ثقافات

محمود أمين العالم... المثقفون لا يموتون

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وفاة الكاتب المصري محمود أمين العالم"أقول له لا تفكر في السن، أمامك مهمة غاية في الأهمية مصر والعالم العربي في حاجة ماسة أليك، فهم يعيشون أزمة كبيرة، أزمة تحول، ويعانون من ضغوط شديدة فبعدما كنا في مصر نحاول أن نصبح قطعة من أوربا أضحينا الآن قطعة شطرنج في يد أمريكا وإسرائيل لذلك رسالتك ممتدة إلى أن يسترد الله ودعيته في توعية الناس ورفع الالتباس وهذه مهمة الأديب والمفكر".بهذه الكلمات كان المفكر المصري الكبير محمود امين العالم يجيب على تساؤل وجهه له صاحب هذه السطور عن الرسالة التي يوجهها لذاته بعد سنوات طويلة من النضال انطلاقا من ان الكاتب يؤكد بكتاباته وعيه بذاته على حد قوله ومنهيا بذلك ساعات اربع امتدت لتشمل واحدة من امتع واعمق امسيات الفكر، ذات ليلة حارة من ليالي الصيف الماضي، بعدما قدر لنا الوصول الى منزله وسط غابة الحراسات والمتاريس المقامة من حوله والتي كثيرا ما اشتكى الرجل من انها تحول بينه وبين مريديه،والسبب ان منزله الكائن في منطقة جاردن سيتي بوسط القاهرة ملاصق تماما للسفارتين البريطانية والامريكية وكأن الرجل اراد ان يكون شاهدا من شرفة داره على امبراطوريتين احداهما غربت عنها الشمس والاخرى تنتقل من الشفق الى الغسق، وها هو الله تعالى يسترد وديعته لكن تبقى رؤى المفكر الراحل في حاجة الى اعادة قراءة سيما من قبل الاجيال الشابة.
ذهبت الى الاستاذ العالم وانا ابحث عن البدر الذي يفتقد في الليلة الظلماء وما احلك ليل العرب في حاضرات ايامنا NOSTRA AETATE حسب المصطلح الفاتيكاني.
ماذا عن ابعاد الازمة الفكرية العربية الانية يا استاذ؟هكذا بادرت الرجل الذي يقترب من التسعينات بجسده وان بقي شباب بفكره وروحه وعقله وكان الجواب : هوأن ملامح ألازمة تتبلور في كلمة واحدة هي الديمقراطية، وملامحها أن الناس لا يتكلمون فيما يتعلق بمصائرهم وإذا تكلموا أوقفوا أو سجنوا أو يحدث ضد ما يقولون به لذا أنا اربط بين غياب أو نقص مساحة الديمقراطية وبين أزمات الفكر العربي، فالفكر راي والديمقراطية هي الطريق الذي يعبد للرأي مسار الوصول إلى الناس، لكن يبقى رغم كل ذلك القول أن العالم العربي ملئ بكنوز فكرية وثقافية لكنها في حاجة لمن يمسح عنها الغبار ولا طريق لمداواة ألازمة سوى أن يتكلم الناس وان يختاروا مصائرهم وان يشاركوا بروح النقد الموضوعي، النقد بمحبة، عندما تنقدني بمحبة أشكرك ولا أفكر في سجنك، النقد طريق لكشف عيوبنا وتجاوزها بروح الود.
كنت اعلم من قراءات سابقة للرجل أن نقطة البداية ليست هي الحرية، فالحرية هي الوسيلة، ولهذا فقد اكد على نقطة البداية الحقيقية هي الوعي بالذات، الوعي بما يحتاجه الواقع، واقع الجماعة،واقع الأشياء،كيف نجعل الأشياء تتحرك إلى الأمام؟ كيف تتخصب من ذاتها، كل شيء فيه خصوبة كيف نكتشف عامل الخصوبة في الأشياء؟ وبالتالي الحرية هي الوسيلة لتحقيق هذا، أنت في السجن حر "يقول العالم الذي سجن في ايام عبد الناصر في سجن الواحات"، حر في امتلاكك لحسن رؤية الأشياء واكتشاف إمكانيات التغيير ودائما أقول إن كل شيء يمتلك أن يكون أفضل من ذاته، التراب يتحول إلى جبل والجبل يضحى نفق والنفق ربما يكون وسيلة للارتفاع لشيء أخر، لو أحسنا إدراكه وأحسنا حرية التغيير، لكن الحرية بدون وعي لا قيمة لها.
ساءلته ما الذي تعنيه بقولك أخشى أن تتحول الثقافة إلى وسيلة لتغطية مساؤى الدولة؟
فاجابني تساؤلك يقودني للرد بتساؤل مضاد ما هي الثقافة؟
في اللغة العربية والتراث الإسلامي نجد تعبير " ثقف الرمح " أي جعل من قطعة الحديد الجرداء عبر وضعها في النار أداة فاعلة في الحرب يمكن استغلالها وعليه فالثقافة فاعلية، معرفة فعالة وليس مجرد معلومة،وعندي أن الثقافة يمكن بالفعل أن تستغل، فهناك ثقافة الوعي وهناك ثقافة ما ضد الوعي كالقمع والقهر والتعمية. إذن نحن أمام إما ثقافة التوعية أو ثقافة التعمية، وعندما يتثقف الفكر يعمل ويفعل لكن أي فعل هذه هي القضية، لهذا نرى أن هناك من ينشئ أسس ثقافية من اجل طمس الثقافة طمس الوعي وتحويله إلى سيطرة لذا فان اكبر إشكالية في الدول غير الديمقراطية هي محاولة السيطرة على الثقافة وبهذا تتم السيطرة على العقل والفكر والحركة والسلطة.
حالة الجدب العربي والفكري منها خاصة في العقود الأخيرة على صعيد العالم العربي لم تكن لتغيب عن ناظري وانا احاصر باسئلة لا تنقطع قمة فكرية، ويعزيها العالم إلى غياب الرؤية المستقبلية، اذ تسيطر على الأجواء رؤية للهيمنة على الحاضر من قبل قوى اجتماعية معينة ليس لديها حلم للمستقبل أو رغبة فيه.
والمستقبل عنده هو القدرة على تغيير الواقع إلى ما هو أفضل، تجديد الواقع بما في الحياة من جديد، عندما اتامل الأشياء أتصور أن كل شئ له قانون ربما نحن لا نعرفه ولهذا نحن مطالبون بتحسين مقدرتنا على معرفة قوانين ألأشياء الموضوعية وتحويلها للأفضل غير أن المشكلة الحقيقية ولو من وجهة نظر فلسفية هي أننا في أحيان كثيرة نفرض قوانينا الخاصة، نوقف ماهو ضروري وبذلك نوقف الجدل الحي والتطور الطبيعي للاشياء نوقف تطور الواقع الحي ونخلق واقع مقيد بمصالح فئوية ضيقة، هذه هي القضية ومن هنا ينشا الجدب والتقوقع وتنتشر القزمية أو الأحادية وكلها توؤل إلى مشهد الديكتاتورية.
الخطاب الثقافي العربي الذي كاد ان يضحى مهترئا ظل من شواغل المفكر الماركسي العتيد والبحث عن تجديده احتل من ذاكرته الحديدية مكانة عريضة.. كيف يكون التجديد يا معلم؟
يكون التجديد - يجيبني في سقراطية بينة- من خلال تغيير الواقع فالثقافة مرتبطة بتغيير الواقع، وفي راي أن مصر والعالم العربي في حاجة ماسة لذلك انطلاقا من كافة الأوضاع لمعالجة الخطاب الفكري الذي اعتراه الصدأ، لكن أقول انه برغم هذا وبفضل هذا هناك ثقافة جديدة تتبلور في الأفق وهي ثقافة المقاومة وأنا هنا أتحدث كرجل سوسيولوجي وليس كرجل حرب، وتجديد الخطاب الثقافي لا يكون إلا من خلال تغيير أنماط التفكير وتجذير إرادة التطوير والاستفادة من الكنوز المخفية في التراث العربي والإسلامي هذا يمكن اعتصاره والنهل من ينابيعه، فالقضية هي قضية معرفة والسيطرة عليها لمصلحة الناس جميعا بمستوياتهم المختلفة نحترم الاختلافات بدون عمل تفاوت في المصالح وستبقى دائما القدرات مختلفة لكن الإرادة لتطوير مصالح الناس لما هو أرقى وأنبل وأجمل وأكثر نفعا للحياة هو الذي يجب أن تكون له الأولوية.
الم تغازل شهوة السلطة المثقف العربي محمود أمين العالم؟
التساؤلات دائما ما تكون اهم من الاجوية وبخاصة عند الفلاسفة والمفكرين ولذلك يبادل الاستاذ العالم التساؤل بتساؤلات قبل ان يمضي الى الاجوبة :
ما هي السلطة؟ السلطة السياسية في راي أخر شئ يفكر فيه الإنسان وأول شئ له الحق في أن يسعى إلى تغييره، أن يكون المثقف في السلطة وعيا ورأيا مسموعا وفكرة هذه هي القضية وعليه فالمثقف ملزم بان يكون رأيا معنيا مسموعا في كافة أوجه السلطة العملية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أن تغازل شهوة السلطة المثقف شئ لا باس به شريطة أن تكون تلك الشهوة فكرية مرتبطة بإرادة التقدم والفاعلية وصناعة المستقبل الأفضل هذه هي المسالة.
حتى أوائل العشرينات كان محمود أمين العالم متدينا لحد ما، غير أنه وجد في مكتبة أخيه شوقي كتابا عن الحلاج " الطواسين " فأخذ ينهل منه ثم تعرف على ابن عربي ولويس ماسينيون كما قرا لاحقا لعدد من المتصوفين ومن خلال تلك القراءات وجد كتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت " واكتشف أن الحلاج المؤمن هو نيتشه الملحد وربط بين الاثنين غير أنه تعلق بنيتشه سيما بعد ظهور مقالات الدكتور زكي نجيب محمود التي تكلم فيها عن هذا الفيلسوف الألماني الكبير وفي تلك المرحلة كان والده وأخوانه يريدونه أن يلتحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب غير إنه اختار الفلسفة ليبدا مع د. عبد الرحمن بدوي رحلة جديدة في الفلسفة قادته لاحقا للفلسفة الوجودية والتي كانت المقدمة الطبيعية لاعتناقه الفكر الماركسي.
وفي حضرة المفكر العالم يضحى من قبيل الخطيئة المميتة لا العرضية ان لا يتساءل المريد عن الحركة الشيوعية المصرية وهل فشلت حقا في بلورة مشروع فكري لها؟
أصدقك القول إن الحركة الشيوعية في مصر بدون مبالغة أو زيف بلغت في أوقات كثيرة مراحل متقدمة من العمل العام في مصر فهي لم تتأسس على يد هنري كورييل في الأربعينات كما يقول الأستاذ هيكل لكنها بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر من خلال نقابة عمال التبغ وخلال العقدين الأوليين من القرن العشرين كان في مصر مفكرين يساريين عمالقة مثل سلامة موسى وغيره من الذين قدموا نظرية كاملة للماركسية في تطبيقاتها على مصر وكانت بداية الحزب الشيوعي المصري رسميا في 1920 وشارك في تأسيسه في ذلك الوقت شيوخ كبار من الأزهر وعدد وافر من اراخنة المسيحيين الأقباط، ومن كافة التيارات شباب وشيوخ. هذه هي شهادة العالم عن اليسار المصري.
مذكرات الاستاذ العالم بعنوان " اصطياد الإنسان " معزوفة من الألم الراقي... وعنده ان هناك من يتحمل بصبر رغم حالة " المحاق " التي نعيشها على كافة الأصعدة، الناس تكافح من اجل الوصول للأفضل، فكل إنسان يحب الحياة وكل إنسان يتطلع لان يكون طيب وخير وجيد وبالتالي هناك مجاهدة برغم وبسبب الألم، ويبقى الألم في تقديره أمر خلاق سيما عندما نتجاوزه ونسيطر عليه، "أنا مدين لسر الألم في فهم طبيعة الحياة المؤلمة والتغلب عليها والخروج من براثنها هذه هي القضية يقول العالم والذي كان قد فقد شريكة عمره منذ بضعة اشهر".

كيف تقرا مستقل الإنسان العربي؟
المستقبل لا يرى لكن يناضل من اجله، وبالتالي لابد من ضرورة الوعي بهذا المستقبل، الوعي بالواقع وبما سنذهب إليه دون " دوجما " لأنه في راي أن كل حركة تكشف رؤية أوسع بمعنى أن قراءتي اليوم للمستقبل تقول انه من الجنون التطلع إلى إعادة نشر الشيوعية، لكن التطلع يجب أن يكون لتفعيل دور الثقافة والمثقفين والوصول لبر الديمقراطية وتوسيع أفق التعليم وارتفاع مستوى معيشة الناس كل هذا هدفه ترقية الإنسان، والمستقبل في تقديري لا يقوم إلا إذا فهمنا حركة الأشياء وتفاعلاتها مع بعضها البعض وان لا نرتكب خطا الجمود القاتل الذي ارتكبه ستالين معتبرا أن الشيوعية " هي كده " لهذا استمرت الشيوعية الصينية التي عرفت كيف تواكب العصر وفشلت الشيوعية السوفيتية في البقاء.
والشاهد ان حديث تلك الليلة يتجاوز المسطح المتاح للكتابة على ان الملفت لحد الإعجاب في شخص الراحل الكبير هو انه وحتى ساعات عمره الاخيره لم يكن ليحمل بين حنايا ضلوعه سوى قلب مليء بالحب لكل من يعرفه حتى لأولئك الذي عذبوه وتعاملوا معه على انه صيد في مرحلة "اصطياد الإنسان"، وبهذا القلب استمر الحوار معه لساعات طوال أشفقت عليه فيها كثيرا، في حين كان يتطلع هو إلى المزيد من التساؤلات القلقة مقدما اجوبة تصب في مهمته التي يرى انها ممتدة ولم تنته بعد ولا اظن انها تتوقف برحيله عن عالمنا فالافكار لها اجنحة تنتقل عبر الاجيال ولا يعرف الموت لها طريق ذلك لانه اذا كان الذين يقراون لا ينهزمون فان المثقفون لا يموتون..
كاتب مصري
emileamen@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
نعم في العالم الاخر
العكيلي -

نعم كل مثقفون العالم لايموتون لانهم ببساطه يتركون ما يخلدهم الا مثقفون العالم العربي واعني هنا مثقفون السلطات العربيه ميتون بالولاده واذا كان احد منهم يعيش ويموت فيترك ما يخجلهم ببساطه ما فائدة هذه الثقافه اذا لم تجد نفعا ونحنو نعلم احوال الامه العربيه البائسه والمنكسره والترههله وللمثقف دور كبير في هذه في صنع هذه الحاله

أحسنت يا سيد أميل
حسن بيومي -

شكراً يا أميل على ما سجلته للتاريخ