ثقافات

مغامرة إخراجية متقنة لنص سردي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قصة حب الفصول الأخيرة

عواد علي من عمان: مثلما يحول سرد الحكايات دون موت شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، فإن رغبة الرجل، الذي يمتهن سرد الحكايات، أيضاً، في مسرحية "قصة حب الفصول الأخيرة"*، للفرنسي جان لاغارس، في كتابة قصة الحب الملتبسة التي عاشها تحول دون انتحاره.
في هذه المسرحية، التي أخرجها نبيل الخطيب، وعرضت مؤخراً في مركز الحسين الثقافي بعمّان، تنمحي الحدود بين الدراما والحكي، ويتداخل في سرد الأحداث صوت الراوي بضمير الغائب مع صوت السارد البطل بضمير المتكلم. وفي كلا الصوتين يهيمن المبدأ أو الخطاب اللايقيني (اللاحتمي)، والتصوير الخاطف للشخصيات، والتكرار في الحوار/ الحكي، الشبيه بالتكرار الشائع في أدب وادي الرافدين، وتشظيهما إلى أجزاء من جمل على غرار الجمل التي نستخدمها في الحياة اليومية، وتكشف عن صعوبة التعبير، وهشاشة الذاكرة.
وكما فعل في مسرحيته السابقة (نهاية العالم ليس إلاّ) يسترجع لاغاس (1957- 1995) حياةً شخصياته الثلاث (المرأة، الرجل الأول، والرجل الثاني) خلال عشر سنوات في لعبة زمنية غريبة تقوم على الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر من دون أي إشارة ترشدنا إلى ذلك الانتقال. ويصعب على متلقي العرض جمع شتات تلك الحياة المشتركة والمبعثرة، في آن واحد، من دون قراءة النص بدقة لإعادة تركيب الأحداث والعلاقات بين الشخصيات، وهذا ما فعلته بعد مشاهدة العرض، الذي مثله بإتقان وفهم عميق لروح النص: سهير عودة (المرأة)، عماد الشاعر (الرجل الأول)، وأحمد العمري (الرجل الثاني)، فأمسكت بخيوط القصة: ثلاثة أصدقاء (رجلان وامرأة) يلتقون، بعد فراق دام عشر سنوات، في بيت بناه الرجل الثاني خلال الحرب في المدينة الجديدة التي لا تبعد كثيراً عن المدينة القديمة المدمرة، وهناك يحاولون استذكار، أو كتابة، أو قراءة ما حدث لهم في تلك السنوات (هكذا تتعدد الاحتمالات في سياق المبدأ اللايقيني)، فيُتضح تدريجياً أنهم كانوا يعيشون في بيت واحد بالمدينة القديمة، يتنزهون عادةً على التلة، ويحكون لبعضهم حكايات. وذات ليلة يكتشف الرجل الأول حدوث خيانة، فيغادر المنزل إلى النهر ليلقي نفسه فيه، لكن القصة كانت تبنى بهدوء شديد في رأسه على إيقاع خطواته في الشوارع المقفرة، وحينما يصل إلى النهر يفكر بالقصة الجميلة التي يمكن ان تولد عن هذا. وقبل أن يقفز تكون القصة جاهزة، فيستدير عائداً ليكتبها. بعد ذلك يفترق عن صديقيه، ويعيش وحده في بيت آخر. أما الرجل الثاني والمرأة فيظلان معاً، ثم ينفصلان بعد فترة قصيرة. كل ذلك حدث قبل الحرب. المرأة تذهب لتعيش في بلد آخر، هو البلد الذي كانت الحرب معه. وهناك تتعلم الغناء. والرجل الثاني يفتش عن عمل ويقرر أن يصبح مهندسا معمارياً، ويحبس المرأة في البيت الذي يشيده لنفسه عندما تعود ليخفف من خوفه لأن مرضه هو الخوف، وحين تعود تجد الرجلين بانتظارها، والشيء الوحيد الذي تبقى من المدينة القديمة هو محطة القطار (ترمز لاستمرارية الحياة)، فتختار السكن مع الثاني في المدينة الجديدة، وتترك الرجل الأول، الذي بقي وحده في المدينة القديمة المدمرة، الممسوحة عن وجه الأرض أسفل التلة. لقد كان يكتب كتاباً أو مسرحيةً أو أغنية (قصة حب)، وبدأ يمرض، يتكلم في الليل أثناء نومه. وها هو يريد أن يكتب قصة حب، تكون سرداً لما كانت عليه حياة كل واحد منهما، كما يراها اليوم. وفي الختام، حيث لا نهاية بالمعنى المألوف، يعمق المؤلف جان لاغارس مبدأ اللايقين أكثر فأكثر ليبلبل ذهن المتلقي، ويتركه أسيراً للتخمين والتساؤلات، ضارباً أخماساً في أسداس بحثاً عن الحقيقة الضائعة، فالمرأة تقول إن الخيانة حدثت، وجرى الانفصال بينهم بسببها هي "إنه ذنبي، أليس كذلك؟"، لكنها في الوقت نفسه تعترف بأنها لم تعد تتذكر، في حين يقول الرجل الأول أنه ذنب الرجل الثاني، وهذا يقول: "لم أكن أعرف. كنت جاهلاً، كنت أنام..". ثم تعود المرأة لتنفي كل ما جرى سرده قائلةً إن الرجل الأول مات فوق كتابه دون أن يكمله، وربما لم يكن قد كتب سطراً واحداً منه، واكتفى بأن يحكي لها وللرجل الثاني القصة، أو أنه تخلى عنه، وقص شيئاً آخر!!
إن المتلقي لا يجد تفسيراً لكل هذا التشظي إلا بأن يعزوه إلى الشرخ النفسي والوجودي الذي تركته الحرب في الشخصيات الثلاث، فهي التي أرغمتها على العزلة، وقطعت التواصل بينها، وهشمت ذاكرتها، وجعلتها تهذي في سردها للأحداث الماضية، واضعةً احتمالات شتى لأبسط الأشياء، وكأنها كانت في غيبوبة.
ويتكرر في المسرحية أن المدينة القديمة المدمرة، الممسوحة عن وجه الأرض (المؤلف لا يعطيها اسماً ولا يؤرخ لها)، كانت ريفاً، أو تشبه الريف، حيث لا طرقات ولا بيوت، وحين بُنيت المدينة الجديدة لم ينتقل إليها الرجل الأول. ويشير ذلك إلى تشبثه بعالم ماقبل الحرب، فهو الأجمل والأكثر تعبيراً عن المرحلة الرومانسية في حياته، المرحلة التي عاش فيها قصة الحب يوم كان في بداية العشرينيات من عمره. ويبدو أن لاغاس أراد أن يوحي من خلال ذلك إلى أن الحياة في أوروبا كانت قبل الحرب العالمية الثانية أكثر إنسانيةً وبساطةً وشاعريةً من حياة ما بعد الحرب، التي شابها التعقيد، واهتزت فيها المًثل، وتجذرت أزمة الإنسان الوجودية. وقد عمد المخرج نبيل الخطيب إلى تجسيد تلك المدينة، في السينوغرافيا، بشكل تعبيري مختزل ومقلوب، وهي تتدلى بأسلاك من سقف المسرح إلى فضاء العرض، كعلامة بصرية تشير إلى صورتها في الحلم (في الحلم غالباً ما تظهر الأشياء مقلوبةً، أو على غير طبيعتها في الواقع).
إن الطابع السردي لنص "قصة حب الفصول الأخيرة"، فضلاً عن ميزاته الأخرى التي أشرت إلى بعضها، لا يشجّع، في اعتقادي، الكثير من مخرجي اليوم على تقديمه في عرض مسرحي متكامل على الخشبة، ولذا أرى أن اختيار نبيل الخطيب له كان مغامرة "مجنونةً"، محفوفة بالفشل، إلاّ أنه خرج منها بنجاح كبير ومبهر. ومن أبرز علامات نجاحه تحويل الحوارات السردية إلى أفعال وصور نابضة بالحيوية من خلال ابتكار بنى مشهدية، وتكوينات فضائية، وعلاقات أدائية متشابكة بين الممثلين ذات منحى دلالي وجمالي مدروس بدقة. فعلى صعيد السينوغرافيا (تصميم وتنفيذ محمد السوالقة) جمع بين أربعة عوالم متخيلة، لم يرسمها النص، وجسدها في مستويات منظورة: البيت الذي بناه الرجل الثاني في المدينة، وأثثه بثلاث طاولات عليها آلات طابعة قديمة، وكرسي إعاقة متحرك، وكومدينو يشبه البيانو، وفيه يحاول الأصدقاء الثلاثة استذكار ماضيهم، وتدوينه. وثمة إلى يسار المسرح قنطرة حجرية فوق النهر يوظفها لعرض مشهد صوري لمحاولة انتحار الرجل الأول. وفي عمق المسرح فضاء مرتفع يشير إلى التلة، تفصله عن البيت ستارة بيضاء شفافة، وضع فيه مقعدين خشبيين وعمودين يحملان مصباحين من الطراز القديم اللذين يستخدمان في إضاءة الشوارع والحدائق، إضافة إلى الديكور المقلوب المعلق الذي يشير إلى المدينة القديمة. وقد استثمر المخرج هذه المستويات أو العناصر السينوغرافية استثماراً خلاقاً طوال العرض، حيث صاغ فيها المشاهد الحركية والتكوينات البصرية بحساسية شعرية ودرامية عالية، وتضافرت إضاءة عدنان بداوي، وموسيقى نور أبو حلتم في إضفاء أبعاد جمالية ودلالية عليها. وعلى صعيد الأداء التمثيلي اشتغل الخطيب بمهارة واضحة مع ممثليه الثلاثة، فبدت الحوارات السردية من خلال الإلقاء المتلون المصحوب بإيماءات موحية وحركات متقنة كأنها حوارات نص مسرحي مبني بناءً درامياً محكماً. وشكلت المقاطع الغنائية التي أدتها سهير عودة، بصوتها الجميل، عنصراً آخر من عناصر نجاح العرض وتكامله.
لقد أثبت نبيل الخطيب، في مغامرته الإخراجية لهذا النص الصعب، أنه مخرج ذو مخيلة خصبة، وحساسية شعرية عالية، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى العوالم المتشابكة للنصوص الحديثة، واستنطاقها في بنى مشهدية بصرية وسمعية آخاذة.
* المسرحية من إنتاج أمانة عمّان الكبرى بالتعاون مع وزارة الثقافة
awad-ali@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف