ثقافات

الحلم البعيد: مراسلات تسيلان وباخمان

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح كاظم من برلين: العلاقة العاطفية بين شاعر وشاعرة غالبا ما تكون محاطة بالصعوبات، ذلك أن ما يربطهما عاطفيا، يقف على الأغلب ضد ما يفصلهما عمليا، أي مهنة الكتابة، والشعر على وجه التحديد. من هنا فان علاقة من هذا النوع تكون مادة غنية لتكهنات النقاد والباحثين ولفضول الجمهور، ربما قد تلقي بعض الضوء على جوانب للعمل الإبداعي لم تحصل سابقا على ما تستحق من الاهتمام. أما حين يكون الحديث عن شاعر وشاعرة لعبا دورا أساسيا في التأسيس للحداثة في القرن العشرين، ألا وهما باول تسيلان (1920-1970) وإنغبورغ باخمان (1926-1973)، فلا شك بأن هذا سيضعهما من جديد في قلب الحدث الأدبي والثقافي، لو أخذنا بنظر الاعتبار بأن هذه العلاقة كانت في منتهى السرية، رغم ما كان يتسرب بين حين وآخر حول وجود رسائل متبادلة بينهما، تدل على علاقة عاطفية بينهما لم تدم - حسب ما يروى- طويلا، حتى رأى البعض فيها مغامرة من مغامرات الشباب، لم يكن لها أي تأثير على عملهما الإبداعي. غير أن ما يكشفه لنا كتاب: " إنغبورغ باخمان وباول تسيلان: زمن القلب، الرسائل المتبادلة" الذي صدر قبل فترة قصيرة عن دار نشر سوركامب، هو أكثر من ذلك بكثير. ويشير ناشرو الكتاب (برتران باديو، هانس هويلر، أندريا شتول وباربارا فيدمان)- وهم من الباحثين المختصين بعمل الشاعرين- الى أن العلاقة بين تسيلان وباخمان بدأت في العام 1948، حيث كانت باخمان في الثانية والعشرين من العمر أثناء لقاء جمع ايلسه آيشنغر والرسام السريالي إدغار جينيه

باول تسيلان: قصيدتان

في مصر

نوْلكَ أن تقول لعين الغريبة: كوني الماء
نولك أن تبحث في عين الغريبة عن اللواتي
تعلم أنهن في الماء
نولك أن تدعهن يخرجن من الماء:
راعوت! نعمي! مريم!
نولك أن تزينهن حين تراقد الغريبة
نولك أن تزينهن بغيمة شعر الغريبة
نولك أن تقول لراعوت ومريم ونعمي: انظرن
إني مع الغريبة أنام
نولك أن تجعل الغريبة التي بجنبك أزينهن
نولك أن تزينها بلوعة فراق راعوت، مريم ونعمي.
نولك للغريبة أن تقول
انظري إني مع أولئِكَ قد نمت.

(من "خشخاش وذاكرة"، 1948)

إضاءة: يجدر التنويه هنا إلى أن باول تتسيلان، بعد بضع سنين على كتابة هذه القصيدة (1948)، تزوج (1952) من امرأة مسيحية، وهي الفنانة الفرنسية جيزيل ليترانج، وربما هي "الغريبة" (الأجنبية). كما أن راعوت الموابية، الأجنبية التي دخلت دخولاً شرعياً في أسرة إسرائيلية بزواجها من بوعز (وهو رجل ثري قريب لزوج نعمي)، وهي جدة داود الذي لعب دوراً في توطيد اليهودية عبر التاريخ. (الترجمة العربية لهذه القصيدة ظهرت، مع الاضاءة،في "باول تسيلان: تكلّم أنت أيضا"/ منشورات فراديس، باريس 1995).


KOuml;LN, AM HOF

زمنُ القلب، كائناتُ الحلم
ترمزُ
إلى رقم منتصف الليل.

بعضُها تكلّم في الصمت، بعضُها سكتَ
بعضُها تابع طريقـَه.
مُنفيٌّون وضائعون
كانوا في البيت.

أيتها الكاتدرائيات.

أيتها الكاتدرائيات التي لَمْ يرها أحدٌ
يا أنهارُ لم يسمعها أحدٌ
عميقة فينا أنتن أيتها الساعات.

(من "شبيكة لغوية" 1959)

* لدي ترجمتان فرنسية وانجليزية لهذه القصيدة. ومع هذا كان علي أن استعين بالصديق صالح كاظم لفهم ما غمض في الترجمتين. فـ Einiges في الترجمة الفرنسية جاءت un peu (قليل) وفي الترجمة الانجليزية Something (شيء ما) بينما المعنى كما أوضحه الي صالح: "بعضها". في الترجمة الانجليزية getrauml;umten جاءت حرفيا: "المحلومون بهم"، أما في الفرنسية فجاءت مؤولة: "كائنات الحلم"، فوجدت التأويل هنا صائب وأجمل، إذ أن، في نهاية الأمر، الأشخاص أو الأشياء التي نحلم بها هي فعلا مواد، شخصيات أو كائنات الحلم. وأيضا هناك اختلاف في ترجمةwaren ففي الفرنسية eacute;taient "كانو" بينما في الانجليزية tarriedجاءت لبثوا.. فضلت أن اضع كانوا رغم ان "تلبثوا" تأويل محتمل. وفضلت ايضا أن أضع "أيتها" كمقابل لـ Ihr كما جاءت في الانجليزيةO بينما في الفرنسية ترجمت حرفيا: Vous "أنتن".

ترجمة عبد القادر الجنابي

والدكتور لويكر، ورد هذا في رسالة كتبتها باخمان الى والديها، مؤكدة فيها على أن "الشاعر باول تسيلان جذب إنتباهي." وفي رسالة لاحقة تتحدث الشاعرة عن تحول جرى في حياتها: "الشاعر الذي تعرفت به قبل يومين عند الرسام جينيه أصبح مغرما بي بشكل رائع.."
خلال هذه الفترة، وبالإرتباط مع علاقته بباخمان كتب باول تسيلان قصيدة أسماها "في مصر" (انظر ترجمتها في الاطار الموازي)، أهداها الى باخمان. في هذه القصيدة يتحدث تسيلان، وهذا الكشف يعود لناشري الكتاب، عن علاقته بباخمان:
هو اليهودي الذي يحمل في أعماقه إرث النبي موسى، معددا أسماء نساء ينتمين لزمن غابر، مضى بلا رجعة، ويضعهن بمواجهة "الغريبة" التي هي إنغبورغ باخمان، هذه الغريبة التي شاركها السرير في فيينا. وها هي الغريبة تتداخل مع إرث النساء اليهوديات، متماثلة معهن (انظر قصيدة: في مصر في الاطار الموازي). بعد هذا اللقاء يعود تسيلان الى باريس، مخلفا وراءه عاشقة مليئة بالحنين والأمل.
ومما يجذب النظر أن الرسائل المتبادلة بين الإثنين لا تتطرق الى مواضيع لها علاقة بالشعر، بل تتركز على العلاقة الشخصية بينهما، في كشف فيه الكثير من الخصوصية. من هنا، فأن هذه الرسائل في خصوصيتها تفتح الأبواب أمام عوالم كانت مجهولة بالنسبة للنقد الأدبي فيما يتعلق بحياة الشاعرين.
وتتطرق الرسائل، بشكل مقتضب، الى الزيارة التي قامت بها باخمان الى باريس في العام 1950 لتلتقي هناك بتسيلان، حيث أقاما سوية في فندق باريسي، استجابة لرغبة باخمان في بناء علاقة دائمة مع تسيلان، إلا أن هذه المحاولة سرعان ما باءت بالفشل وأنتهت بعودة باخمان الى فيينا، وربما جاء نتيجة للتناقضات التي سرعان ما برزت على السطح بين الشاعر الذي أفلت من المجزرة بمعجزة، وبين الشاعرة النمساوية المولودة في كلاغينفورت، حيث تم الترحيب بأدولف هتلر بحماس من قبل أغلبية السكان بعد احتلاله للنمسا. مع ذلك بقيت باخمان متعلقة بباول تسيلان، مع كل ما في هذه العلاقة من تناقضات: "أحبك ولا أريد أن أحبك. وهذا أمر متعب وقاس. أني أحبك قبل كل شيء. وأقول لك ذلك اليوم وأنا على وعي بأنك ربما ضجرت من هذا الأمر و لا تريد أن تسمع هذه الكلمات لاحقا."
غير أن تسيلان على ما يبدو لم يكن في حينها متحمسا لهذه العلاقة: "عليك ألا تفقدي الصبر يا إنغبورغ. ولو سمحت لي فأرجو أن تنظري الى ما يتوفر لك من فرص. وحاولي أن تتواضعي في طموحاتك."
غير أن باخمان بقيت مصممة على ترسيخ علاقتها، حتى بعد أن تعرف في العام 1951 على المرأة الفرنسية التي تزوجها فيما بعد، جيزيل. حتى أنها عرضت عليه أن توافق على العمل في الإذاعة لـ "ضمان حياتنا المشتركة." وجاء رفض تسيلان لعرضها هذا صدمة كبيرة. "لقد راهنت على أمر واحد، وخسرت الرهان.." في هذا الوقت نشرت إنغبورغ باخمان ديوانها الأول تحت عنوان "الزمن المرهون"، الذي كانت العديد القصائد المنشورة فيه تعالج علاقتها بتسيلان. بعد هذا، وبعد اللقاء الذي تم بينهما خلال إجتماع "مجموعة 47" أنقطعت المراسلات بينهما، حتى التقيا مرة أخرى في العام 1957 في مؤتمر حول النقد الأدبي، جرى في فوبرتال القريبة من مدينة كولن، حيث أقاما سوية فيما بعد في فندق Am Hof، حيث وجدا أنفسهما من جديد في وسط علاقة عاطفية حميمة، هناك ما يشير إليها في قصيدة باول تسيلان التي تحمل إسم الفندق.
بعد هذه الحادثة حصل، كما يبدو من الرسائل، تغير في العلاقة بين الاثنين، حيث نلاحظ أن رسائل باول تسيلان أصبحت أكثر عاطفية وتوهجا، وكان فوق هذا يبعث لها كل يوم بقصيدة جديدة، بعد انتقالها الى ميونخ. غير أن ردود فعل باخمان أصبحت أكثر حيادا، لو لم نقل أنها تعبر عن عدم ميلها للعودة الى علاقتها السابقة بتسيلان. ولا شك بأن العلاقة بين تسيلان وباخمان بدأت تزداد ضعفا بعد أن أنتقل تسيلان مع زوجته جيزيل وطفلهما ليسكنوا للمرة الأولى في بيت خاص بهم. بالتدريج تحولت العلاقة بين الشاعرين الى علاقة صداقية والتقيا تسيلان وباخمان مرات عديدة في ميونيخ وغيرها، حتى أن تسيلان أهدى جزءا كبيرا من قصائده "الخشخاش والذاكرة" الى باخمان.
في هذه الأثناء تكون باخمان قد تعرفت بالكاتب النمساوي ماكس فرش الذي أصبح فيما بعد شريك حياتها، إلا أن آثار علاقتها مع باول تسيلان بقيت في داخلها، وبقي ذلك العش الذي جمعهما في كولن في ذاكرتها الشعرية، حيث خلدته في واحدة من قصائدها المشهورة. ومن الجدير بالذكر أن هذا الفندق يقع في "حي اليهود" الذي تم تدميره من قبل النازيين، ومن هنا جاءت الدلالة الرمزية في المقطع التالي: "منفيون وضائعون، كانوا سابقا في البيت" (انظر القصيدة في الاطار الموازي)، فهو يعني بـ"البيت" ذلك الحي الذي كان سابقا موطنا لليهود.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف