مناجاة هاملت السابعة والأخيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"تكشف صور هاملت المجازيّة عن أساس ثقافي متين، وعن تعدد آهتماماته وعن الفضاء الكبير لتجربته. تتردّد في لغة هاملت الآستعارات المقتبسة من العلوم الطبيعية على وجه الخصوص، ما يؤكّد قوّة ملاحظته ونظرته النقديّة الموضوعية في الأمور، بل إنّ هاملت مطّلع تمام الاطلاع على العصور القديمة مثل الميثولوجيا الإغريقيّة، وعلى المصطلحات القانونية، وهو بالإضافة إلى معرفته بالمسرح والتمثيل، كما هو معروف، فإنه على معرفة بالفنون التشكيليّة ومصطلحات الصقارة والصيد، والفنون العسكريّة والتخطيط، مع طريقة عيش في الحياة هي طريقة أبناء البلاط.
إذن هو رجلٌ عسكري، ورجل بلاط، وعالم، أو كما تقول أوفيليا:
"له لسان رجل دولة، وبصيرة عالم، وسيف عسكري
وريث العرش وزهرة الشباب
إنّه المرآة الكاملة للذوق السليم، ومثال الفضيلة..."
تُصَوّر كلُّ تلك الجوانب تصويراً مجازيّاً فتحيلها على وصف حيّ بواسطة تطبيقها تطبيقاً مناسباً على المواقف والأشخاص والأمزجة. هاملت متمكنٌ من التعبير بمستويات كثيرة، لدرجة أنّه يقدر على دوزنة أسلوبه، وكذلك صوره المجازيّة لتوافق الموقف، أو الشخص الذي يتكلّم معه". (ص 108-109).
لكنْ حتى نجنيَ، بعض ثمار هذه المناجاة الأخيرة لهاملت،فقد يكون من المفيد تقديم نبذة من الممهدات الموضوعية التي سبقتها.
تتوقّت هذه المناجاة في الفصل الرابع- المشهد الرابع، أيْ أنّ أحداث المسرحية نضجت، وتفضّحت أسرارها تقريباً. لم يبقَ إلاّ كشف الحساب. لا بدّ من حسم الأمور. كلّ تأجيل خطلٌ وعطل. كلّ تأجيل آنحراف عن المجرى الطبيعي للأمور. بدأت بوادر الحسم أوّلاً حينما فاجأ هاملت أمّه بأشرس حوار، ربما لم يشهد له تأريخ الأدب مثيلاً.. حوار بين آبن وأمّ، لم يشهد له تأريخ الأدب مثيلاً. الأمّ تزوجتْ من رجل قاتل، هو الملك الحالي. قتل شقيقه الملك السابق، وآغتصب عرشه وزوجته، أمّ هاملت. الملك الحالي عمّ هاملتْ وزوج أمهّ. علاقة أرحام ثلاثية قاتلة. كأنّما بحبل السرّة يشنقون بعضهم بعضاً.
لنتوقّفْ قليلاً عند هذا المشهد ذي الحوار الأشرس في تأريخ الأدب.
الملكة وآبنها هاملت وجهاً إلى وجه، ومنفرديْن. لا أذن ثالثة بينهما. وجهاً إلى وجه. هكذا بدت الأمور لهاملت في الأقل. لا بدّ له من وضع النقاط على الحروف. لكنْ خلف الستارة، آختبأ "بولونيوس" كبير مستشاري الملك، وهو والد أوفيليا، وصاحبُ أجوفِ الكلمات، يتصنّت متجسساً.
منذ البداية كان الحديث بينهما سجالاً حادّا في التقريع. ما من مهادنة. خافت الأمّ: ما الذي سيفعله هاملت الآن وهما منفردان، ولاسيّما إشاعة جنونه قد بلغتها. خافت من عباراته الصريحة الجارحة. صاحت:النجدة النجدة. عندها تحركت الستارة الآن. بهذا التوقيت الرهيب تحركت. يغرز هاملت سيفه في مصدر الحركة في الستارة، فيصيح بولونيوس:"لقد قُتِلْت"ُ. كانت تلك أقصر جملة قالها بولونيوس في حياته. ربّما كانت الجملة الصادقة الوحيدة التي قالها في أروقة البلاط. كذا قُتِلَ فعلاً. آستغربت الملكة. آنفضح سرّ آخر من أسرارها. وذلك بآنفضاح سرّّ الستارة. آستغربت أكثر. سيف هاملت منغرز في الستارة ولسانه منغرز في لحم قلبها:
"زنى السفاح الذي
يحجب براءة الحشمة، ويقلب الفضيلة نفاقاً
وينتزع وردة الحبّ من الجبين الجميل للحبّ البريء
ويطمغ مكانها وصمة بنات الهوى
ويجعل مواثيق الزواج زائفة..."
(يعتقد كثير من النقّاد أن هاملت كان يشير بتعبير: "وردة الحبّ" إلى أوفيليا وبراءتها)
بهذه المثابة، آتهم هاملت أمّه بالزنى. ما من مواربة، ما من لفّ. ما من دوران. ما من أذن ثالثة بينهما. وجهاً إلى وجه. مع ذلك، هل كانت الملكة تعلم من قبل، بنيّة الملك في قتل شقيقه؟ هل كانت لها علاقةٌ ما به؟هل هي شريكة في الجريمة؟ الشيء الوحيد الأكيد هو أنّ زواجها زنى سفاح في العرف الدينيّ. اكفهرّت السماء. بهذه الحيلة الفنية الحاذقة سيُدخل شيكسبير الآلهة في المشهد الدنيوي في اكثر حالاته حيوانية وتوحّشاً.
قارن هاملت بين أبيه المسموم، وعمّه، الملك الحالي. آبتدأ بوصف جمال أبيه، وكأنه أيقونة مقدّسة:
"أنظري إلى هذه الصورة، وإلى هذه
لوحتان فنّيّتان لأخويْن
أنظري أيّ جمال راكنٍ في هذا الجبين
... إنّه مزيج من الآلهة، وكلّ إله
ختمه بختمه ليطمئنوا العالم انهم خلقوا إنساناً".
(ألا يذكّرهذا بغلغامش وكيف آشتركت الآلهة في خلقه؟ ثمّة تأثيرات مهمة لغلغامش في مسرحية خاملت سنفرد لها مقالاً خاصّاً)
"لقد صمّمتْ هيئة جسمه الآلهة العظيمة
...بعد أن خُلِق غلغامش وأحسن الإله العظيم خلقه
حباه "شمش" السماوي بالحسن وخصّه "أدد" بالبطولة
جعل الآلهة العظام صورة غلغامش تامّة كاملة".
(ترجمة طه باقر: ص77)
لا يفوتنا أنّ هاملت كان يقارن بين صورتين، لا بين إنسان ميت وآخر حيّ. الصورة هي ما يبقى من الإنسان للتأريخ. عن طريق الصورتين، سيتمكن التأريخ من عقد المقارنة بينهما. بكلماتأخرى سيكون الحكم عليهما مجرّداً من أيّ غرض. وبهذا أخذ الحدث بعداً مستقبلياً جديدا. وحتى يزيد من جريمة أمّه، نصّ على أنهما أخوان، لا يفضل أحدهما على الآخر إلاّ بالملوكية. ثمّ هناك القدسية في جمال الملك المسموم، فلماذا خانته الملكة؟ أمعن هاملت أكثر وأكثر، في تبشيع جريمة أمّه بتصوير زوجها الحالي:
"هذا هو زوجك، مثل سنبلة مسفوعة
يُصيب باليرقان شقيقه المعافى. ألكِ عينان
هل يمكنكِ أن تكفّي عن الرعي في هذا الجبل البهيج
وتتخمي نفسك بحشائش المستنقع العفنة
...أيّ شيطان أغواك
وأنت تلعبين معصوبة العينين
بصر بلا بصيرة، وبصيرة بلا بصر
سمع بلا يديْن أو عينيْن، شمّ بدونهما جميعاً..."
بينما كانت صورة الاب القتيل سماوية، آشتركت في صنعها الآلهة كدليل على أنّ خلقه كان مقصوداً، فإن صورة شقيقه الملك الحالي، مرتبطة بالأرض والماء الموبوء الراكد، ومريضة ومعدية. الاقتراب منها خطر. ( لا تربط الجرباء قرب صحيحة/ خوفاً على تلك الصحيحة تجرب). السنبلة تقود إلى الطعام، ولكنْ شتّان بين رعي في جبل بهيج (الأب المقتول)، وبين حشائش المستنقع العفنة، أيْ(الملك الحالي). ما من آمرأة حتى بنصف قواها العقلية لا تفرّق بين نظافة الجبل وعفونة المستنقع إلاّ إذا كان وراءها شيطان أوّلا، وإلاّ إذا كانت معصوبة العينيْن، وإلاّ إذا تفكّكتْ حواسّها وأصبحت غريبة عن بعضها بعضاً.
وهنت الملكة. كفّت عن المقاومة. ما من هجوم، وما من دفاع. راحت تتوسّل:
"إنك تدير عينيّ إلى صميم روحي
وهناك أرى بقعاً سوداً ومتأصّلة
ولن تمّحي صبغتهاهكذا رأت عينا الملكة لأوّل مرّة، أشياء لم ترها في حياتها. آنتهى العالم الخارجي حواليها، وآبتدأ عالمها الداخلي وفي صميمه بقع سود، كيف تمّحي؟
نجح إذن هاملت. تكلّل مسعاه. قال لها في الفصل الثالث - المشهد الرابع:
"...لا، لا، واجلسي، لنْ تتحرّكي
لن تذهبي إلى أن أُثبّت أمامك مرآة
حيثُ قد تريْن أعماق روحك"
رأت الملكة أعماق روحها، ببقع سوداء ثابتة لا تمّحي. الوصمة في الجبين والبقع في الروح، كلاهما لا يمّحي.
في هذا التوقيت يدخل الشبح. يراه هاملت ويتخاطب معه. الملكة لا تراه ولا تسمعه. تأكّدت الملكة من جنون هاملت الآن.
يبدأ الفصل الرابع بحوار بين الملك والملكة. الملك متعطّش لكلّ كلمة عن هاملت، رغم أنّه حسم أمره وقرّر تسفيره إلى ملك انكلترا مع رسالة توصي بقتله فوراً. تقول له الملكة:
"مجنون مثلما البحر والريح يتباريان
أيهما الأقوى، وفي نوبته الجامحة
رأى شيئاً يتحرّك وراء الستارة
فطعنه بسيفه..."
يبدو أنّ الملكة آستبقت الأحداث بالعقل الباطن، فصوّرت بكلمتيْ: البحر والريح، الرحلة البحرية التي سيختبرها هاملت. أما يتباريان فربما توحي بأنها رحلة بحرية غير مضمونة. بالإضافة إلى أنها تصور الصراع الذي يعاني منه هاملت داخليّاً.
على أي حال، جنون هاملت على لسان أُمه أعطى للملك ذريعة أخرى لنفي هاملت من مملكته.
يُقاد هاملت إلى الباخرة، ومعه رسالة موته. أثناء ذلك يمرّ أمير نروجي على رأس حملة عسكرية لمحاربة البولنديين من أجل قطعة حدودية لا قيمة لها، وهي لا تكفي حتى لدفن القتلى من الجانبين. أعجب هاملت من إصرار هذا الشاب. يجيب قائد الحملة على تساؤلات هاملت:
"أقول لك بصدق، وبلا مبالغة،
نحن ذاهبون للآستيلاء على رقعة صغيرة،
ما من قيمة لها، ولكنّها تعود علينا بالصيت
لا أستأجرها بخمسة "دوكات"
إنّها لن تدرّ على ملك النروج أو ملك بولندا
مبلغاً أعلى، إنْ هي بيعت كملكية دائمة
هاملت: إذن فالبولنديّون لن يُدافعوا عنها
القائد : نعم أنها فعلاً محصنة بالجنود المسلحين."على الرغم من أنّ هاملت تصوّر هذه الحرب "مسألة تافهة كالقشّة، وهي دمّلة الثراء والسلم"، إلاّ أنه قرأ فيها أشياء خطرة غيّرت مجرى حياته كليا، كما سنرى.
هكذا آكتملت العدّة الضرورية للمناجاة. هاملت في أحلك الظروف. أمّه زانية سفاحاً، وعمه قتل شقيقه وآغتصب عرشه وزوجته، أوفيليا تركته، ووالدها قُتِل على يد هاملت نفسه. أكثر من ذلك إنه الآن في طريقه إلى انكلترا ومعه لوح موته. في هذا التوقيت ينفرد هاملت بنفسه لنفث مناجاته الأخيرة.
كان على هاملت وسط هذه الأعاصير المأسوية الجائحة، أن يكون مثل ربّان سفينة، كلّما آشتدّ تلاطم البحر، كلّما ظهرتْ حنكته في رباطة الجأش، أو مثل قاضٍ كلما أرعد الشهود وأزبد المتهمون، واختنقت الحناجر بالبحيح والصراخ كلّما ازداد رويّة وحلماً.
بهذه المثابة العقلانية، آفتتح هاملت مناجاته. وقد وضع نفسه في الأسطر الثلاثة الأولى بمقام المتهم، ولكنه هو الحَكَم أيضاً:
"ما من حدثٍ مرّ، وما من أحدٍ عرفته
إلاّ ويقدّم شهادته ضدّي، ويحثني
على ثأري الخامل"لماذا لا يثأر هاملت لأبيه؟هل كان شخصية واهنة ومترددة؟هل كان جباناً؟ في هذه المحكمة الأخلاقية، الكلّ يشهد ضدّ هاملت، وهاملت عاجز إلاّ من تقديم المعاذير. سنحت له الفرصة أكثر من مرّة لقتل الملك الذي اغتصب العرش والزوجة، ولكنّه يُسوّف.
يقول G. B. Harrison:"هذه المناجاة مسؤولة بصورة رئيسة عن الآعتقاد بأنّ هاملت شابّ مسوّفProcrastinating (ص:104)
ينتقل هاملت في السطر الرابع، من التساؤلات الذاتية الفردية، إلى عالم إنساني أشمل، يُفلسف فيه "العقل" وجريرة تعطيله. ما الإنسان بلا عقل فعاّل سوى بهيمة. هذه هي الخلاصة الفلسفية التي آنتهى إليها هاملت. أكثر من ذلك، فإنّ تعطيل العقل، كما يبدو، بمثابة تجديف على الله، لأنّه هبة منه:
"لقد مكّننا الربّ من قوّة الآستبصار الشامل
لنتأمّل ما مضى ونزن ما نقوم به في الغد
لم يُعطِنا تلك القدرة والعقل الخليق بالآلهة
ليتعفّن فينا جرّاء عدم استعماله".كذا الثأر إذن، يبرره القانون، وكذلك تبرره السماء. على هذا فجريرة هاملت مضاعفة.
يقول Kenneth Muir:"في هذه المناجاة التي فاه بها هاملت قبل الإبحار إلى إنكلترا، جوبه بالفشل التامّ بمهمّته، ولم يستطعْ فهم السبب الذي منعه من تنفيذ أوامر شبح أبيه؟"
"أهو عجز حيوان عن آستعادة الماضي، أمْ
الآرتياب الجبان من التفكير الدقيق جدّاً في العواقب
... لست أدري لماذا ما زلت
أعيش لأقول عليّ أنْ أُنجز هذا الشئ، ما دامت
عندي قضية وإرادة وقوّة ووسيلة لإنجازه..."الغريب حقّاً أن هذه العقلانية قادت هاملت إلى اللاعقلانية، ولم تأتِ كلمة حيوان في السطر الأوّل للا شيء. أسئلته المنطقية كذلك قادته إلى نتائج لا منطقية. (إذا بلغ الشيء حدّه آنقلب إلى ضدّه). هل كان هاملت يعيش حياته معكوسة؟ أهذا أحد أسباب غموض حياته؟
الأسئلة العقلانية أعلاه، مثلاً، اثارها إصرار الأمير الشاب فونتبراس على قتال البولنديين من أجل مساحة صغيرة وبعيدة على الحدود، لا تساوي شروى نقير.
كيف جعل هاملت، وهو العالم المثقّف، هذا الأمير المغامر، قدوة له؟
قد يكون من المفيد أن نذكر أنّ فونتبراس هذا، كنا قد رأيناه في الفصل الأوّل - المشهد الأوّل. قال عنه هوراشيو، صديق هاملت الحميم، إن هذا الأمير يريد أن يسترجع من الدانمارك ما خسره والده ملك النرويج في الحرب بين البلديْن، وقد جمع "فئات من المستميتين الخارجين عن القانون، من ذوي الشهية للطعام، والأجور اليومية، للقيام بمغامرة لآسترجاع الأراضي المذكورة التي خسرها والده بالقوّة"
إذا كان هذا حال فورتنبراس في السابق، فكيف يصبح مثال هاملت الأعلى، خاصة إذا علمنا أن فونتبراس حينما صادفه هاملت كان في طريقه، للقيام "بحرب عدوانية" كما وصفها قائده. قال عنها أيضاّ:"بدتْ الحرب وكأنها مرض مهلك...سخيفة وطائشة".
لا بدّ أنّ شيئاً خطراً طرأ على شخصية هاملت.
يقول S.C. Sen Gupta
"يصوّر شيكسبير في الفصل الرابع كما هو معروف، حالة هاملت الذهنية بالمقارنة مع فونتبراس، و"لرتيس" (شقيق أُوفيليا) الذي لا يتروّى في الأمور، ولا يحاجج، وإنما يقوم بالتنفيذ، والتنفيذ مباشرة. لكنْ مما لا يُفطن له في الغالب، هو انّ قرف هاملت من الحياة بات في طور التخلخل ليصبح نوعاً من الآنفصال الفلسفي، حيث الثأر، مهما حمّس نفسه له، سيبدو غير حقيقي إلى حدٍّ ما. يبدو الموت له الآن هو الحقيقة الوحيدة، ويُخلق الإنسان، وهو قدوة الحيوانات، ليكون مجرّد قوت للديدان، وهناك فرق قليل جدّاً بين ملك سمين وشحّاذ هزيل. هما طبقان مختلفان، على مائدة واحدة. تلك هي النهاية.(أنظرْ الفصل الرابع المشهد الثالث: 24-27)(ص:168).
بلغتْ لا عقلانيّة هاملت أوجها، حينما راح يقارن قضيّته العادلة المتمثلة بمقتل والده، بشاب طموح يسخر من عاقبة الأمور (أيْ بلا رويّة في أقلّ تقدير). تصوّر هاملت أنّ العظمة هي تعريض الحياة للموت حتى من أجل قشرة بيض. "العظمة أنْ تصطرع من أجل قشّة".
يقول Kenneth Muir:"المحاججة السطحية يناقضها التفصيل. فروح منفوخة بالطموح، حتى وإنْ أُعطيتْ صفة "الهيّة"آثمة بالخطيئة التي بسببها سقطت الملائكة...قشرة البيض والقشّة يؤكدان على لا أهمية الغنيمة، ويوضّح الحوار السابق، أنّ الشرف لم يكنْ معرّضاً للخطر...يُعجب هاملت بفونتبراس كنقيض له" (Heilman, (ed, ص:73).
يبدو أنّ المقطع التالي من المناجاة مرتبك في المخطوطات الأصلية لمسرحية هاملت، وهو:
"العظمة الحقيقية لا تعني الآندفاع إلى العمل
لأي قضية تافهة، ولكنّ العظمة أن تصطرع
من أجل قشة إذا بات الرهان على الشرف"آجتهد كثير من النقّاد الضليعون في إصلاحه، ولكنّه بقي عصيّاً ومستغلقاً. قد يكون من المفيد الآطلاع على ما قاله Harold Jenkins:"يبدو واضحاً أنّ ما يؤكده هاملت وشيكسبير، ولو أن الكلمات لا تقول ذلك بدقّة، انْ لا وجود للعظمة في الآمتناع عن القيام بعملٍٍ ما لأن الدوافع غير كافية. قد تكون هناك فضيلة في الآمتناع، وهذا شيء لا ينكر. ولكن أي فضيلة كهذه...ليست عظمة بالتأكيد" (ص:529).
مع ذلك يبقى النصّ غامضاً لسقوط بعض الكلمات من النصّ الأصلي في الأغلب.
ربّما كره هاملت في هذه المرحلة من حياته، كل ما يتعلّق بعقله، لأنّه هو الذي جعله يمتنع أو يتردّد في أخذ الثأر. ربما كره نفسه من جرّاء ذلك أيضاً. وها هو الآن يجد في القوة منقذا له، وما همّ إنْ كانت على حقّ أم لا. يصيح هاملت في آخر المناجاة:
"آ، من الآن فصاعداً،
لتكنْ أفكاري دموية، أو لا تكون شيئاً يُذكر"
المناجاة السابعة
ما من حَدَثٍ مرّ، وما من أحدٍ عرفْتُهُ
إلاّ ويقدّمُ شهادةً ضدّي ويحثّني
على ثأري الخامل
ما الإنسانُ إذا كان جُلُّ ما يسعى إليه في الدنيا
هو الأكلُ والنومُ. بهيمة، لا أكثر.
بالحقّ، لقد مكّننا الربّ من قوّة الآستبصار الشامل
لنتأهّل ما مضى ونزِنَ ما نقوم به في الغد
لم يُعْطِنا تلك القدرة والعقل الخليق بالآلهة
ليتعفّنَ فينا جرّاء عدم آستعماله.
أهذا عجزُ حَيَوانٍ عن استعادة الماضي، أمْ
الارتياب الجبان من التفكير الدقيق جدّاً في العواقب -
ولو قطّعناه أرباعاً، لكان ربعٌ واحدٌ منه تبصّراً
وثلاثة أرباعٍ جبناً - لستُ أدري، لماذا ما زلتُ عندي قضيّة، وإرادة، وقوّة ووسيلة، لإنجازه
أمثلة ثقيلة ثِقَل التراب (1) تحضّني
أنظرْ إلى هذا الجيش بأعداده الغفيرة ونفقاته
يقوده أميرٌ رقيقٌ وغضّ السنوات
وله روحٌ مفعمةٌ بطموحٍ سنيّ
راح يسخر من عاقبة الأمور المجهولة
معرّضاً حياته الفانية وغير الآمنة
لكلّ ما قد يصيبها من حظّ،أو موت ٍ، أو خطر
من أجل أتفه الأشياء، ولو كانت قشرة بيضة
العظمة الحقيقية لا تعني الاندفاع إلى العمل
لأيّة قضيّة تافهة.ولكنْ العظمة أنْ تصطرع
من أجل قشّة إذا بات الرهان على الشرف
أين أنا من هذا إذنْ
أبي قُتِلَ وأمّي دُنِّستْ بالعار
ومحرّضات عقلي وعاطفتي (2) هل أتركها جميعاً تهجع
بينما أرى - يا لَعاري - موتاً وشيكاً
سيُصيبُ عشرين ألفَ رجلٍ من أجل نزوة السعي وراء الشهرة
يذهبون إلى قبورهم كأنهم ذاهبون إلى أسرّة نومهم
يحاربون من أجل رقعةٍ من الأرض، لا تكفي
لالتحام جيشيْن متقاتليْن، ولا تكفي لأنْ تكونَ مقبرة
لدفن موتاهم. آ، من الآن فصاعداً،
لتكنْ أفكاري دموية، أو لا تكون شيئاً يُذكر- Gross 1 - في النصّ وهي تعني في بعض الشروح: واضحة أو قذرة.اخترنا: ثقيلة لأنها تتناسب مع المسؤولية ومع تراب القبر. في الأبيات السابقة ما من دليل على الوضوح أو القذارة.Blood2- الكلمة في النصّوكان يعتقد أنّه مركز العاطفة، وهو يقابل العقل باطراد.
التعليقات
واو
سرى احمد -"ويُخلق الإنسان، وهو قدوة الحيوانات، ليكون مجرّد قوت للديدان، وهناك فرق قليل جدّاً بين ملك سمين وشحّاذ هزيل. هما طبقان مختلفان، على مائدة واحدة. تلك هي النهاية" كلمات مخيفه لشدة صراحتها
''طاقة عراقية
ابو بدر -بعيدا عن مضمون هذه الدراسة التي لااجد نفسي اهلا لتقيمها . اعتقد ان الاستاذ صلاح طاقة عراقية وامكانية هائلة تختزل تجربة انسانية كبيرة ويمثل ماتبقى من الاجيال المؤسسة للثقافة العراقيةفله مني كل الحب
صلاح طاقة
شاذل -نعم لديك حق رغم بدائل الطاقة ونخاف ان ينفجر صلاح طاقة. نطالب نشر التعليقات الساخرة في عالم جامد تمثله الطاقات التي بنت الانحطاط العربي
وقاحة
نعيم شريف -إستجابت إيلاف بكرم للتعليق المريض للمدعو شاذل ، واود من أيلاف أن تكون عادلة مع الجميع فينشر تعليقاتهم ، كثيراً ماحُجبت تعليقاتُنا لأنها بأسمائنا الصريحة على عكس المحظوظين من خفافيش الظلام بأسمائهم المستعارة ، للسيد شاذل أقول : لماذا تُصدع رأسك الصغير بقراءة مواضيع كبيرة لقامة سامقة مثل صلاح نيازي ، لماذا لاتذهب للقراءة في مواضيع سطحية تُلائم شخصيتك الضحلة؟أعلمُ تماماً أنك لاتملك الشجاعة لتقول إسمك الحقيقيولكن أعلم أن الإنحطاط العربي الذي تتكلم عنه هو تراكم ذوات لها ضحالتك نفسها ، صلاح نيازي طاقة كبرى ، شاعر كبير ومترجم قدير على رغم أنفكالذي تعود التنفس في الأوحال