شللي: دفاعاً عن الشعر
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ولكن الشعراء، أو من يتخيلون هذا النظام الذي لا يفنى ويعبرون عنه، ليسوا مؤلّفي الكتابة والموسيقى والرقص والعمارة والنحت والرسم وحسب، بل هم أيضاً مشرّعو القوانين ومؤسسو المجتمعات المدنيّة، ومخترعو فنون الحياة، والمعلمون الذين يستطيعون الاقتراب من الجميل والحقيقي، ذلك الفهم الجزئي لحقائق العالم غير المرئي الذي يدعي بالدين. ومن هنا كانت الأديان الأساسيّة رمزية أو توحي بالرمز، وكان لها، مثل يانوش، وجهان أحدهما كاذب والآخر صحيح. وقد كان الشعراء في فجر العالم، وفقاً لظروف العصر والأمّة التي ظهروا فيها، يُدعون مشرعين أو أنبياء. والشاعر في حقيقة أمره يضم هاتين الخاصيتين ويجمع بينهما، إذ أنّه لا يشاهد فحسب الحاضر كما يتراءى، بعمق، ويكتشف تلك القوانين التي ينبغي أن تنتظم الأشياء المائلة وفقاً لها، بل يرى المستقبل في الحاضر. وأفكاره هي بذور أزهار الزمان الراهن وثماره اللاحقة في وقت معاً.
وهذا لا يعني أنّني أوكّد أن الشعراء أنبياء بالمعنى الكامل للكلمة، وأنّهم يستطيعون التنبؤ بأشكال الأحداث بثقة كما يعرفون روح الأحداث: إنّ هذا لهو دعوى الأساطير التي قد تجعل الشعر صفة من صفات النبوّة بدلاً من أن تعتبر النبوّة صفة من صفات الشعر. إن الشاعر يشارك في الخالد والمطلق والواحدد، وليس للزمان والمكان والعدد صلة بمفهوماته وتصوراته. فالأشكال اللغويّة التي تعبّر عن حالة الزمن، واختلاف الأشخاص، وتباين الأمكنة كلّها قابلة للتحوّل في نطاق أسمى ضروب الشعر دون أن تمسّه باعتباره شعراً. وجوقات أسخيلوس، وسفر أيوب، وفردوس دانتي قد تزودنا أكثر من غيرها بأمثلة على هذه الحقيقة... كما أن مبدعات النحت والرسم والموسيقى هي شواهد أقوى دلالة.
(...)
إنّ جميع الاعتراضات التي تثار... حول خلود الشعر، تستند إلى فكرة خاطئة حول الطريقة التي يعمل بها الشعر ليؤدي إلى ترقية الإنسان من الناحية الأخلاقيّة. إنّ علم الأخلاق ينسّق العناصر التي خلقها الشعر، ويرسم الطريق ويقدّم الأمثلة على الحياة المدنيّة والبيتيّة: وليس الافتقار إلى المبادئ القويمة هو الذي يدفع الإنسان إلى أن يبغض بطريقة أخرى أكثر سموّاً. إنّه يوقظ العقل ويوسّع نطاقه إذ يجعله قادراً على تلقّي ألوف من مركّبات الأفكار غير المدركة. إنّه يكشف القناع عن الجمال الخفي في الدنيا ويجعل الأشياء المألوفة تبدو وكأنّها غير مألوفة. إنّه يعيد خلق الأشياء التي يعرضها. وتلك المجسّمات التي تتدثّر بنوره البهيج، تمثّل في عقول أولاء الذين سبق لهم أن تأمّلوها تذكاراً لذلك المعنى الرفيع المجيد، الذي يفيض من ذاته على جميع الأفكار والأفعال التي يعيش معها. إنّ جوهر الأخلاق هو الحب، وهو تنازل منّا عن طبيعتنا وإدماج لذواتنا في الجميل الذي يقوم في فكر غير فكرنا أو فعلنا أو شخص سوانا. وإذا أراد الإنسان أن يكون عظيم الخير وجب عليه أن يكون عظيم الخيال واسعه. وعليه أن يضع نفسه في مكان الآخرين، أو، تصبح آلام جنسه ومسرّاته ملكاً له. وأعظم وسيلة لتحقيق الخير الأخلاقي هو الخيال. والشعر يقود إلى النتيجة بالتأثير في السبب. إنّه يوسّع دائرة الخيال إذ يفعمه بأفكار ذات متعة لا تخلق جدّتها. وهذه الأفكار قادرة على أن تجتذب إليها الأفكار الأخرى تتمثلها في طبيعتها. وهي تخلق فترات وفجوات يتوق خواؤها دوماً إلى طعام جديد. إنّ الشعر يقوّي الملكة التي هي أداة الطبيعة الأخلاقية في الإنسان كما تقوّي الرياضة العضو. فالشاعر إذن يسيء صنعاً حين يجسّد أفكاره عن الخير والشر، وهي ترتبط عادة بمكانه وزمانه، في مخلوقاته الشعريّة التي ليس لها علاقة بذلك الزمان والمكان. ذلك أنّه حين يفترض خسة الدور الذي عليه أن يؤديه في تفسير النتيجة - وهي نتيجة قد نتحلل منها في النهاية تحللاً جزئياً - فإنّه قد يفلت المجد المتاح من مشاركته في السبب. لم يكن ثمّة كبير خطر في أن يسيء هوميروس، أو أيّ شاعر آخر من الشعراء الخالدين، فَهْمَ نفسه إلى حدد أن يتخلّى عن عرش سلطانه الواسع هذا. أمّا الشعراء الذين كانت موهبتهم أقلّ عمقاً، على عظمها، أمثال يوربيس ولوكان وتاسو وسبنسر، فإنّهم كانوا دوماً ينتحلون غايات أخلاقيّة. وكان أثر شعرهم يتناقص تناقصاً مطرداً مع الدرجة التي يحملوننا فيها على أن نلتفت إلى هذه الغاية.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف