ثقافات

ثلاث قصص كردية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خبز محلى بالسكر لفترة من الزمن ظلت صامتة، تنظر الى زوايا الكهف المظلم، وجدرانه، الى ان إتحد الخوف والظلام وهاجماها معاً...
القت حهzwnj;لو ذات السنين الاربع بجسدها في حضن امها، الصقت راسها غير الممشط بصدرها:
-ا..انا جائعة يا اماه..اريد خبزا محلى بالسكر.
نهرها والدها القريب منها:
-إخرسي، أهذا وقت ذلك؟!
بدات حهzwnj;لو بالبكاء..غظت عينيها بيديها...
ابعدت راسها عن صدر امها، ونظرت اليها في توسل..
باكية كانت تقول:
-اماه إني جائعة.
كان قلبها ينفظر بلا نار، امام دموع البؤس والجوع لطفلتها المدللة:
-كفى بكاء يا ابنتي ولا تعذبي قلبي، ها انا ذاهبة لاجلب لك الخبز وليحدث ما يحدث..
اخرج زوجها كيس التبغ من جيبه، حدق في ساقه الايمن المبتور، اعاد الايام والاشهر وسنيناً ثلاث في لحظة الى الوراء:
- حَوََّطها يا يوسف والا تدع احداً يقترب منها، ذلك افضل..هذا ليس عملك..انه لاء..ابتعد عنه..
- اعرف ذلك، لكني لا ارتاح قط. كلما رايت هذه العبوة غير المنفجرة، امام باب البيت شاخصة، احسها مزروعة في قلبي..
- ماذا ستفعل بها؟
- ساحفر من كل الجوانب، واخرجها والقي بها في البرية، يا لها من غضب علني قبيح..
- اذن كن حذراً جداً.
- يوسف..يوسف.
-.......!!
- أثانية رحلت الى عالم الذكرى يا يوسف؟
- ها..ها.. ما بك يا عاليا؟
- اني ذاهبة، انتبه للطفلة.
كان يعلم ان كلامة لن يغير من الامر شيئاً، لا احد يدرك طبيعتها، لكنه على الرغم من ذلك قال لها:
-لا تذهبي..لا تذهبي..يا مجنونة، الا تسمعين صراخ الطائرات اولاد الكلب؟؟
-لا تلق بكلماتك سدى في النهر، الا تعرفني يا يوسف؟ ساذهب يعني سأذهب..
-اتبحثين عن موتـ..!! أعوذ بالله..
قالت لها امرأة مسنة بيضاء الشعر، ذات وجه غارق بخطوط الزمنم المتعرجة، كانت بقربها:
-إجلسي ولا تذهبي، فأبنتك لن تموت من الجوع ابداً.
خاطبها رجل عجوز يحمل سبحة سوداء في يده، وما ينفكُّ يردد آيات من القرأن بصوت مخنوق ولا يملُّ الدعاء:
-اذكري اسم الله يا عاليا ولا تكوني سبب البلاء لنا.. ان خرجت سيكتشفون محلنا وستقصف الطائرات الكهف..
قبّلت عاليا عَينَي حهzwnj;لو، نظرت بشرر الى الرجل العجوز، بلسان قاس قالت له:
-لا تخف يا صوفي علي، لا تخف لن تموت، ما دمتم هكذا سيبقى حالنا على هذه الشاكلة.. اما تكفي حياة الذل هذه؟
كانت عاليا نشطة منذ صغرها ترافق والدها لصيد الوعول، على دراية بعالم الجبل وخفاياه..وكثيرا ما كانت تقصد جبل بيخير وتقطع الاخشاب، تهيأ حملها وتعود الى البيت قبل ان تستيقظ الشمس من نومها.
كل نساء القرية كن معجبات بحيويتها، ويخشونها في نفس الوقت..
عقدت منديل راسها بقوة. شدَّ أردان فستانها الى خصرها، خرجت بسرعة من الكهف.. لم تبال للحجارة التي تعترض سبيلها، ولا للشوك والعاقول قط:
-من لي غيرك في هذه الحياة يا حلوتي يا حهzwnj;لو؟
كما ندى الربيع على الاوهار والعشب، كان العرق يملا وجهها وجشدها.. احيانا كانت تخفف بعض قطرات العرق بيديها. واحيانا أخرى بواسطة طرف كفيتها.
من بعيد لمحت الدخان الشاحب يسافر فوق ارجاء القرية دون وعي منها بدأت تتأوه:
-يا للمصيبة..لقد احرقوا بيوتنا..الجبناء يستعرضون لنا نحن العزل من السلاح، قوتهم ها هم هناك.. هيا إِقتربوا منهم ان كنتم رجالاً..لعنكم الله..
حثت الخطى اكثر، وعيناها لا تفارقان القرية، حتى وصلتها. البيوت مهدمة، المؤونة تحترق..
خراطيش الدوشكا وشظايا قنابر المدافع تنتشر في ازقة القرية. بقلب ميت، واعماق محترقة، وعيون باكية، سلكت طريق بيتها.
غرفة المؤونة قد تهدمت، الاعمدة الخشبية العملاقة قد إنكسرت"باكردان"* السطح قد استقر في الحوش اجزاء متناثرة، كنتور عرسها انغرس في باطن الارض.
وهي على هذه الحالة طرقت اسماعها صخب الطائرات من بعيد..
بقدمين لا روح فيهما، ركضت الى نبع النساء، اختبأت خلف صخرة كبيرة، لمحت طائرتين تحلقان على مستوى منخفض يسبقهما ازير وعويل هائل..
حلقت الطائرتان بحرية حول القرية عدة مرات، ثم صبت حمل الدمار والموت فوق بقايا هيكل القرية، وبفرح اتجهتا شرقا مثل بازين تركا طريدتهما تواً.
بوجه اصفر خال من الدم عادت عاليا الى القرية، شاهدت حفرة كبيرة في موضع سقوط الصاروخ((ليته كان قبركما الان يا..)).
رفعت يديها الى السماء، داعية بصوت مخنوق يشوبه البكاء:
-الهي، دعهم لا يروا الخير في الدنيا في كل حياتهم.. بأي حقٍ تركونا بلا بيوت ومأوى؟؟ يا رب ان تأخذ حقنا نحن المسالمين من هؤلاء الظالمين..
-لأعد لك الخبز المحلى بالسكر يا ابنتي يا حهzwnj;لو..
بعد بحثٍ مضنٍ، وجدت صفيحة السكر بين الأواني المتطايرة بلا نظام، ملأت الصرة بالخبز والرقيق..
-حتماً كل الأطفال الان جياع مثلك يا حهzwnj;لو.. قليأكلوا هم أيضاً، هذا الخبز يكفي الجميع..حملت الصرة وسطل اللبن، سلكت طريق المهف، خاطبت نفسها قائلة:
"الحمد لله، لم يلحق الضرر بالناس، حقاً كما يقول ابي، مال الدنيا ليس الا قذارة اليدين، الأصل سلامة الناس..".
لم يكن قد تبقى غير مسافة قصيرة لتصل الى الكهف، حينا علا صراخ الطائرات من جديد في الجو..
اسرعت الى الوادي لتخفي نفسها، لكن احدى الطائرات لاحقتها، وبدأت الطيران حولها في حدود دائرة ضيقة.. اخذت عاليا ترشق الطائرة بالحجارة بلا جدوى، بعد ان مل الطيار اللعب معها، فتح فوهة الدوشكا.. صوت مخنوق خرج من صدرها المثقوب كالغربال:
-حه..حه.. حهzwnj;لو..!!
ثانية فتح عليها النار، واطارت باتجاه الشرق واتبعتها الاخريتان.
كانت صفيحة الكسر قد انقلبت على الأرض، والدم الاحمر يمازجها، وصرة الخبز كانت معقودة على حالها..كان يقبل صوت بعيد من وجهة الكهف ويقترب:
-عاليا..عاليا..يا حسناء أومرپيرا.. لقد تحطمنا نحن الثلاثة، انا وانت وحهzwnj;لو.. عاليا..عاليا..عاليا..عا..ل..يا...يا...
من شدة عويل النساء في الكهف، استيقظت الصغيرة حهzwnj;لو من نومها، نظرت الى صديقتها(چنو)،وقالت لها بحب:
-الآن ستأتي أمي وستجلب لي خبزاً محلّى بالسكر، ساقسمه الى نصفين، نصف لي ولك النصف الآخر، أتقبلين؟؟
bull;حجر اسطواني الشكل يستخدمه القرويون في تسوية سطوحهم الترابية في الشتاء.***
ساعة في حضرة طبيب السعادة
"يا للسعادة..ادخل ودع القلق..سأمنحك السعادة."
في باب العمارة الرئيسي قرأ هذه الكلمات داخل قطعة بلاستيكية مضاءة بنيون ابيض.
منذ زمن بعيد كنت افكر ان ازور هذا الطبيب النفساني الذي يدّعي بأنه يخلق السعادة لزواره..هل يصدق احدكم هذا الكلام؟ هل رأى احدكم هذا الطبيب النفساني؟ ومن يقول انه عالم؟ ترى لماذا اشك في امور كثيرة؟؟..
صعدت الى الاعلى اثنتي عشرة درجة، حينما استدرت الى اليمين وجهاً لوجه قبالة صالة صغيرة، بكنبة خشبية صغيرة قديمة، وخمسة كراسي يملؤها الغبار المتراكم، ومنضدة مهترئة عليها بعض المجلات الاجنبية..
اكاد اجزم بان هذا الطبيب النفساني قد اشترى أثاثه البالية هذه من سوق الهرج في باب الطوب، قلب المدينة الآمنة النائمة على ضفتي دجلة الخير بهدوء.. تاملت الغرفة والجدران المشعبة برائحة عفنة كجلد كلب قد مات قبل ايام..في الجدار المقابل لي رأيت لوحة تخطيطية لكلب يداعب قطة بمرح جارف.. أأسأله ماذا تعني هذه اللوحة اول ما ادخل عليه؟ ام تراه سيغضب؟؟
ولكن يقولون، ان العلماء النفسانيين لا يغضبون بسرعة، وان غضبوا القوا بأنفسهم من الطابق العلوي.. أني أخشى أن يرمي صاحبي هذا بنفسه من شباك عيادته ليتكوم حول نفسه جثة هامدة على رصيف الشارع لتخرج صحف الصباح التالي، وتعلن عن موت عالم عبقري في ظروف غامضة، وليطلب أساتذة القانون بحوثاً مفصلة من طلبتهم حول هذه الحادثة المأساوية، وارائهم لخاصة بها..وانا حتما ساكون ضيف التحقيق والمحاكم لعدة شهور لمجرد اني كنت الوحيد الذي راجع عيادته هذا اليوم..اوووه...أرجوك أيها الطبيب النفساني، كن طبيباً ولا ترم نفسك من الشباك قبل أن تلقاني..
نفضت الغبار عن الكرسي، وما ان جلست عليه حتى سقطنا سوية وأحدثنا صوتاً مزعجا، ورددت الصالة الصغيرة ذلك الصخب..فتح الباب الذي أمامي على الفور، خرج منه رجل يرتدي بنطالاً ازرق وقميصا وردياً، في يده اليمنى مسطرة بلاستيكية بيضاء، كالشعر الذي يغطي فوديه:
-ألا تنتبه قبل أن تجلس؟! الم تلاحظ إن الكرسي بثلاث أرجل فقط؟
كان في كلامه معي، كمن يخاطب طفلاً في العاشرة من عمره، علما أن شاربي يسودان المساحة الممتدة من أسفل انفي حتى الطرف العلوي من شفتي السفلى..كان غريب النظرات، يطبق عينيه ويفتحهما بين لحظة واخرى..حقا كانت مضحكة جدا ربطة عنقه، خضراء بلون الشجر وعليها رسوم كارتونية، كالتي على قمصان المراهقين..
-ارجو المعذرة ان كنت قد ازعجتك..صدقني لم الاحظ ارجل الكرسي..بهدوء وخشوع مصطنع قلت للرجل الذي امامي..
نفضت الكرسي الثاني بمنديلي الذي لم يغتسل قبل اكثر من اسبوع..جلست وكان هو يرمقني بنظراته المتفحصة:
-لديك مشكلة؟ اليس كذلك؟
"ان لم تكن لي مشكلة، هل كنت احضر الى هنا؟".
-نعم واريد مواجهة الطبيب النفساني ان امكن..
حتى ابتسامته لم تكن ابتسامة، بل ظلاً لضحكة:
-تفضل ادخل، انا هو بعينه..
كنت اعتقد ان هذا الذي امامي هو احد مساعديه، او سكرتير مكتبه..جلس الرجل على كرسيه الدوار الانيق، كنت احسب ان المدراء والمسؤولين الكبار فقط يجلسون على الكراسي الدوارة، لم يكن يخطر ببالي ان يكون منضدته بشكل عشوائي..فوق راسه كانت صورة ملونة لطفل عار تماماً، كما انا او انت او هو حينما كنا في مثل سنه..كان يبتسم للاشيء، او ربما لجملة اشياء نجهلها ولا نراها نحن..ليتني عدت طفلاً، آه لحياة الطفولة الحالمة على ضفاف الخابور، بلا تفكير..ما اروع الطفولة!!
خطَّ خطين غير متساويين على الدفتر الصغير الذي امامه.. رفع المسطرة في وجهي، فاجأني بقسوة وصوت خشن، ذكرني بمعلم الحساب الذي كان يرتدي الجبة والعمامة ويصرخ في وجوهنا بانفعال لا مبرر له، حينما كنا نخطئ في حل مسالة حسابية و ما كان يمل قط من ضربنا بالخيزران الذي لم يكن يفارقه كعمامته، كانت اثار ضربه واضحة في ايدينا، وكثيراً ما كنا نبكي..نعم كنا نبكي.. كنا صغاراً وبرد الجبل ما كان يعرف معنى الطفولة..
-اسمك..سنك..عملك؟؟
"الهي ما هذا هل نحن في محكمة.. هل اقترفت جرما لا ادركه؟ هل هناك داع لطرح الاسئلة بهذا الشكل الاستفزازي الغريب؟ اشد ما اخشاه ان يكون طبيبي هذا مجنوناً.. الهي الهمني الصبر"..
-عفواً..هل هناك ضرورة لمعرفة الاسم والسن والمهنة؟ ارى ان اطرح عليك مشكلتي اولاً..
مد اهامه الى جوف انفه، سحب شعيرتين من داخلها، مسح ابهامه بالورقة التي امامه.
انتابني موجة من الضحك، بصعوبة بالغة استطعت التغلب عليها وخنقها في بلعومي..من لا يقول،، انه كان سيقذفني بتلك المنفضة الزجاجية، التي ليس فيها أي اثر لعقب سكائر او عود ثقاب، لو ان ضحكتي انطلقت حينها..قال الرجل الذي امامي:
- نعم..نعم يا صغيري، هذه الامور مهمة للطبيب النفسي، لتساعده اكثر على معالجة مريضه، هذا شيء من اختصاصنا نحن الاطباء، حتى معارضي بافلوف يحبذون هذا..
لا اعلم من اين خطر ببالي في ذات اللحظة اسماء:
كاربوف، عرب شاميلوف، هل اساله عن سبب خسارة كاربوف لبطولة العالم في الشطرنج؟ ولكن لم؟ طلما اني اعرف جدياً ان لا احد يظل في موقعه طول العمر، فهذه هي احدى بديهيات الحياة..لماذا يجذبني اسلوب عرب شَمّو الرصين في ملحمة قلعة دمدم ولماذا يتجسد امامي بكل هذا الوضوح صورة بطله التاريخي"خاني ذو الكف الذهبي"؟ ليتني اعلم سر مخاطبته لي احياناً.. هل يدري هذا الطبيب.. ما سر مخاطبته لي حينما يخرج الحوت من الماء ويطير الى السماء..!!
-كردو شمدين كريم
-ماذا كردون؟
-كردو..كردو...كاف، واو، راء، دال، واو، كردو..
-الا يبدوا اسمك غريباً..أ..اقصد ثقيلاً بعض الشيء؟
-لا انه سهل وبسيط جداً.. فقط قل معي كردو وسترى كم هو سهل التلفظ.
كالآن اتذكر جيداً ذلك اليوم الذي سالني فيه معاون الاعداية بنوع من التشنج:
-ماذا يعني كردو..ياكو..ردو؟!
ابتسمت في وجهه بنشوة وقلت له بأدب جم:
-مثلما سيكون جوابك لو سالك احد ما، ماذا يعني يعرب يا استاذي...
كان استاذي هذا يكره في مناقشاتي واسئلتي التى لا تنتهي علما اني اكنت متفوقا في مادته، واظن ان هذا كان يقلقه كثيراً...
لم يبد طيب السعاد ارتياحاً لكلامي، مثل استاذ الاعدادية.
-وعمرك؟
-ثلاث وثلاثون سنة وخمسة اشهر وبضعة ايام حسب ما مدون في بطاقة الاحوال المدينة ان كانت صحيحة..((هل تعلم اني مصاب بمرض الشك في صحة الاشياء؟!)) كان الطبيب يدون هذه المعلومات على تلك الورقة الصغيرة امامه...
-اين تسكن حالياً؟
-حي القر..!!
" هل اقول له حي القرج؟ هذا هو الاسم الذي اسمعه منذ ان وطأت قدماي ارض هذه المدينة، وهكذا يسمسها الناس، محلة القرج.. نعم يسكن فيها بعض القرج، وهو يشحذون ويمارسون الكدية علنا، وان بعض نسائهم يمارسن البغي تحت ضوء الشمس وهذا يحدث ايضاً في بعض الاحياء التى يسميها اناس حينا، بـ لأحياء الراقية... وان اطفالهم يشتغلون بمهنة صبغ الاحذية. احذية الكبار الذين يجلسون خلف مناضد كبيرة مرئية وغرف نوم مريحة، مكيفة، ولا يتوانون عن سرقة اموال الدولة في اللحظة الناسبة وحين يفتضح امرك، يلصقون التهمة بمن هم ادنى منهم في السلم الوظيفي، اليس هؤلاء قرجاً؟؟... في السنين الاخيرة بدأنا نسمع بأسم جديد لحينا "حي الجزائر" صيدلة الجزائر... افران الجزائر... الجزائر... الجزائر... من اين جاءت التسمية؟
من اطلقها؟ أجاءت اعتزازاً بدولة الجزائر العزيزة وشهدائها المليون في سبيل الاستقلال؟!! ام هناك سبب اخر...
-مابك؟ لم تجب..
-عفواً حي الجزائر.
"هل تعلم ايها الطبيب النفسي، ان حيُنا يفيضُ اذا استمر هطول المطر لثلاث ساعات متتالية، وان اطفال حيّنا يجدون متعة في السباحة في المياه التى تملأ كل ازقة الحي، مثل متعة اطفال الأحياء الراقية بمسابحهم الكونكريتية الزدانة بالاضواء الباهرة، والمحاطة بانواع الزهور والرياحين واثيل الاخضر... هل تعلم ان اطفال حينا يشتمون امهاتهم ويسبونهم اشد المسبات، وانهم يتبادلون الادوار، انها فرصة طيبة لتعرض المراهقات سيقانهن وسط الماء... لقد وعد رجل البلدية اهالي خيراً وربما يتحسن الشارع الرئيسي وتختفي اكوام النفايات من الحي ".
- ها...ها... حي الجزائر اعرفه جيد اً، ان الخادمة التى تشتغل عندنا في البيت من هذا الحي ..
البيت الثالث على اليمين، قرب مستوصف الصحة المدرسية، اسمها زينب... على الرغم من امية الا انها ذكية، هل تعرفها؟
-لا...
-وعملك يا كردو؟
-مساعد امين مكتبة...
اخرج الة تسجيل متوسطة الحجم من درج مكتبة، تاكد من ربط السلك الموصل للتيار الكهربائي، ثم وضع شريطا في جوفها، ضغط على زرين معاً، رفع عينيه المخبئتين خلف نظارته السميكة وقال:
-لكي اتمكن من علاجك بدقة، عليك ان تكون صريحاً وصادقاً وأن تقول كل ما لديك بمنتهى الحرية... ها مم تشكو؟
" ان تقول كل ما لديك بمنتهى الحرية، ياللحرية... اذكر جيداً، اني صفقت من الاعماق لابن ادم التونسي حينما قال في بداية قصائده القصير " لأن الحرية متوفرة بكثرة في بلدنا، سنقوم بتصديرها الى دول العالم الاخرى ".
احسست بشي من الراحة حينما اعتدلت في جلستي : منذ اكثر من سنتين بدأت تراودني احلام مزعجة، تقلقني، لدرجة انني وانا نائم، انهض دون وعي واقوم با عمال لا ارادية، كوابيس لعينة تسكن جسدي تسير في كل انحائي كالدم، تسلبني ارادتي، تسيرني حسب ما ترد... تصور يا طبيب السعادة ان زوجتي التى احبها اشد الحب، اردت ان اخنقها وانا نائم... نعم نائم يا حضرة الطبيب.... اردت ان اكذبها، لكن والدتي اكدت لي وقالت لو لا وصولي في الوقت المناسب بعد صرختها المدوية
لكانت جثة بلا روح... وتقول امي انك غالبا ما تخرج بعد منتصف الليل وحين نريد ان نمنعك تصير عيناك جمرتي نار، ويتقلص وجهك وتغدو وحشا بريا شرسا، نخاف منك، نبتعد عنك، وأحيانا تعود من آذن الفجر الى البيت وتنام لتستيقظ وتتناول فطورك وكأن شيئا لم يحدث البتة...
واني لأتذكر جيدا يا طبيب السعادة، ذات ليلة رأيت حوتا كبيرا يخرج من النهر، ويحدق في وجهي ثم يطير الى السماء ويقترب من الغيوم.
يجتازها... يطير ببطء الى القمر المتلألئ... يقترب منه... يفتح فمه الواسع كالكهف ويبتلع القمر... يختفي ذلك الضياء الجميل الجذاب ويحل الظلام في الارض والسماء... ويهبط ثانية الى النهر... احمل محراث جدي واتجه الى النهر لاقتل الحوت واستعيد منه القمر، ارى فجأة قطيعا من الذئاب الظامئه للدماء البشرية تظهر امامي وتلاحقني، أتراجع قليلاً، يصرخ في "خاني ذو الكف الذهبي ".
-لاتتراجع يا كردو...سأساعدك.. وبنطق كبير الذئاب، كالبشر:
-طرى لحمك يا فتى
تهاجمني،وانا اتسمر في مكاني، يبهت لوني، تموت الكلمات في حلقي ويقبل "ميرزا محمد" بحصانه الاشهب ويرفعني عن الارض ويضعني خلفه ويعود بي الى حيث اسكن... واستفيق...لا خاني.. لا ميرزا محمد.. ولا حصانه.. عواء الذئاب يملأ اذني.. اخرج من الفراش تحس بي زوجتي، تتوسل الى:
-ارجوك ان لا تخرج.
ما ذنب هذه المرأة لتتحمل كل هذا العذاب.. صدقني يا طبيب السعادة لا احس بنفسي حينما احرق البطانيات واضرب صغاري، واصرخ على هواي في كل ارجاء البيت، واطرق ابواب الجيران..احدهم يقول:
-دعوه لقد جن.
وآخر يقول:
- لم لا ندخله مستشفى المجانين..
وعجوز مقوس الظهر تقول: دعوه لحال سبيله، انه طيب.. وانت ماذا تقول يا طبيب السعادة؟
هز الطبيب رأسه عدة مرات، رمى نظارته على المنضدة، ما ان تحركت شفتاه، حتى ملأ رنين الهاتف ارجاء الغرفة التي تحتوينا.. اوقف آلة التسجيل، رفع سماعة الهاتف وبصورة ميكانيكة قال:
-نعم..نعم، انا، انا عيفان راضي.
-.....
-يا الهي ماذا تقول، في المستشفى العام!! أنا آتٍ..
ارتبك كثيراً، تناول سترته ونظارته، قال لي وهو يترك الغرفة:
-تعال بعد اسبوع..ولدي في حالة خطرة، حادث سيارة...
خرجت خلفه مباشرة لم يكن في الصالة احد غير شاب بجلباب طويل واكمام عريضة وهو يكنس ارضية الصالة المتربة.
اشتريت من الصيدلية الكبيرة، علبة حبوب كالتي معي واتجهت الى موقف الباص وانا اقول لنفسي "هل حقاً انا مجنون.. ام في عالم مجنون؟؟" وضحكتُ..
إنتبه بعض المارة لذلك فخجلت بحق.. آثرت السير على الاقدام، طالما ان المساء كان هادئاَ..
اتصدقون؟؟..
****
ليلة المطر
-اهناك اجمل من المطر؟
مشطتَ شعركَ باصابعك، مَسدتَ شاربيك. غادرتَ الغرفة،
افقلت الباب، علّقتَ المفتاح في اللوح العتيق. لم تنظر المرآة التى صادفتك في الصالة.
نزلتَ الدرج،لم تكن بحاجة الى فتح الباب، فقد كان نصف مفتوح.
-كم بهية رائحة الارض بعد المطر!!
زررت (الزر) العلوي لسترتك، وضعت يديك في جيبي البنطلون الوحيد الذي جلبته معل.
-خذ الجوزي ايضاً، قد تحتاجه.
-هذا يكفي، لن اتأخر كثيراً.
سرتَ خطوات في الوحل تقارب عدد اصابع قدميك.وصلت رصيف الشارع المزدان بالكاشي الاصفر والابيض.. تأملت الجبل الشاهق الصامت، سحبت نفساً عميقاً من الهواء المطر:
-اااه يا للروعة!!
كانت اضواء الشارع باسمة، وحبّات المطر تتراقص حولها والسوق غافياً...
كنت فرحاً بقطرات المطر التى تقبل شعرك... واصلت المسير الى رأس السوق، عبرت الى الجهة الثانية وعدت ادراجك،
وثمة سيارة سوداء كانت تقطع الشارع...
وقفت قرب دللك المقهى الصغير
-ليكن خفيفاً.
ارتشفت قدح ماء، وجلست على الكرسي الخشبي الهزيل في الخارج.قطعة الخيمة المنصوبة فوق رأسك حمتكَ من المطر الذي تحبه.مددت ساقيك بكل حرية.
-الله بالخير.
-الله بالخير.
فبل ان تلامس اصابعك الملعقة الصغيرة، وقفت تلك السيارة السوداء قبالتك، رفعتَ شايك وارتشفتَ شيئاً منه.
-يا لكَ من محب للشاي!!
-ولكِ أيضاً يا حلوتي...
-اشرب، اشرب، قبل ان يبرد، وكفى كلاماً معسولاً
-وليبرد... ستسخنيه ثانية يا خفيفة الظل.
-يا لحبكَ هذا!!
ابتسمتَ، رفعتَ رأسك، كان الرجل الجالس في السيارة يحدق فيكَ بغضب معلن. اعطيتَ لصاحب المقهى مائة فلس وقلت له:
-ألا تأتيني بشاي آخر من فضلك؟
-بكل سرور
تجاهلته لم تنظر الى جهته، إلاّ انه لم يقدر ان يتمالك نفسه، وبانفعال صارخ خرج من السيارة وقصدكَ، قال لك بصوت جاف:
-على من تضحك
وضع رجل المقهى شايك فوق الطبلة الحديدية ذات الاقدام الثلاث، بهدوء ادرت الملعقة الصغيرة.
نفذ صبره:
-أأخرس انت؟ الا تسمعني.
اخرجت الملعقة من استكان الشاي ووضعنه في الطبق قلت له بهدوء:
-بأي حق تسألني هذا السؤال؟
بدت عيناه وكأنهما ستخرجان من محجريهما، مدَ يده نحوك وقال:
-لانك تضحك عليً
ببرود أعصاب قلت له:
-انا..أضـ..حَ..كُ عليك؟
-أجل... أجل.
-وهل اعرفك لكي اضحك عليك؟
-وهل هناك في هذه المدينة من لايعرفني؟
-لكنني لست من هذه المدينة.
حينما قلت له ذلك، قلَ حماسه، واصبح في شكٍ من امرك،
بصوت يكتنفه الخنوع قال لك:
-من اية مدينة انت اذاً؟
بابتسامة قلت له
-لا تملك حق هذا السؤال أيضاً... اليس كذلك؟
-....!!
مددت يدك الى جيبك، أخرجت علبة سكاير، اشعلت واحدة، ثم مددت العلبة نحوه:
-لا ادخن هذه النوعية.
صمت قليلا واردف قائلاً:
-ارجو الا اكون قد ازعجتك.
نظرت الى وجهه الاسمر وضحكت ثانية من الاعماق، ولم تجبه.
شربت شاياً آخر، ولم تكن فكة لتعطيه لصاحب المقهى، قلت له
-بقى لك درهم عندي
-ليكن الشاي الاخير على حسابي
-فلتعش.
نهضت، مغاداَ.... وصلت الى جثث التليفونات المتراصة وددت ان تسمع صوت اطفالك، لكنك تذكرت، ان دراهمك قد نفذت.. مرة اخرى ضحكن، رفعت رأسك الى السماء القائمة وكنت تبتسم من القلب، لهواء المطر البارد...
-حقاً المطر جميل...!!

دهوك - كردستان
/31/3/1990

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مرحباً بالمتألق
جلال زنكَابادي -

لايسعني إلاّ أن أهنئك صميميّاً بهذه المبادرة المفرحة،وأنتظر المزيد من مساهماتك الإبداعية(التأليفية والترجمية)بلغة الضاد الحبيبة؛تعزيزاً لحوارنا الثقافي مع أشقائنا العرب الأعزاء.

اهلا بكم..
رعد الحافظ -

اهلا بكتابنا الاكراد المبدعين وبتراجمهم العربية !فعلا نحن نحتاجها ليعرف الجيل الجديد المزيد عن طيبة الشعب الكردي وكرمه ! لان جيلنا نحن قد عرفه فعلا على ارض الواقع ! لكن ليغفر الله للساسة الذين البسوا الحق بالباطل , بحيث لا يعرف الشباب الحالي الشيء الكثير عن هذا الشعب الطيب ! واتمنى للمستقبل السيطرة على الاخطاء الاملائية ! اما النحوية فليست مهمة في هذه المرحلة ! شكرا لكم يا اخوتنا الاكراد .

مرحباً بالمتألق
جلال زنكَابادي -

لايسعني إلاّ أن أهنئك صميميّاً بهذه المبادرة المفرحة،وأنتظر المزيد من مساهماتك الإبداعية(التأليفية والترجمية)بلغة الضاد الحبيبة؛تعزيزاً لحوارنا الثقافي مع أشقائنا العرب الأعزاء.