ثقافات

نخلة غاودي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
*الى: حسب الشيخ جعفر، صديقي و "صاحب" نخلة الله.أتاحت مناسبة المساهمة في الندوة المعمارية " بغداد: من رايت الى فنتوري"، التى نظمتها مدرسة العمارة في برشلونة/ اسبانيا في أوائل شهر تموز(يوليو) 2008، فرصة مواتية لرؤية اعمال "غاودي" المعمارية lt;على الطبيعةgt;، واستنطاقها ابداعياً، تلك الاعمال التى اعرفها جيدا، وكانت مثار إهتمامي المهني والاكاديمي طيلة سنين عديدة. وبعضها كان موضوعا اثيرا في محاضرات عديدة القيتها على طلبتي في قسم العمارة بجامعة بغداد. لكني ساقتصر الحديث الان على عمارة برشلونة، وبالطبع ايضاً على غاودي، مؤجلاً الكلام عن ندوة بغداد لوقت آخر؛ الندوة التى اعتبر تنظيمها كما هو موضوعها حدثاً ثقافيا مهماً، ان كان لجهة الاختصاص الدقيق، ام لناحية التداعيات المعرفية لذلك الحدث.
ترتبط برشلونة باسم معمارها lt;الارت نوفويgt; " انطوني غاودي" (1852-1926) Antoni Gaudi ارتباطا وثيقاً، بحيث تتماهى عاصمة الكاتالونيين مع شخصيته الكاريزمية وابداعه الاستثنائي. نحن، بالطبع، نزور مدن عديدة لرؤية منجزات معمارييها، لكن قليلة، وربما نادرة تلك المدن التى يقترن اسمها باسم معمار واحد، وتكتسب هويتها من منتجه تحديداً. وتحضر في هذا الشأن، كمثال يحاكي برشلونة، مدينة اسطنبول ومعمارها "سنان" وابداعاته المعمارية الفذة التى لا تزال تثير فينا الدهشة والاعجاب. لكن برشلونة غاودي مع هذا، تظل تختلف عن المدن الآخرى، محتفظة بخصوصية تنبع من فرادة منتج معمارها التصميمي، الذي مابرح يثير قدرا كبيرا من السجال حوله، وحول لغته المعمارية واسلوب مقاربته المهنية، تلك المقاربة التى تعيد الانسانية بين الفينة والآخرى" حالتها" المتفردة، العصية على الاستنساخ والتقليد. ذلك لان المخيلة البشرية ظلت على امتداد سنين التاريخ تجنح لافراز تمظهرات مشوبة بالتعقيد والتناقض ومترعة بالغموض وفرادة الاشكال كجزء من منظومة جدلية بين النظام واللانظام، العقلانية واللاعقلانية، القاعدة واستثناءها، والتى بها، بتلك المنظومة، يغتني المنتج الابداعي الانساني ويكتسب فرادته وتعدديته لينجو من تبعات الرتابة وايقاعها المتماثل الممل. نحن اذاً، ازاء ممارسة متفردة غير عادية تتوق لان تنأى بنفسها عن السياق وعن الخطاب ايضاً. انها ممارسة تستدعي الاستثناء واللانظام واللاعقلاني من تلك الجدلية الثنائية. فما اجترحه المعمار الكاتالوني (وهو وإن عدُّ نفسه اسبانيأً، لكنه يؤثر نعته بالكاتالوني)، يقع ضمن ما عرف،نقدياً، باسلوب "الار نوفو"Art Nouveau ، ذلك الاسلوب المعماري الابداعي المميز، الذي ظهر واختفي سريعاً، عند سنين التقاء القرن التاسع عشر مع العشرين. لكنه قبل نكوصه واختفاءه كان قد "اشعل" اوربا، وقتذاك، بحساسية جديدة، إشتغل عليها معماريون عديدون: من برشلونة وحتى موسكو، ومن غلاسكو الى روما. ومع إن هذا الاسلوب (هل كان حقاً اسلوباً؟) تسمى بتسميات عديدة طبقا لخصوصية المكان: فهو "ار نوفو" في فرنسا، و"موديرن" في روسيا، وهو " يوغيند ستيل" في المانيا، اما في النمسا فهو "سيزيسيون"، وفي ايطاليا "ستيلا لبيرتي" وفي اسبانيا دعى بـ "الارتي نوفين"؛ لكنه مع هذا فقد انطوى على مميزات محددة وواضحة من بينها القطيعة الابستيمولوجية التامة مع الاساليب المعمارية السابقة، والولع الخاص في استخدام الخطوط المائلة والمناسيب المتباينة، مع الاستعمالات الواسعة للمواد الانشائية الجديدة وخصوصا الزجاج والخرسانة؛ فضلا على توق "الار نوفيين" نحو توظيف الفنون التشكيلية والقطع النحتية والموزائيك والزجاج الملون Stained Glass لتكون جزءا لا يتجزأ من مفردات معالجة الواجهات لديهم، بالتزامن مع استخدام الحروف الكتابية بتشكيلاتها المميزة المعروفة.
على ان ارجاع نتاج غاودي الى مقاربة معمارية محددة، لا يمكنه لوحده ان يفسر بواعث ظهور تلك العمارة. نعم انها تسهم في توضيح تلك القطيعة الاسلوبية المفاجئة، وتستدعي المزاج المتقلب للذائقة الفنية التى ارتبطت بظهور واسع "للبرجوازيين" ونزوعهم نحو التفرد، و..و.. ؛ لكن كل ذلك ليس بوسعه ان "يضئ" منتج غاودي ويدرك بموضوعية قيمة ما اجترحه المعمار الكاتالوني. ما يمكن ان يضيئه، وما يجعل منه ذا قيمة فنية عالية، تواجد عوامل عديدة ساهمت في التعجيل في تكوين "ظاهرة" عمارة غاودي. منها خصوصية مدينته الساحلية الواقعة في شمال شرق اسبانيا، والمزاج، والتاريخ والجغرافيا، والعمارة والفن والفلسفة والزمن والاخلاق، والحياة الشخصية وطبيعة العلاقات الانسانية، كلها كان لها الاثر العميق في صياغة وبلورة اسلوبه الخاص الاستثنائي. من هنا فأن إطروحة "موت المؤلف" النقدية، ربما لا يمكنها ان تكون ذات جدوى في فهم واستيعاب عمارة غاودي. وتبقى الاشارة الى سيرة "المؤلف" الذاتية امرا لا مناص منه لادراك الظاهرة اياها من جوانب متعددة. هو الذي ولد عام 1852 في أطراف مدينة "تاراغونا" من اعمال برشلونة ؛ وكان الابن الاخير من خمسة ابناء لعائلة تمتهن اعمال النحاس والنقش عليه. وانطوني، هو اول "غاودي" يغيّر مهنة "الصفاريين" التى استمرت العائلة في الاشتغال عليها لاربعة اجيال كاملة!. انتقل غاودي لاحقا الى برشلونة، وفيها اكمل دراسته المعمارية متخرجا من مدرسة العمارة فيها ومحرزا لقبه المهني في سنة 1878. وكمعمار وقع تحت تأثير امور عديدة، وغالباً ما وجد ايحاءات لاعماله في كتب تعود الى القرون الوسطى، وبهره الاسلوب الغوطي، كما اهتم كثيراً في دراسة الاشكال العضوية في الطبيعة. ويذكر عنه، بانه وقع ايضا تحت تأثير مؤرخ العمارة والناقد الانكليزي "جون رسكين" (1819-1900)، الذي حمل الى غاودي اعتقاد بان " التزيين هو جوهر العمارة" ؛ كما اهتم ايضا في كتابات " فيولي لي -دوك" الفرنسي، بالاضافة الى دراسته لبعض اعمال معماري برشلونة العاملين في ذلك الوقت. لكنه وكما هو معروف، اختط لنفسه درباً خاصا به مؤثراً القطيعة على مع ماهو سائد، ساعيا بعمله وراء ماهو غير مألوف ومهتماً في كل ما يبعث على الغرابة والشذوذ. ومع نزعات التفرد التى اتسم بها منتجه المعماري، فقد ظل غاودي وفيا ومخلصا لاطروحته، واهباً حياته لها، مكرسا جهده المهني في تحقيق ما كان يؤمن به ايمانا عميقا. وليس اشتغاله على رائعته " ساغرادا فاميليا" الذي استمر 43 سنة، ألا دليلا على ذلك الوهج الايماني والانتماء المهني. توفي غاودي في 10 حزيران (يونيو) سنة 1926، بعد ان دهسه "ترامواي" مسرع في المدينة التى احبها، لكن احداً من سكنتها لم يتعرف عليه، نظرا لملبسه المتواضع الذي رأى فيه المارة احد ابناء السبيل، وظنوه صعلوك من صعاليك المدينة الكبيرة ومتشرديها، ولم يكترث به حتى سائقي التاكسى الذين رفضوا ايصاله الى المستشفى، لكنه على اية حال نقل الى مشفى الفقراء، ووجده صديقه فيه لاحقا، غير انه مالبث ان فارق الحياة بعد خمسة ايام من واقعة دهسه، وإثر وفاته اتشحت برشلونة كلها بالسواد معربة عن حزنها والمها على معمارها الفذ، ودفن بمراسيم مبجلة شارك فيها المسؤلون جنبا الى جنب جمهور حاشد من "البرشلونيين"؛ وتم دفنه في احد اقبية "ساغرادا" ذاتها، الكنيسة التى كرس حياته لتصميمها والاشراف على اعمال تنفيذها، تلك الاعمال التى ماانفكت مستمرة طيلة عقود عديدة من السنين حتى بعد وفاته، ومن المحتمل ان تكتمل، كما متوقع لها، في سنة 2020!.
دعونا نتأمل عمارة برشلونة واستنطاق نماذجها التصميمية، منْ ما انتهينا توا اليه: من "ساغرادا فاميليا"؛ انها المبنى الاشهر في منتج عمارة غاودي، والاضخم بناءا والاعمق تمثيلا لتصوراته الفكرية ومقاربته التصميمية. وكنيسة "ساغرادا فاميليا" Sagrada Familia، كما يدل اسمها تعني "العائلة المقدسة" منذورة لذكرى المسيح وعائلته المقدسة. وقبل ان تسمى الكاتدرائية بذلك الاسم، عزم حشد من رجال الدين ومناصري "القديس يوسف" الى بناء كنيسة كبيرة مكرسه له في برشلونة، يّمول متبرعون عديدون تكاليف بنائها، وكانت غالبيتهم من الفقراء، ولهذا فانها دعيت احياناً بـ "كنيسة الفقراء"!. ويبدو ان المعمار الذي كلف بالتصميم قبل غاودي، لم يوفق ان يوازي بين مقدار الكلف المرصودة للبناء، ونوعية التصميم المقترح، مما اضطر مجلس ادارة المشروع الى عزله بعد فترة قصيرة من بدء التنفيذ، وفي سنة 1883 اختير انطوني غاودي بدلا منه لاعمال التصميم والاشراف. وابتداءا من ذلك التاريخ وحتى وفاته، كرس غاودي كل جهده ومعرفته وعبقريته لتحقيق "كنيسته"، ومنذ عام 1914 وهب نفسه بالكامل، هو الذي الذي لم يجد وقتا للزواج وتأليف عائلة، الى قضية تنفيذ "حلمه التصميمي". وقد عاش غاودي، في السنة الاخيرة من عمره في استديو خاص به يقع في احد احياز "ساغرادا" ذاتها. يعكس المخطط العام لكاتدرائية "ساغرادا" شكل الصليب اللاتيني ذي الاطراف المتماثلة تقريباً. صمم غاودي هيئتي مدخليّ الممر العرضي للمبنى lt;جناح الكنيسةgt; بصيغ توحي الى موضوعات "آلام المسيح" في البوابة الشرقية، والى " ميلاده" في البوابة الغربية؛ في حين كرس موضوعة المدخل الرئيس الجنوبي، الى معاني "التسبيح" او "السعادة السماوية". كما صمم اربعة ابراج فوق كل مدخل من المداخل الثلاث بعلو موحد بلغ ارتفاعه نحو 100 مترا. ويشير مجموع تلك الابراج الى الرسل الاثنى عشر. ثمة اربعة ابراج اخرى موقعة حول القبة المركزية، مكرسة الى المبشرين بالاناجيل الاربعة، بالاضافة الى برجين منذورين الى "مريم العذراء". ويبلغ ارتفاع هذه المجموعة من الابراج، وفقا لتصاميم غاودي، 125 مترا، واخيرا هناك برج رئيس هو الاعلى في الكاتدرائية مكرس الى " السيد المسيح" سيبلغ ارتفاعه نحو 170 مترا وفقا للتصميم.
حين توفي غاودي سنة 1926 كانت اعمال المدخل الشرقي وابراجه الاربعة قد اكتمل بنائها. وفي الوقت الراهن تم انجاز المدخل الغربي وابراجه الاربعة ايضاً، كما انجز الممر الرئيسي للكنيسة. والاعمال الانشائية لاتزال تجرى في اقسام الكاتدرائية الاخرى. ثمة تخطيطات عديدة ونماذج كثيرة لعناصر تكوينية خلفها غاودي تكفل اكمال البناء ضمن التصورات التى وضعها المعمار الكاتالوني. وبمقدور المرء ان يشاهد التخطيطات الاصلية التى وضعها المعمار في معرض دائم بقبو الكنيسة يحكي ايضا قصة بناء ذلك المنشأ الفريد الذي منح برشلونة هويتها وكرس "اميجها" في مخيلة سكنة عاصمة الكاتالونيين والكثير من زوارها العديدين.
تبدو حيثيات تكليف غاودي مشروع اتمام الكنيسة عصية على التصديق، لجهة مفارقتها الواضحة. اذ هل كان السيد "خوان مارتوريل"، وهو رئيس مجلس ادارة الكنيسة في حينها وصاحب مقترح التكليف، يعي بان تصميم غاودي سيكون حقاً اقل كلفة من سابقه؟ فالمعمار الشاب المكلف، فضلا على انه كان وقتذاك قليل الخبرة، كان ايضا غير معروف مهنياً على نطاق واسع. لكنه ظل يوصف كما كان طالبا تارة بالجنون وتارة آخرى بالعبقرية. اترى تلك الصفة الملتبسة بين نقيضين هي التى اغرت "السنيور مارتوريل" بفكرة تكليفه بأعمال تصميم الكنيسة؟. في وقت كان المزاج العام مهيأ تماماً لتغييرات جذرية في الذائقة الفنية، بل ويمكن القول، ان ذلك المزاج، المعبأ بنَـفَس التغيير والقطيعة، كان، وقتذاك، يتقصى عن تمثلات ابداعية لذلك الاحساس. واياً يكن الامر، فنحن ازاء مصادفة تاريخية نادرة؛ ستكون عواقبها شديدة التأثير على المعمار نفسه، وعلى معطى المنتج المعماري العالمي. وما سنعرفه لاحقا بخصوص التكليف، بان فكرته لم تكن خطأً مهنيا على الاطلاق، وانما كانت واقعة، وياللغرابة، صائبة جدا، لما انطوت عليه من مصداقية عالية قُـدر لها ان ترهص بالآتي وان تستشرفه عن بعد.
"ها هي أمامي - كتبت في دفتر ملاحظاتي، عندما شاهدت الـ "ساغرادا" لاول مرة- جليلة وشامخة، غير منتهية. وربما جزء من "شموخها" ان بنائها لايزال مستمراً. ليس ثمة وضوح في التكوين، وقد يكون.. لا لزوم له هنا. ثمة عناصر متنوعة ومختلفة تحصر فضاءاً، لكنها في العديد من الحالات لا تحصره؛ بمعنى ليس هناك فراغ معماري... هناك كتل متنوعة وعناصر مزدحمة؛ وهناك مفهوم جديد للعمارة يرسيه هذا المعمار الكاتالوني. ومع ضجيج العناصر المستخدمة في الابواب التى اراها امامي، فان هيئاتها غير مملة ولا تبدو سمجة، انها مقبولة رغم غرابتها وكأنه يتعين ان تكون هكذا: مداخل بيوت الله، التي تمثل في بعض معانيها سطوة الخالق وجبروته.. وفردوسه ايضا!". وفعلا فان الناظر الى "ساغرادا" يتملكه شعور خاص، بأن المرئي ليست عمارة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها ليست نحتاً مجرداً ايضا. انها جزء من مفهوم اعمق، من هذا وذاك. وربما تكمن مأثرة المعمار في هذا تحديداً؛ في اجتراحه لمفهوم ابداعي جديد؛ مفهوم ربما لم يعر احد من النقاد اهمية كافية له، وكان علينا ان ننتظر قرنا بأكمله لنرى مقاربات عديدة من عمارة "ما بعد الحداثة" تستقي طروحاتها التصميمية من النبع اياه الذي اجترحه يوما ما انطوني غاودي.
يتعين عدم الاكتفاء برؤية المبنى من الخارج؛ ينبغي ان يعاين من الداخل ايضاً، لادراك قيمة العمارة المختلقة. صحيح ان غاودي لا يكترث كثيراً في تجديد نوعية مخطط الكنيسة، (الذي بقى، بالمناسبة، العنصر التقليدي الوحيد في مجمل القرارات التصميمية للكاتدرائية). لكن هذا لا يعوق من رؤية التجديدات التصميمية التى اوجدها المعمار في طريقة "رفع" المخطط العادي حيزياً. مايجعل المتلقي لان يكون شاهداً على تمرين غاية في التشويق لثنائية الداخل والخارج: الهيكل الخارجي المتسم على فرادة تشكيلية، وبين العناصر الداخلية المفرطة في غرابة اشكالها والمتخمة بالتفاصيل المشوشة لوظائفها كعناصر انشائية فاعلة ينهض عليها ذلك الهيكل الخارجي. لا يترك المعمار اية سانحة لتذكيرنا بولعه في التفاصيل، التفاصيل ذات الاشكال الغريبة، غير المتوقعة ودائما المزدحمة؛ حتى يظن المتلقي بان "سقالات"Scaffolding البناء المنتشرة داخل فضاء الكنيسة، ماهي الا جزء من الفكرة التكوينية واحد قراراتها التصميمة. ثمة تيجان لاعمدة رخامية باشكال غير عادية، تتوزع منها "اغصان" اعمدة مائلة آخرى "يتكئ" عليها سقف الكنيسة الرخامي باشكاله المقعرة الملء بالتفاصيل. ويضفي نور النوافذ الواسعة بزجاجها الملون سكينة وبهجة الى فضاء المبنى الغاص بـ "غابة" من الاعمدة الرشيقة التى "تذوب" كتلتها في اديم ذلك الفضاء نصف المعتم!. ثمة رسالة ذات دلالات رمزية، يتوق المعمار إيصالها لنا: نحن مشاهدي و"نظارة" فضاءه المميز. وهذة الرسالة المفعمة بالقلق الابداعي، تخفي شكاً بالحضور، كما تعلن عن عدم يقينية بالغياب: فحضور العناصر الانشائية الملموسة، يقابله نزوع لتهشيمها وتفتيتها توطئة الى تغييبها. في مثل تلك الاجواء الملتبسة والمشككة، تبدو كلمات "النفـّري" (ت 965 م) المتصوف الجوال التى تذكرتها، وانا في حضرة المكان، متسقة جدا مع مغزى وقيمة الفضاء المصمم. lt; اوقفني- يقول النفـري- وقال لي: الجهل حجاب الرؤية، والعلم حجاب الرؤية. أنا الظاهر: لا حجاب؛ وانا الباطن: لا كشوف!gt;.
عندما تقرر إنشاء الكنيسة في الموقع الذي تنهض علية كنيسة " الساغرادا"، لم يكن احد يتصور ان شكل البناء سيتخذ تلك الهيئة الاستثنائية المتسمة على فرادة اللغة المعمارية والمنطوية على ضخامة في المقياس الهندسي، وفق ما اقترحه غاودي. ولهذا فان حدود "المربع" المكاني، المستل من منظومة التخطيط المعتمدة على "الشبكة المتسامتة" Grid System، والتى هي عماد اسلوب تخطيط احياء مهمة في مدينة برشلونة، بدا وكأنه يفي بموقع كنيسة، أشكال هيئتها العامة، كانت في تصور كثر، سوف لن تبتعد عن سياق هيئات الكنائس العديدة المنتشرة في المدينة الساحلية. وبما أن مجرى الاحداث اتخذ مسارا آخرا، وباتت الـ " ساغرادا"، تمثل الحدث التخطيطي الاهم في خط سماء المدينة و" سيلويتها" Silhouette، فأن مشاهدة المبنى عن قرب، وضمن محددات الموقع، اضحى اليوم، (وسيضحى اكثر مستقبلا) امرا عسيراً يعيق رؤية الكاتدرائية بشكلها الكامل، ويجزأ مشهدها البانورامي ويلغي امكانية التمتع بمقارنات الجزء مع الكل. بتعبير آخر، أن "امتلاء" الموقع بكتل المبنى، وانعدام وجود مسافة كافية للرؤيا سينجم عنه مشاكل بصرية عديدة، الامر الذي يقلل من أهمية المنجز ويبخس حقه الابداعي. ولهذا فان مراعاة استحقاقات التخطيط الحضري وابراز قيمة المأثرة المعمارية المنجزة، يستدعي وجود lt;ميدان gt; مفتوح امامها، نعتقد ان مربعاً آخرًا مقتطع من سياق المنظومة التخطيطية سيكفل وجوده تفادي جميع السلبيات التى تعيق مشاهدة الـ" ساغرادا" عن قرب. وهذا المقترح يتصادي مع تجارب تخطيطية مماثلة حدثت في الماضي وتطبق الان على نطاق واسع في مثل هذه الحالات. لنتذكر الميدان المفتوح امام كنيسة " نوتردام" في باريس، وكذلك " الساحة" المكشوفة بجانب "مركز بومبيدو" في العاصمة الفرنسية ذاتها، فكلاهما يعتبران بمثابة " الفراغ" المعادل للكتلة المعمارية المبنية ويكمـّلها. فضلا على ان وجود هاتين الساحتين يسهم في امكانية التمتع برؤية المبنى عن كثب. (اطلعت لاحقاً، في احد المصادر، من أن غاودي نفسه اعرب عن قلقه بشأن ايجاد مدى رؤية مناسبة لمبناه، مقترحا ان "يقتطع" مثلثات في عمق مربعات المنظومة التخطيطية بغية تأمين الرؤية المناسبه للكاتدرائية الضخمة). تشير فحوى غالبية الكتابات التى تعاطت مع منجز غاودي، بانه ممثلا لتيار "الار نوفو" في نسخته الاسبانية. وهو أمر نراه صحيحاً لجهة انعكاس مقومات ذلك التيار وخصائصه، التى اشرنا الى بعض منها قبل قليل في هذه الدراسة، على منتج المعمار. بيد أن ما يمكن القول هنا ايضا، من أن فعل الانعكاس لتلك الخصائص جرى لدى غاودي، بصيغ جد متفردة، وشديدة الخصوصية، وذات طابع شخصاني مميز. فالقطيعة، مثلا لديه، قطيعة حادة ومباغته، تلغي السابق تماما وتنفيه عن امكانية الحضور. كما ان توظيف الخاصية الفنية في المعالجات المعمارية اتسمت لديه ايضاً، بفيض من الفنطازيا التشكيلية، التى لم تكن هيئآتها ولا حتى موضوعاتها ضمن إهتمامات الفنانين التشكيليين انفسهم.. وعدت طريقة استخدامه للمواد الجديدة وخصوصا الخرسانة والسيراميك بمثابة تهشيم كامل للتصورات المعتادة لمفهوم " التكتونية" Tectonic الذي نعرفه في اساليب الانشاء!. بمعنى آخر، ظلت قراءة القيم والسمات التى ارتبطت بمفهوم "الار نوفو" تقرأ من قبل معماريين عديدين ذوي ثقافات مختلفة بصورة، كادت ان تكون متماثلة؛ بيد انها لدى غاودي كانت قراءة خاصة، اتسمت بالتفرد الذي يصل حد الغرابة التكوينية. على أن هذه الغرابة "الغاودوية" لم تكن دائماً بصيغة واحدة. اذ مرت تماثلاتها في سيرورات متعاقبة لتصل بالنتيجة الى صيغة المأثرة التصميمية التى نراها جلية في الـ "ساغرادا"، عمارتها التى تمنحنا كثير من الدهشة وتجعلنا مفتونين بهيئتها المتفردة.
لقد اشتغل غاودي على تحولاته الاسلوبية بدأب مثابر ومواظبة جادة. وفي نظر كثر من النقادlsquo; فانه ظل يختبر مصداقية قرارته التصميمية في مبانٍ عديدية، يلحظ عمل تلك القرارات مطورا تارة بعضها، مثريا بها مقاربتته المهنية، ومسقطا تارة آخرى، تلك التى لا تتساوق كثيرا مع اطروحته وتقصياته التكوينية. ونرى ان افضل وسيلة لادراك قيمة ما اجترحه المعمار الكاتالوني هي مشاهدة اعماله الاساسية ومتابعة مسار تطورها ورصد حتى تناقضاتها، ومن ثم الحكم على عمارته من خلال ذلك المسار، وليس عبر مبنى واحد، حتى ولو كان ذلك المبنى " الساغرادا فاميليا" نفسها!. وفي هذا الشأن سيكون مفيدا جدا تعقب بدايات غاودي التصميمية، والنظر الى طبيعة التجديدات التكوينية التى سنجد صدى لها في تصاميم ابنية اخرى لاحقة، بالاضافة الى أهمية جديدها مقارنة بالسياق التصميمي العام ونوعية الخطاب المعماري يومذاك. □□

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ساغرادا وغاودي
Nada -

أتوجه بالشكر والاحترام للدكتور سلطاني على هذه المعلومات القيمة التي قدمها بهذه المقالة حول التفاصيل الدقيقة عن حياة غاودي ومأثرته ساغرادا فاميلياوشوقنا أن نزورها ونشاهد تفاصيلهاالمعمارية الفريدةعن قرب,متمنية للكاتب الاستمرار باهاشنا بمقالاته الفصيحة الغنية بالمعلومات المعمارية و التاريخيةالتي تفتقدها المكتبة العربية, واننانستمتع و نجد فائدة كبيرة لدى قراءتنا لمقالاته

ساغرادا وغاودي
Nada -

أتوجه بالشكر والاحترام للدكتور سلطاني على هذه المعلومات القيمة التي قدمها بهذه المقالة حول التفاصيل الدقيقة عن حياة غاودي ومأثرته ساغرادا فاميلياوشوقنا أن نزورها ونشاهد تفاصيلهاالمعمارية الفريدةعن قرب,متمنية للكاتب الاستمرار باهاشنا بمقالاته الفصيحة الغنية بالمعلومات المعمارية و التاريخيةالتي تفتقدها المكتبة العربية, واننانستمتع و نجد فائدة كبيرة لدى قراءتنا لمقالاته