصصية (الدبلنيون) 1914مؤذناً بعصر جديد من الكتابة، التي توطدت بظهور روايته (يوليسيس)1922 ذات التكنيك الغريب الذي حمل أبعاد تجاربه ومكتشفاته اللغوية عبر اللاشعور وتيار الوعي التي أنعكست في عمله الضخم يقظة فنيجان، وكذلك في روايته الأولى (صورة الفنان وقت شبابه). ولد في دبلن، وعاش معظم حياته المتأخرة في باريس، ولكن بقيت أيرلندا وشعبها المحور الرئيسي لكل كتاباته.
المترجم
سمح لها المشرف بالمغادرة حالما تنتهي النسوة من فرصة تناول الشاي فألقت ماريا نظرة الى الخارج متأملة مساءها، كان المطبخ واسعا ً وفسيحاً: قال الطباخ سيمكنك أن تري نفسك في الغلايات النحاسية الكبيرة المصقولة، هناك النار مؤنسة في توقدها، وعلى أحدى المناضد الجانبية وضعت أربع قطع بارمبراك كبيرة مملحة، لا يبدو أنها قد قطعت، لكن ماأن تدنو منها حتى تراها مقطعة بشرائح طويلة وثخينة، جاهزة للتوزيع أثناء فترة الشاي، قامت ماريا بتقطيعها بنفسها.
لماريا في الحقيقة جسد ضئيل للغاية، لكنها ذات أنف طويل وحنك بارز، تنطق بعض الأحيان الكلمات بواسطة أنفها، ملطفة دائماً " نعم، ياعزيزي " و " كلا، ياعزيزتي " يرسلونها أغلب الأوقات لفض نزاعات النسوة عند أحواض الغسيل فتنجح في الوئام مابينهن، حتى قال لها مسؤول العمل ذات يوم " ماريا، أنت حقاً صانعة للسلام ". مساعد الرئيس وأثنتان من نساء الهيئة أستمعوا الى التقدير، وجنجر موني كان يردد على الدوام أعجابه بكيفية تعاملها مع العاملة المكلفة بصقل الأواني المعدنية "الجميع مولعون بها ".
النسوة يحتسين شايهن عند الساعة السادسة، بذلك سيمكنها الخروج قبل السابعة، المسافة بين بولزبرج وبيلار عشرون دقيقة، ومن بيلار الى درامكوندرا عشرون أيضاً، وعشرون أخرى لشراء بعض الحاجيات، وستكون هناك قبيل الثامنة، تناولت محفظتها اليدوية ومشابكها الفضية، وراحت تقرأ الكلمات من جديد (هدية من بلفاست)، أنها تعتز بتلك المحفظة لأن جو جلبها لها قبل خمس سنوات عند سفرته مع ألفي الى بلفاست خلال أثنين السجدة، فيها نصفان من الكرونات مع بضعة قروش، سيتبقى لديها خمسة شلنات بعد دفعها أجرة الترام، وسينعم الجميع بأمسية رائقة، الأطفال كلهم سوف يشتركون في الأنشاد! أمنيتها الوحيدة أن لايأتي جو ثملاً، يكون وضعه مختلفاً حين يتناول الشراب.
أكثر من مرة، أراد لها أن تعيش معهم، لكنها تشعر - رغم رقة زوجته معها - أنها قد أعتادت على حياة المكوى، وجو رفيق طيب، فقد كان محل رعايتها وألفي أيضاً، حتى أنه كان يردد أغلب الأحيان " الأم هي الأم، لكن الأصح أن تكون ماريا هي أمي ".
بعد الأستراحة في البيت، يتخذ الأولاد نفس وضعها في مكوى (دبلن لامبلايت) كم أحبت ذلك، كانت قد أتخذت فكرة سيئة عن البروتستانت، لكنها تعتقد الآن أنهم قوم طيبون، يتميزون بالجدية مع بعض الهدوء، لكنهم يبقون طيبي المعشر، كما كانت لها نباتات محمية أستأثرت بعنايتها الفائقة، سراخس لطيفة ونبتات شمعية، وعندما يأتي أحد لزيارتها، تعطيه عينة من نباتات بيتها الزجاجي، شيء واحد كرهته، الدعايات السياسية فوق الحيطان، لكن المشرف على العمل شخص طيب سهل التعامل، ونبيل.
حينما يخبرها الطباخ أن كل شيء أصبح جاهزاً، تتوجه هي الى غرفة النساء، لسحب الجرس الكبير، فتخرج النساء في مجاميع ثنائية أو ثلاثية بغضون دقائق قليلة، وهن يمسحن أيديهن التي ينبعث منها البخار، بتنوراتهن الداخلية، ساحبات أكمام بلوزاتهن أعلى أذرعهن المحمرة المتبخرة، ليمكثن وقت الأستراحة أمام أقداحهن الكبيرة التي ملأها الطباخ ومساعدته بالشاي المغلي، والتي مزجت مسبقاً بالسكر والحليب، في صحائف ضخمة من القصدير، وماريا مراقبة توزيع البارمبراك وتقطيعها، حيث تحصل كل واحدة على أربع قطع منها، فيكثر الضحك والممازحات أثناء الوجبة، علقت ليزي فلمنج " ماريا متأكدة من حصولها على الخاتم " وبالرغم من أن فلمنج قالتها أثناء ليالي القداسة، ضحكت ماريا كثيراً قائلة أنها لاتريد خاتماً، ولارجلاً أيضاً، وأثناء ضحكتها لمعت عيناها الخضراوتان الشاحبتان بخجل وخيبة، وكادت أرنبة أنفها تلاقي رأس حنكها، عندها رفع جنجر موني قدح شايه مقترحاً أن يشرب على صحتها الجميع بينما أخذت النسوة يتلامسن بأقداحهن على الطاولة، معتذرات من عدم وجود جرعة من البورتر، مما أضحك ماريا من جديد، حتى وصلت أرنبة أنفها الى مقدمة حنكها، وأهتزت أوصال جسمها الدقيق حتى كادت تفترق، فهي تعرف أن موني قالها بحسن نية، بالطبع، كونها الأكثر شعبية بينهم.
شعرت ماريا بالوحشة بعد أنفضاض النسوة حال أنقضاء فترة الشاي، وشروع الطباخ والمساعدة بتنظيف المكان! فهرعت الى غرفتها الصغيرة، وقد تذكرت أن صباح الأثنين القادم سيكون ضاجاً ومزدحماً، وسيتغير المنبه من السابعة الى السادسة، عندها قامت بخلع تنورة العمل وحذائها المنزلي، مخرجة أفضل تنانيرها لتضعها على الفراش، وحذاء الخروج قرب قدم السرير، مغيرة بلوزتها أيضاً، وبينما هي واقفة قبالة المرآة، فكرت كيف كانت ترتدي ألبستها في تجمع صباحات يوم الأحد، زمن الشباب، وقت كانت تخطر بجاذبيتها الساحرة وجسدها الملفوف المزين بالحلي على الدوام، لكنها أحست أنها رغم السنين مازالت تحتفظ بذلك الجسد الصغير المرتب.
حين خروجها كانت الشوارع متألقة تحت المطر، فأسرها أن أصطحبت واقيتها المطرية ذات اللون القهوائي، وجدت الترام مزدحماً، مما أضطرها الى أتخاذ مقعد صغير عند نهاية العربة، بمواجهة الركاب، وأصابع قدميها بالكاد تنوش الأرضية، راحت ترتب في مخيلتها كل ما ستقوم بعمله، جميل أن يتمتع المرء بأستقلاليته، واضعاً مايخصه من نقود في جيبه، كم تتمنى أن تكون أمسيتهم بديعة، متأكدة أنها كذلك، لكنها لاتستطيع أن تمنع نفسها من التفكير برقة جو وألفي وعطفهما الذي لايوصف، يتلكآن دائماً الآن، ولكنهما في فترة الصبا كانا أفضل الأصدقاء، هكذا هي الدنيا.
نزلت من الترام عند بيلار، شقت طريقها بين الزحام، متوجهة صوب محلات كيك داوني، رأت المكان غاصاً بالناس، قضت وقتاً طويلاً حتى وجدت من يهتم بها، أشترت دزينة متفرقة من القطع الصغيرة، وخرجت أخيراً محملة بكيس كبير، ثم راحت تفكر بما ستشتريه بعد ذلك، تريد أن تشتري شيئاً لطيفاً بحق، لديهم الكثير من البندق والتفاح، من الصعب معرفة ما عليك أبتياعه، كل ما أنتبهت له هو الكيك، أرادت شراء كيك الأجاص، لكنها لم تجد في محلات داوني كيكاً محلى باللوز والسكر، فآثرت الذهاب الى أحد محلات شارع هنري، هنا تدبرت حالها عند الكاونتر بعد مضي وقت أمام البائعة الأنيقة المفعمة بالشباب، والتي كان واضحاً أنها أزعجتها قليلا ً، سألتها أن كانت تريد كيكة زفاف، مما جعل ماريا تبتسم بخجل للبائعة الشابة، لكنها أخذت الأمر بجدية، وقطعت لها أخيراً شريحة ضخمة من كيكة الأجاص، رزمتها قائلة:
" أثنتان وأربعة، لو سمحت ".
