هنري ميشونيك: عمل القصيدة..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تعدّ الحداثة عبوراً من القصْد إلى غياب القصْد.و يحسب أدورنو، في "تقدّم"الفــنّ، من حوالي 1800 إلى اليوم: أنّ"تقدُّم الفن بوصفه "فعلاً"، ونزعة الشك التي ترتبط به يتجاوب بعضهما مع الآخر. ويترافق هذا التقدم، بالفعل، مع الميل اللاّإرادي المطلق، والكتابة الآلية من الخمسينيات إلى التبقيعيّة والموسيقى الاحتمالية اليوم". وتلتبس استحالة القصد مع الرفض الإرادي للقصد،ولا يُقبل تشبيه أحدهما بالآخر. وانطلاقاً من هذه الأمثلة، يعمّم أدورنو: "تتموضع حقيقة الجديد، حقيقة غير المنتهك داخل غياب القصد. هكذا تدخل في تعارض مع الانعكاس، محرّك الجديد، وتمنحه قوة ثانية" (م.س.). وبالتالي يصوغ التعارض الذي سيكون بالنسبة للحداثة أساسيّـاً: "يعدّ الجديد،بالضرورة، شيْئاً ممّا أراد، لكن بوصفه آخر سيكون اللّامراد"؛ ضعف الإرادة يقرنه بغير القابل للتبدّل. من هنا، تتواصل نزعة الحداثة مع الميث، وتتضمن اللّامحدد، لكن، مع ذلك،تصير محددة بفضل القصد (م.س.ص.38). نتعرف على مفارقة ميث الجديد، الذي يلغى فيما هو يكرّر نفسه.
سوف يتضح غياب القصد هذا من خلال العبث عند بيكيت، ومن خلال "رفض بيكيت لتأويل أعماله" (م.س.ص.43). وهو ما يفهمه أدورنو هكذا: "في نفس الوقت الذي يعتقد فيه الانعكاس وقوّته فإنّ المحتوى في حد ذاته يتلاشى". لكن يظهر أن طبيعة العمل المختار بدورها تسلّط الضوء على المعقّد من مسألتين: الاعتراض على القصد يكون مُساوقاً ليس للعمل الحديث فحسب، بل لكل عمل،لأنّ القول لا يقاسم إرادة القول القياس نفسه،وأنّ قول العمل هو فعْلٌ في حدّ ذاته. إنّه شيء آخر حتى برفض التأويل، رفض الهرمينوطيقا التي هي السُّلطان المحيط بالدليل والمعنى.كان لبيكيت، إذن، سببان للرفض: يتمثل السبب الأول في "إن أراد القول فليكن له ذلك" عن بريتون ـ سيكون للردّ تفسيره الخاص؛ والسبب الثاني هو الذي يعارض الشعرية بالدليل. وربما يضاف العبث إلى ذلك. لن يتغيّر شيء من هذا. ويواصل أدورنو الحديث بمصطلحات "المحتوى" (ص.44)، فيما هو يرفض "الرسالة" (م.س). تنقصه وسائل نقده: إنّه داخل علم الجمال.
يتعلق قصد الحديث بنظام اجتماعية الفن المتواتر داخل المُزايدة الطليعيّة،وهو حصيلة الحديث الزّائف، عبر انقلاب بسيط للسّبب والأثر. خلق الحديث فضيحة، والذي خلق الفضيحة إنما الحديث. ابتكار مستقبلي، علامة رعب المعايير: من سقف القيمة إلى جهل القيمة. حسب المعاصر، الحداثة- "إله أسطوري خدّاع"، كما يقول ميشيل ليريس.
إنّ الحداثة أُمْثولة. أُمْثولة الفنّ. من إسراف في التوتّرات،وطلاق مزعوم بين الفن والجمهور ـ شاشة العرض،في الواقع. أُمْثولة الأقصى- تقدّم تقني أقصى، رفْض أقصى للتقنيّة، تدْمير أقصى أشدّ فتكاً من قرون حتّى الآن.
وقد جرى الحديث عن فشل الحداثة، كما عن فشل السوريالية. وإذا كانت الحداثة متماهية مع عقل الأنوار ومع العقلانية العالمية للقرن التاسع عشر، فإنما ثمَة فشل. وتأسّست الحداثة الأخرى، طبعاً، من نقدها. إنكار هذا النقد يميّز الحديث الزّائف، مضادّ الحديث. ويستعيض علم الجمال عن المسعى الأخلاقي للسورياليين، في عمله بـ "نقدالشعر"، بعلم الجمال. وشأن علم الجمال كشأن البلاغة أو النحو: من وجهة نظر النحو،فإنه ليس هناك في أيّة حال إلا أمثلة نحوية. ومن وجهة نظر البلاغة، فليس ثمَة إلا الصُّور، ولا يمكن لعلم الجمال أن يرى شيئاً آخر إلا نفسه: مقولات علم الجمال.
وإذا كان هناك فشل للحداثة، فشل للعقل، فإنما هو فشل التقسيم الثلاثي - الفصل بين العلم، الأخلاق،علم الجمال.وهو فشل علم الجمال، فكرة علم الجمال نفسها المفرطة في تضامنها مع الدليل لأجل أن يتمّ إنقاذها.وتطفح النظرية الجمالية لأدورنو بالآثار الثانوية،وتعاساتها. كشأن الخوض في "حظْر الصُّور" (ص.37) بخصوص بودلير.
ويفرض إلغاء مفهوم علم الجمال ضرورةَ، وحقيقةَ، تضْمينٍ مُتبادلٍ بين القصيدة والأخلاقيات والتاريخ. القصيدة والأخلاقيات والحداثة. لا تكفّ الحداثة عن إعادة وضْع الفصل بين الصمت والأخلاق والفن، المؤسّس للعقل- الحداثة عند هابرماس، موْضع سؤال. ولاحظ بيتر بورغر "أنّ عدم اقتران السياسة والأخلاق في زمن هوبز كان تقدّماً، لكنّه يصير إشكاليّاً في العصر الذي تزداد فيه طاقة التدمير حتى أنّ الحياة الإنسانية على الأرض يمكن أن تباد".ولا يقدم الفنُ هذه الطوارئ على ما يظهر، لأن الأضرار تدخل في نظام آخر. مع ذلك،فإنّ للتضافر التقليدي بيْن المقولات آثاراً معروفة: طالما أنّ كل انحطاط للفن إنما هو انحطاط للذّات. معاناة التفرّد. المجدي. التقدّم. البطل الإيجابي. تجريدات مماثلة لتجريدات مقولات الفضاء والزمن بوصفها مقولات عقلية. عقْلنة الأخلاقيات.ولقد استحقّت النتيجة تقدير علم الجمال.
إنّ الحداثة، في الفن والأدب، أُمْثولة تضمين متبادل يربط الأخلاقيات بالعمل، لأنّ ذلك بمثابة الذّات نفسها وهي تتجدّد فيها.وتنضاف إلى كليشيهات علم الجمال أو كليشيهات الاختلاقات الميثية حول الحداثة،كليشيهات الحداثة نفسها.بالنسبة للحداثة الشعرية، تجدر الإشارة إلى أن اللُّعْبة الحداثيّة التي ميّزت الثلاثي الثوري رامبو- لوترمايون- مالارمي، واضعة الثلاثي الإصلاحي نرفال -بودلير- هيغو في مرتبة ثانية، كانت قد استبعدت فرلين،وهو استبعاد مرتبط ربما بالمعتقد الحداثي المضادّ، عسر هضم النزعة الكاثوليكية للسورياليين، التي تظهر في "معزف ديدور Le clavecin de diderot" لكريفيل crevel، وهي تتكلم عن "الشطحات الفرلينية القصيرة المقرفة". هذا الاستبعاد، كغيره من الصّعوبات، يشتغل كعـرَض غير مباشر من جهل الإيقاع داخل السوريالية، بل أيضاً من الفصل الذي يتمّ، هنا، بين الدّين والأخلاقيات. تكف الأخلاقيات عن أن تتشكّل داخل الدّين.
تمثّل الأخلاقيات داخل الفنّ خطراً،فيما الخطريمثّل فرصة الحداثة السانحة،إذ لا حداثة بدون هذه الأخلاقيات. ربما هي كلّ سياسة في الفنّ. هنا، يصيب أدورنو حقّاً: "وحدها الأعمال التي سوف يُتعرّض لها يوماً لها فرصة البقاء، بقدرما أن هذه الأخيرة لا تزال موجودة، لكن ليس تلك التي تضيع في الماضي خوْفاً من أن تزول سريعاً"، وبقدرما نصنع كتابة المستقبل بقدرما يعيد الماضي كتابة نفسه من خلالنا.وفي فرنسا، بعد كفاح سنوات الثلاثينيات والالتزام الوجودي، تنهارالعلاقة بالسياسة مع انحسار المثلنة ,وقد تخلى الاستبطان الشكلي، نحو 1960ـ عدا البقاء الدقيق، الطلائعي للميث الثوري: الثورة الشعرية، الثورة السياسية، حدّ السلاح- عن تعاضُد الفنّ والأخلاقيات. وهكذا صارت الأخلاقيّات موضة.
لكن أيّة علاقة بين الأخلاقيات واللغة، الأخلاقيات والقصيدة؟ الخطاب الرائج هو الخطاب النبيل وفيه يكتشف الوجه ثانية. لكنّ هذا الوجْه لوجْهٍ ليس له فم. ليس له لغة.لا زال الأخلاقيّون لم يصلوا بعد إلى القصيدة،وإن كانوا ليس أكثر من المناطقة.وعبرالأخلاقيات داخل الفنّ، يصنع عمل القصيدة صورة العلاقة بين الأخلاقيات والذات،بين الذات والفرد.لهذا، ليست الأخلاقيات دون القصيدة إلا أثراً من المجتمع القديم ومن النظرية التقليدية،لاأخلاقيات الحداثة.
إنّ التماهي المباشر للثّوْرات مع الذات -الجمهور، ومع معنى التاريخ، يخلق عَرُوضاً للذّات، مدمِّرة للذات؛ لكن الذّات، عبر الفن والأدب، هي شرط الإيقاع.داخل تجربة بوهوس، تفعل أخلاقيات الفن وتاريخانيّته كل شيء مع ما هو اجتماعيّ، فتكون الوظيفة توكيداً للحاضر، وضدّاً على محاكاة الماضي.وقد أبرز بيير بورديو أن قطيعة ماني وكوربر مع المتناهي الأكاديمي كانت قطيعة أخلاقية. ذلك ما يجعل تجديد الذات والجمعي التّجديدَ نفْسَه لمّا يقوم الفن والأدب بتحويل أفعال الإحساس، الرؤية والفكر. إلى ذلك، يكون عمل المفهوم مظهراً - بالمعنى النحوي للكلمة - للذات: أي الحالة النّاشئة باطّراد أو المنتهية.
ويمكن أن تكون ثمّة انتقائيّة في الفنّ ممّا يسبغ عليه طابعاً جماليّاً،ولا يكون له ذلك مع الأخلاقيات. من وجهة النظر هاته، يوضع ما بعد الحديث، بالصيغة النيتشوية، ما وراء هذه السذاجات،وهو ما أسبغ على النّزعة الكلبيّة طابعاً جماليّاً. في عام 1953، يقوم روبيرروشنبيرغ بإنجاز رسْمٍ لـدي كونينغ ويشطب عليه بعلامة،ثمّ يعرضه كـمَثَل \" المشطوب عليه\".ومنذ ديشو حيث يتمّ تكرار هزْلية المضادّ، يصبح الضحك من الفنّ الوجه الأبوقراطي للفنّ. و في الفنّ لا تُستعاد ضربة الباروديا مرّتين إطلاقاً. بعد لوتر يامون، كانت الأولى من السورياليّين،والثانية كانت للتمرين المدرسي للشكلانية سنوات الستينيات، والذي يتواصل في السكولائية الجامعية لأجل أن يتمحور الأدب حول الأدب.
إن النّزعة الكلبية التي تنخرط في تكرار الباروديا - لاشيء يجمعها مع الباروديا نفسها- ترغب، داخل ما بعد الحديث، في الأثر الذي ينزع عن الفنّ طابعه الجمالي نحو ما يجعل الحياة جماليّة، أما الشيء الآخر الذي يحصل هو: القطيعة مع الأخلاقيات.تلعب الوجهة الأخرى لما بعد الحديث على الحاشية بين السحر والخديعة. يتحدث جوزيف بويس عن الفضاء المضادّ،،وهو ما يسميه بلاتشيك بال"Wortfetischen".
إن الحداثة هي، بأكملها، صراعٌ بين التاريخانية والتاريخية، بين الجمعنة وما دون الطابع الاجتماعي، وبين التكرار والتحويل. لا أحد داخل الصّراع يمكن أن يحسم. إلى جانب أن التاريخية والأخلاقيات في الفن والأدب لا تعمل إلاّ إحداهما. ولهذا السبب يعتبر الفن والأدب أمثولة الذات داخل الجمعي. بالنسبة إلى اللغة، لا أخلاقيات للذي يقول/الملْفوظ، بل أخلاقيات التلفُّظ/من يقول ما يعتبر فعلاً. وإذا كان هناك لا طابعَ اجتماعيّاً في الفعل وفي فعالية العمل، عبر ضرورة النقيض والخارج عن، فإنّه لا يمكن أن يكون لا غطرسة، ولا سلطة. لا من متعمِّد، ولا ممثِّل. هي تُعزى للرفض الرّئيس إن لم يكن بالإمكان اختيار هذا النوع من الرفض، مثلما "رفض سوسير تقريباً كل ما تم عمله وقتئذ"،وإلا كان شارك المُجْمع عليه. من هنا طبعاً يجب استخلاصه. كما لا يوجد من خطابٍ إلا خطاب الذّات، ولا من تاريخيّةٍ توجد إلا عبر الذات. الذات هي التي تجعل من الباقي ذوات.
إنّ فعّالية الفن والأدب هي، بشكْلٍ نوعيٍّ، صعودُ الذات وتحوُّلها. في هذا المعنى، فإنّ الأعمال التي تدوم هي تلك غير المكتملة. لا تنقطع عن عدم اكتمال نفسها داخل الذوات.وذلك هو تعريف حداثتها.تتمّ الحداثة إن لم تتمّ القصيدة والأخلاقيات والتاريخ بشكل غير قابل للفصل. الفصل بينها يعني: السّقط الشعري،السّقط النظري.إنّ ما يوجد أكثر حداثة في العالم،إذن، هو الذّات.تبدأ بكونها حديثة، وعندما لا تتعرف على نفسها في زمن الماضي القريب تعمل بوصفها ذاتاً،جتّى وإن عارضت رفضها لكلّ ما يحافظ على النظرية والمجتمع التقليديين. ذلك أنّه ما من يوتوبيا توجد إلّا داخل الحداثة.
التعليقات
دروس لديوان العرب
متابع ثقافات -مقالة مفيدة من مفكر كبير ، ومترجمة بعربية بليغة من كاتب متألق . إن فيها دروسا لمن يكتبون بالعربية ، شعراء وقصاصين ونقاداً ، عن معنى الحداثة الحقيقي وقطيعتها تاريخيا مع التقليد وأهله . وبما أن معظم كتابنا لا يقرأون الكتب النظرية ، فعسى أن تفيدهم هكذا شذرات مترجمة وتنورهم ، على الأقل . شكرا للمترجم وثقافات ايلاف
تحية
منير.ب -تحياتي لك يا عبد اللطيف،و تقديري الكبير لكل ما تبدعه شعرا و نقدا و ترجمة
نفعنا الله بحرفه
متتبع -هكذا تكون الترجمة ، اختيارا حرا و ليس درسا مقررا من السفارة الإسبانية، أخبرني أحدهم أن طموح مزوار الإدريسي بترجماته السطحية الرديئة أن يصبح وليا بدل محمد شكري.
جميل
مجدولين -القارئ العربي سيندهش كثيرا لهده الاشراقات الميشونية الفكر الاصيل قلما يجد طريقه الى الشريحة العريضة من القراء اثمن فيك صديقي نزعتك التنويرية وركوبك الصعب
عجيبالمقال منشور في
علاء مهدي -عجيب!!!!! هذا المقال منشور في السفيراللبنانية ،في ملحقها الثقافي ،ولكنه منشورا هناك بترجمة احساين بنزبير من الجزائر ... العجيب ان المقال منقولا كما هو حتى بتحريك الحروف ، بالامكان مشاهدة المقال على هذا الرابط http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?EditionId=1029&WeeklyArticleId=45726&ChannelId=5984&Author=%d9%87%d9%86%d8%b1%d9%8a-%d9%85%d9%8a%d8%b4%d9%88%d9%86%d9%8a%d9%83
دهشة
نور -فعلا هذا أمر مدهش ، نفس المقال و نفس الصورة في جريدة السفير، يبدو أن احساين بنزبير قد سطى على مقالة عبد اللطيف الورواري كما يدل على ذلك تاريخ النشر لكل واحدة من الترجمتين
تحية
عبداللطيف -لكلّ من أثنى على الترجمة أشكره،وللذي أشار إلى أن الترجمة منشورة في مكان آخر فأقول له صحيح،ولكن لا يتعلق الأمر بسرقة أو سطو من احساين بنزبير،بل فقط خلط أسماء أو سهو وقع فيه المحرّر الثّقافي للسفير عندما ذيّل المقالة باسمه.وقد اتّصل بي صديقي الشاعر المغربي المقيم في فرنسا احساين بنزبير،وأحاطني بالأمر.