ثقافات

رجوع الشيخ هنري ميلر الى صباه

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هوامش على "أرق أو حماقات الشيخوخة الجميلة" لهنري ميلر صالح كاظم من برلين: حين يعالج كاتب إيروسي مثل هنري ميلر(1891-1980) موضوعة الشيخوخة، فلابد أن يضع هذا الموضوع في إطار إيروسي يعيدنا -بشكل ما- الى الأجواء التي ميزت كافة أعماله ذات الطابع السيروي الذاتي مثل: "مدار السرطان" ومدار الجدي" و لاحقا في ثلاثية: "سيكسوس"، "نيكسوس"، "بليكسوس"، والتي يشكل الجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة محورها الأساسي. في كتابه "أرق أو حماقات الشخوخة الجميلة" -وفق الترجمة الألمانية التي جاءت بالإتفاق مع الكاتب مخالفة لعنوانه الأصلي Insomnia or the Devil at Large يعود الكاتب الى موضوعه المفضل باحثا عن سحر العلاقة الإيروسية التي تربط الرجل بالمرأة، متوجسا ومن منظور شيخ بلغ الخامسة والسبعين من عمره ليقع في حب مغنية بار يابانية لا يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين، وهي الواقعة التي تركت بصماتها على حياة هنري ميلر في مراحلها الأخيرة، حتى موته في العام 1980. هذا النص الذي يرفض الإنتماء الى"جنس أدبي" معين، هو كما يصفه الكاتب "محاولة للتحرر من الأرق" أي تجاوز ما يسببه العشق للعاشق من إشكالات يصعب تجاوزها مع تقادم العمر، إذا أخذنا بنظر الإعتبار أن المعشوقة التي يتحدث عنها يمكن أن تكون في عمر "حفيدته". وهو عبارة عن مزيج من الإستطرادات الفلسفية والسيكولوجية حول الشيخوخة والجنس أراد لها الكاتب أن تنشر بخط يده، مرفقة بتصميمات له، يعتبرها جزءا من متن العمل، مؤكدا إنه لا يريد أن يعتبرها رسوما، إذ أنها تحتوي كذلك "على كلمات مكتوبة وشعوذات ولغو تعبر عن المشاعر المختلفة التي تأتيك في الساعة الثالثة صباحا." وفي الحقيقة فأن ما يتحدث عنه ملر هنا هو محور النص الذي يتميز بخصوصية كبيرة، ربما بسبب التمرد الدائم لدى الكاتب ضد الحدود الداخلية والخارجية وميله للسخرية، وبشكل خاص تلك التي تتجه الى الذات: "في الساعة الثالثة صباحا، حين تكون عاشقا بشكل جنوني، وفي ذات الوقت يمنعك الإعتداد بالنفس من رفع سماعة التلفون للإتصال بها، ربما لخوفك ألا تكون هناك، تجد نفسك مرغما على أن توجه عدوانك ضد ذاتك لتخزها كما تفعل العقرب، أو تكتب لها رسائل لن ترسلها بالبريد، أو تدور في الغرفة، لاعنا ومتوسلا، تتناول الخمر أو تفكر بالإنتحار.."
تضعنا إستطرادات كهذه أمام العديد من الأسئلة التي تتعلق بسيكولوجيا الشيخوخة والرغبة في التجدد، البحث عن النقاء في إستجداء الحب ممن لا يمكن أسره في حدود علاقة غير متوازنة. غير أن ما يفعله ملر هو أكثر من ذلك، إذ أنه يضع نفسه تحت سكين الجراح، ليتطلع في دواخله ساخرا مما آل اليه هذا الشيخ العجوز الذي قضى جل عمره باحثا في الدروب السرية للرغبة والتواصل. وها هو ذا الآن يسعى لتعلم اللغة اليابانية بكل مطباتها، ثم يعود لسماع أغان لم يكن يحلم أن يستمع لها يوما، إذ كان ينظر إليها بإستعلاء سابقا، ويكتب لحبيبته رسائل بالبريد المسجل لا يبعثها اليها: "ربما ستصلها واحدة منها بعد أن أدفن تحت الأرض."
وفي موقع آخر يقول ساخرا: "الحب لا يرجو ولا يطالب." (هيرمان هيسه)(ما تبقى من هذه الجملة سأذكره لاحقا. فقد كتبتها على الجدار، لكي لا أنساها)"
ويواصل بلهجة تمتزج فيها السخرية بالمرارة والحيف: "ها نحن أمام هذا الرجل المشهور -كما يقال- (75 عاما لا أقل)، يلاحق وهما شابا. العجوز في أوج الرومانسية، والفتاة الشابة في أوج الخجل، إذ يجب عليها أن تكون خجولة، فمهنتها هي أن تجعل الرجال يغرمون بها، لتدفعهم لاحقا لشراء المجوهرات والملابس الغالية الثمن.."
مع كل هذا تبقى مشاعر ملر التي تشوبها أحيانا الميلانخوليا في أقصى درجات النقاء، فمشاعر الحب التي يكنها لهذه الصبية تغمر كيانه كله وتحفزه على تجاوز الحدود دون أن يقع في كمين الخوف من الخروج على المحرمات - التي لم يكترث لها طوال حياته-. وهو في كل ذلك يصطدم بهذا اللغز الذي أسمه المرأة: "يبدو إنها "كتاب مفتوح" للجميع ما عداي. فهي بالنسبة لي لغز. ولمعرفتي بنفسي فقد حاولت أن أرد السبب في ذلك الى موقفي تجاه النساء."
وبدلا من الإنغمار في وهج الأيروسية كما في كتاباته الأولى، نجد ملر هنا يدخل ضمن كينونة ضبابية، رومانسية على الأغلب، حتى ليبدو لنا مسحورا بالظاهرة بحد ذاتها: عجوز يعشق صبية جاءت من عوالم غريبة لتشده إليها، وتسحره لدرجة الإستسلام لكل ما يحيط بها من مظاهر الغرابة. وربما هذا هو ما يمنح النص درجة عالية من الشاعرية والكثافة، إضافة الى العمق الوجودي الفلسفي الذي يضفي على أعمال هنري ميلر طابعا متفردا ومتميزا. في رحلة العشق المتأخرة هذه يقودنا ميلر الى العديد من الإشارات الفكرية والهوامش التي تكشف لنا بالتدريج ملامح اللعبة الفنية بكل عناصرها ووفق الخطاب الإيروسي الذي بقي مخلصا له حتى موته. وهكذا نجده يستشهد بـ "وليام بليك" (1757-1827) لكشف قوة حافز التمرد لدى الفرد في مواجهة التسليم بالأمر الواقع: "النمر الغاضب هو أكثر حكمة من الحصان المدجن." النمر الغاضب في هذه الحالة ينتهك حرمات الشيخوخة ومخاوفها ليرتشق معاني الصبى مثل مراهق يكتشف للمرة الأولى عوالم العشق. في كل هذا يجد الكاتب نفسه مرة بعد أخرى في دائرة التحدي الأزلي للقدر الذي هو ضمن خطابه هذا "الشيخوخة" التي لا يريد أن يقر بها قيدا يحرمه من التواصل مع ماهو "جميل" و"نقي" بكل ما يحيط به من مخاطر السقوط في المجهول.
تحتوي الطبعة الألمانية الصادرة عن دار نشر رورورو، إضافة الى الترجمة الألمانية كذلك على صورة مستنسخة عن النص الأصلي كما كتبه هنري ملر بخط اليد، وكذلك على التخطيطات العديدة المرتبطة بالنص الذي قال عنه لورنس دوريل: ""الأرق" عمل ساحر، ويمكن أن أعتبره من ضمن أفضل أعمال ميلر وأكثرها حيوية وعفوية. وهو عبارة عن كنز ثمين حول قلب فقد صبره وحول الرقة وإبتسامة الشيخوخة."

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شكرا صالح
سافو -

صالح كاظملقد اشرق يومى بعد قراءة تقرير مكثف عميق كنت اتمنى الا ينتهىارجوك مزيدا من الاضافات لهذا الكاتب الفاتنسلم ذوقك