ظنت أنها ستقضي الطريق واقفة في ترام درامكوندرا لأن لاأحد من الشباب تنبه لوجودها، لكن رجلاً مسناً أفسح لها مقعدا ً، رجلاً محترماً، يرتدي قبعة بنية سميكة، له وجه مربع أحمر، وشاربان رماديان، فكرت ماريا أنه يبدو جنرالاً نبيلاً من مظهره، تأثراً بأخلاقه التي تفوق أدباً ذلك الشاب الذي راح يطيل التحديق بهما، بدأ الرجل محادثتها حول عشية قدس الأموات، والجو الماطر، معتقداً أن الكيس يحتوي على حاجيات تحملها لصغارها، قائلاً، من حق الفتية فقط أن يتمتعوا ماداموا في زمن الشباب، وافقته ماريا مثنية بأيماءاتها الرزينة وحواشي الكلمات المعبرة، كان رجلاً لطيفاً، وحينما غادرت عند جسر القناة، أنحنت له شاكرة، فأنحنى لها رافعاً قبعته، مبتسما ً بوداعة، وبينما كانت تعبر تحت الشرفة محنية رأسها الصغير خوف القطرات المتساقطة، فكرت كم من السهل التعرف برجل حتى وإن كان مخموراً قليلاً.
هتف الجميع بأسمها، عندما دخلت بيت جو، كان هو موجوداً آنذاك، عائداً للتو من عمله، والأطفال جميعاً أرتدوا حلل يوم الأحد، شاهدت فتاتين من الجيران حاضرتين، واللعبة جارية على قدم وساق، فناولت ماريا كيس الكيك الى أكبر الأولاد سناً، قسمتها ألفي، فأثنت السيدة دونللي على جلبها كيس الكيك وهب الأطفال جميعاً صائحين: " شكراً ماريا ".
لكن ماريا أقرت أنها قد جلبت شيئاً خصيصاً لبابا وماما، شيئا ً سيعجبهما حتماً، وراحت تبحث عن كيكة الأجاص، في كيس داوني وجيوب الواقي المطري وقرب منصة العرض، لكنها لم تعثر لها على أثر، عندها سألت الأطفال كلهم عما إذا أكلها أحدهم - بالطبع - بطريق الخطأ، الأطفال جميعاً أجابوا بالنفي، وبدا عليهم العزوف عن تناول حصصهم لأتهامهم بالسرقة، وكل واحد طرح تفسيره للغز وقالت السيدة دونللي ببساطة ربما نسيتها ماريا الى جانبها في الترام، حينها تذكرت ماريا ماسببه لها اللقاء بالرجل ذي الشارب الأشيب من خجل ممض وأرتباك وأحباط ، وخسارتها للأثنتين وأربعة بنسات التي ذهبت سدى، فأوشكت أن تجهش بالبكاء.
قال جو، لايهم، وفسح لها مجلساً قرب المدفأة، أبدى معها رقة فائقة، أخبرها بكل ماجرى في مكتبه، مكرراً جوابها الذكي الذي قدمه لرئيسه، لم تفهم هي لم كان جو مغرقاً في الضحك حين فكر بالعذر، لكنها عللت أن رئيسه شخص ذو قدرة كبيرة على تحمل الأوضاع، قال أنه ليس بالأمر السيء أن تأخذه على قدر عقله، فقد كان على حد من اللياقة أمداً قبل أن تصقله التجارب الخاطئة، عزفت السيدة دونللي شيئا ً على البيانو، رقص له الصغار، وأخذوا ينشدون، الجارتان الشابتان أستدارتا نحو صحن البندق، لم يستطع أحد العثور على الكسارة، عبر جو عن الحالة متسائلاً، كيف تتوقعون أن تشق ماريا البندق بلا كسارة، لكنها أشارت الى أنها لاتحب البندق، وأن لايقلقوا بشأنها، بعدئذ سألها جو أن تأخذ لها قنينة من الستوت، أضافت السيدة دونللي أن لم تكن ترغب بالستوت فلديهم بورت واين في البيت، لكنها أخبرتهم من الأفضل أن لا يسألوها تناول شيء، لكن جو كان مصراً.
وهكذا سايرته على طريقته وجلسا معاً يتشاطران الأحاديث قرب النار عن الأوقات القديمة وفكرت ماريا أن تتوجه لألفي بكلمات شكر، لكن جو صاح عالياً أن الرب يرجمه بالحجارة حتى الموت لو أنه كلم أخاه مرة ثانية قالت ماريا أنها آسفة لأن المسألة لاتعنيها، السيدة دوللي عاتبت زوجها أنه لأمر مخجل له التحدث كثيراً عن دمه ولحمه بهذا الشكل فرد جو أن دونللي ليست شقيقته حتى شارفا على المشاجرة بينهما، وعلق جو أنه لايريد أن يفقد هدوء أعصابه في هذه الليلة طالباً من زوجته فتح عدد أكبر من قناني الستوت، رتبت فتاتا الجيران بعض ألعاب ليلة قدس الأقداس وسرعان ماعم المرح بين الجميع، أحست ماريا بالسرور لرؤية الفرحة الغامرة التي تعم الصغار والروح المعنوية العالية التي أبداها جو وزوجته، وضعت الفتاتان عدداً من الصحون فوق الطاولة وقادتا الأطفال معصوبي الأعين نحوها، غنم أحدهم كتاب الصلاة والثلاثة الباقون لم يغنموا غير الماء، وعندما نالت أحدى الفتاتين الخاتم هزت السيدة دونللي أصبعها للفتاة المتوردة الخدين مشيرة الى أنها عرفته جيداً من قبل! فأصرت الفتاتان على تعصيب عيني ماريا وسحبها الى الطاولة لرؤية حظها، وبينما كانتا تضعان لها العصابة، غصت ماريا بضحكتها، ثم أستمرت بالضحك، حتى كادت أرنبة أنفها تنوش مقدمة حنكها.
أقتيدت وسط الضحكات والنكات الى الطاولة مادة يدها في الهواء كما طلبوا منها، راحت تحرك يدها هنا وهناك في الفراغ ثم هبطت بها منحدرة فلاقت أحد الصحون، أحست بنعومة شيء غريني رطب ولين بين أصابعها وأدهشها أن أحداً لم يتفوه بعدها بكلمة أو يرفع رباط عينيها، مرت فترة صمت أستمرت لحظات، أعقبها همس وهياج كثير، تكلم أحدهم شيئاً بخصوص الحديقة، وأخيراً قالت السيدة دونللي شيئاً معترضة أحدى فتيات الجوار طالبة أن تبعده في الحال: ليس هذا لعبا ً. أدركت ماريا في ذلك الوقت أنها أقترفت خطأ ولذا عبرته ثانية، فوقعت يدها على كتاب الصلوات.
بعدها قامت السيدة دونللي بتمثيل دور مس ماكلاود للأولاد وأقنع جو ماريا بتناول قدح من النبيذ، عم الأنشراح من جديد وقالت السيدة دونللي أن ماريا ستدخل الدير قبل أنقضاء العام لأنها فازت بكتاب الصلاة، لم تشهد ماريا من جو تعاملاً أكثر طيبة ورقة كما في تلك الليلة، كانت أحاديثه طافحة بالبهجة والذكريات التي أسعدتها.
أخيراً شعر الصغار بالنعاس وبدأوا يتناومون فسأل جو ماريا أن تغني لهم بعض الأغنيات قبل المغادرة، واحدة من تلك الأغاني القديمة، السيدة دونللي قالت " غن لنا ماريا، رجاءً " لذا نهضت ماريا ووقفت الى جوار البيانو، طلبت السيدة دونللي من الأولاد الصمت والأصغاء لماريا وهي تغني، بعدها عزفت مفتتح اللحن قائلة: " الآن، ماريا " أحمر وجهها أحمراراً شديداً، وبدأت تنشد بصوت مرتجف ناعم، أنشدت: " حلمت أنني أسكن " وحالما وصلت الى المقطع الثاني، غنته من جديد:
حلمت، أسكن قصراً من رخام...
حولي الخدم والتابعين...
وكل الحشود خلف الجدران...
مبعث فخرهم أنا ومناهم. ثرائي ممجد، بلا حدود
ولقب سلالة معظمة.
غير أنني حلمت أيضا ً..
حبك نفسه، باق لايزول... لكن أحداً لم يحاول أشعارها بالخطأ، وعند فراغها من الأغنية هلل لها جو كثيراً بحركة عاصفة قائلاً أن لا زمن يشبه الأزمان الماضية ولاألحاناً برأيه كألحان " بالف " العجوز البائس، مهما قال الآخرون، وأمتلأت عيناه بالدموع، فلم يعثر عما كان يبحث من أجله حتى أضطر أخيراً أن يسأل زوجته أن تخبره بمكان فتاحة الفلين. Ziam50@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف