ثقافات

وفاة السارد السافر جون ابدايك

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إعداد خاص بإيلاف: توفي هذا اليوم الكاتب الأميركي الكبير جون أبدايك بعد نضال طويل مع مرض سرطان الرئة. ولد جون أبدايك18 مارس 1932 في بنسيلفانيا. تعاطى المخدرات إبان شيوعها وسط الشباب الهيبي والمحتج على حرب فيتنام مطلع سبعينات القرن الماضي. وقد عبر عن هذه الفترات من خلالعمله الأول الذي كان يدور عن أحد نجوم كرة السلة هاري رابيت انغستروموعنوان الرواية "رابيت، اركض".والحقها فيما بعد بأربعة أجزاء تتابع حياة هذا اللاعب خلال ثلاثين عاما (1960 وحتى 1990). اشتغل في مجلة "نيويوركر" في منتصف الخمسينات... وفي الحقيقةانغمس ابدايك في كتابة عروض كتب للمجلات الثقافية المشهورة.إذا كان يعشق القراءة وإبداء الرأي في ما يقرأ من أعمال أدبية أو فنية. لكن كانيشعر بذنب في الكتابةعنكتب اصدقائه. وقد اوضح هذا في حوار مع المجلة الالكترونية "كريتيكال ماس"، قائلا: "لم أكن أحس بالارتياح كلية في كتابة عروض لكتب نظرائي، فأنا أحس بالذنب إلى حد ما من جراء المراجعات الفاترة لكتاب أعرفهم وأعجب بهم، ولذا فأنا سعيد لإرسال عدد محدود من أعمال الكتاب الأميركيين إليَّ لمراجعتها، فمن الأسهل كثيراً أن تكون الشخص الذي تسند إليه مراجعة رواية جديدة من شرقي أوروبا أو مسرحية طليعية. وكنت واحداً من قلائل يبدون استعداداً لقراءة مثل هذه الكتب، وكان ذلك أمراً ممتعاً، حيث أراحني ذلك من أي منافسة، واعتقدت أن هذه الكتابات قد تعلمني شيئاً جديداً من دون أن يكون في قولي هذا أي ادعاء، فهي قد علمتني بعض الأمور الجديدة بالفعل، وأنا أحصل على بعض الكتب المترجمة إلى الانجليزية وأقرأها سعيداً". وعلى سؤال: "هناك في كتابك "أجزاء ملتقطة" مقال بعنوان "مستقبل الرواية" هل لك في أن تحدثنا عن هذا المقال؟ وإذا كتبت مقالاً موازياً عن مستقبل كتابة عروض الكتب فما الذي ستقوله فيه؟" أجاب أبدايك: "ألاحظ أن سلاسل متاجر متخصصة في بيع الكتب لم يعد لها وجود اليوم وكذلك الحال بالنسبة لمجلات متخصصة في الكتب مثل (ساترداي ريفيو أوف لتراتشر). وأعتقد أن الاهتمام بالكتاب ينحسر الآن على مستوى العالم، وهذا أمر محزن للغاية بالنسبة لي، وهكذا فإن الطلب على كتابة عروض الكتب ينحسر أيضاً.وقد رأى عدد من الصحف أن من المناسب إلغاء صفحة الكتب من تبويبها. وكلمة رواية تعني باللغة الانجليزية شيئاً جديداً، وقد كانت الرواية في العادة تشكل أخباراً حقيقية مثيرة. .... ويمكنني القول إن هناك فقدانا عاما للزخم وقوة التأثير اليوم. والبصمة القوية للكتب التي اعتدنا أن نراها هي أمر نادر اليوم. ولا يزال مؤلفون من أمثال كريستوفر هيتشتر وجيمس وود يحدثون مثل هذا التأثير بين الحين والآخر. وأنا أتحدث هنا كرجل أوغل في العمر، أو هذا ما ينبغي على القراء أخذه في الاعتبار، ولكن هناك شعوراً بالتعب والإعياء في عروض الكتب كجنس من أجناس الكتابة.. فالكتب لا تزال تواصل التدفق، ولكن لماذا تواصل التدفق حقاً؟ ربما تكون هذه إجابة سريعة عن السؤال المطروح، ولكن الأمور تمضي في صورة دوائر. وشعور حيال نشاط الأعمال في مجال الكتابة هو أنه يتراجع، ولكن هناك عدداً غير قابل للتقليل من الناس الذين لا يزالون يجدون فوائد ومباهج في القراءة بحيث أنهم لا يتجهون اتجاهاً آخر، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الميدان هو بمثابة فن جدير بأن يمارس. وأنا سعيد بأنني لي حياه عشتها في الكتب.(من ترجمة أحمد شلتوتفي مدونته لدى مكتوب).
وطبع عشرات المجاميع القصصية القصيرة كـ"ريش الحمام".
وأبدايك معروف بسردية متقنة مشبعة بغنائية متوازنة وعالية النفس، في سلسلة "رابيت"(وتعني الكلمةأرنب)يكتب عنالعلاقات البشرية في المدن الصغيرة كنيو انغلاند، بلغة مكشوفة وسافرة تتعرف من خلالها على اولويات هؤلاء البشر: النكاح، شرب الخمر، ومقاسمة الملل اليومي. لكنلعل أكثر ما اشتهر به جون أبدايك، المؤلف الحائز مرتين على جائزة بيولتزر ("رابيت غنيٌّ" 1981، و"رابيت المتقاعد"1980)والذي جعلته وفرة أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة وأشعار ومقالات واحداً من أكثر الكتاب الأميركيين الأحياء احتفاء بهم، هو تصويره للحياة في أميركا البلدات الصغيرة والضواحي الغنية. وهو، بوصفه كذلك، مراقبا طويل الأمد لخصال بلده الغريبة وعاداته وطقوسه العريقة، ومفسرا للمشهد الثقافي الرحب الذي يحدد ماهية طبيعة الولايات المتحدة بشكل لا يقل عن تحديد الجغرافيا لها.وشخصيات رواياته مهمومة بشؤونها الخاصة يتحكم في وجدانها الذنب الديني مما تعيش على نحو نمطي في انتظار موتها. ولأبدايك أعمال روائية كثيرة منها: "شهر من أيام الأحد"، "الأزواج"، "ساحرات إيستويك" (الذي تحولت الى فيلم من بطولة جاك نيكلسون)، "في جمال الزنابق" و"جرترود و كلوديوس". وله كتاب يضم كل ما كتبه من قصائد منذ 1953 وحتى 1993.

وروايته "إرهابي" التياثارت ضجيجاواسعا، تكاد تجيب على سؤال اقلق الأوروبيين والأميركيين بعد أحداث سبتمبر:"ما هي العوامل والبواعث خلف مزيج الحقد واليأس الذي يمكن ان يحمل شابا مسلما على الوقوف ضد بلاده ويجعل منه ارهابيا؟" قال ابدايك "اردت ابتكار شخصية ارهابي ولد في بلد غربي وعرض (..) بعض اوجه شخصيته لتوضيح ما يحمله على التحول الى قنبلة بشرية". وبطل الرواية يتحدر من والدة ايرلندية اميركية ووالد اميركي انفصلا بعد تدهور حياتهما الزوجية. ويرى الشاب في الاسلام ثم في الجهاد سبيلا للهروب من حياة عصرية ورديئة والتعويض عن الوحدة التي يعاني منها منذ رحيل والده. واثار تناول ابدايك هذه الشخصية وقدرته على سرد تفاصيل ما يجول في بالها وقلبها انتقادات كثيرة في بلد ضربه الارهاب في الصميم في 11 ايلول/ سبتمبر 2001. وكانت الاعتداءات التي استهدفت مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون مصدر الهام للعديد من الكتاب الاميركيين ما ادى الى نشوء نوع ادبي حقيقي غير ان ابدايك الذي شاهد برجي نيويورك ينهاران من سطح مبنى في بروكلين بضاحية نيويورك هو اشهر الكتاب الذين عالجوا موضوع الارهاب حتى الان. وغالبا ما يبدي الكاتب في روايته مزيدا من التشدد حيال اميركا منه حيال شخصية روايته التي تقتل مئات الاشخاص في تفجير شاحنة تحت احد الانفاق الرئيسية المؤدية الى جزيرة مانهاتن. ويصور ابدايك بلاده مسترسلة في العنصرية وغارقة في تخمة الاستهلاك المثيرة للاشمئزاز ومستغرقة في عصر من الخفة السوقية واصفا المسلسلات التلفزيونية الحمقاء المخدرة للاذهان وتلال الطعام الرديء وملابس الفتيات المثيرة للغرائز. ويختار احمد طريق الاصولية والجهاد مدفوعا الى ذلك بنفوره من كل هذا الاسراف والمبالغة وهو نفور يشاطره اياه ابدايك نفسه على ما يبدو. وكتب ابدايك في روايته الثانية والعشرين هذه "يفكر احمد هذه الشياطين هذه الشياطين تسعى للاستيلاء على الهي". وانهالت المقالات النقدية ضد الرواية وبينها مقالة للناقد كريستوفر هيتشنز في المجلة الشهرية "اتلانتيك مونثلي" وصف فيها الرواية بانها مبتذلة وكتب "الإرهابي" هو اسوأ نص كتبه شخص بالغ منذ الاحداث التي استلهمها بهذا القدر من الاستخفاف". وترددت الاصداء السلبية ذاتها على الرواية في صحيفة نيويورك تايمز حيث وصف احمد بانه "صورة رائجة" بدون اي مصداقية و"اقرب الى رجل آلي منه الى كائن بشري". واوضح الكاتب نفسه لشبكة "ايه بي سي" ان الرواية ترسم "صورة ودودة" لرجل "وقع في مؤامرة" مضيفا "آمل ان يسمح هذا لقرائي بفهم دوافع اعدائنا الارهابيين".

*****

جون أبدايك يوضح كون الفن مرآة تعكس الروح الأميركية

بقلم لورين مونسن

بدا من المنطقي، عندما وصل أبدايك إلى واشنطن ليلقي محاضرة جفرسون في الدراسات الثقافية للعام 2008، النشاط الثقافي الذي رعاه الصندوق القومي للدراسات الثقافية في 22 أيار/مايو، أن يصوغ ملاحظاته حول سؤال واحد "ما الذي يجعل الفن الأميركي أميركيا؟"
وقال إن السؤال، "كثيراً ما أثير،" وإن كان طرحه لم يعد موضة شائعة كما كان في السابق، نظراً لأن أي دراسة شاملة لإنجازات أميركا في الفنون "تنجذب بصورة حتمية... نحو تلك المجموعة السكانية التي أصبحت أقل المجموعات السكانية تمشياً مع الموضة في الولايات المتحدة، الذكور البيض البروتستانت الذين تعود جذورهم إلى أوروبا الشمالية."
وقال إن السؤال خطر له عندما كان يفكر ببرنامج جديد، "تصور/تصوير أميركا"، ستعرض من خلاله ملصقات منسوخة عن 40 عملاً فنياً مهماً أميركياً في صفوف المدارس وفي المكتبات العامة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ويهدف البرنامج، الذي أطلقه الصندوق القومي للدراسات الثقافية وجمعية المكتبات الأميركية، إلى إطلاع التلاميذ الأميركيين على تراث بلدهم الثقافي من خلال الأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات وهندسة معمارية وحرف جميلة وصور تساعد في إلقاء الضوء على شخصية البلد ومثله وطموحاته.
ويقدم برنامج "تصور/تصوير أميركا" أعمالاً متباينة كتباين الصورة المعبرة التي التقطها الكزاندر غاردنر للرئيس إبراهام لكنولن المرهق من الحرب، الذي جلس أمام عدسته قبل ثلاثة أشهر فقط من اغتياله في العام 1865؛ ولوحة ماري كاسات الزيتية، (1893-1894)، "The Boating Party"، التي صورت مجموعة هادئة من أفراد عائلة تستمتع برحلة في قارب في بحيرة؛ ولوحة المهاجر الإيطالي، جوزيف ستيلا، جسر بروكلين، "Brooklyn Bridge" (حوالى 1919-1920)، التي مجدت ديناميكية الحياة الحديثة وعصر الآلة؛ وتحفة فرانك لويد رايت في الهندسة المعمارية، مياه متساقطة، "Fallingwater" (1935-1939)، وهي منزل معاصر جريء معلق فوق شلال مياه؛ ولوحة الفنان رومار بيردن، الحمامة، "The Dove" (1964) المصنوعة بأسلوب الكولاج، (الذي تلصق فيه قطع من الورق أو القماش أو السلك على سطح ما)، وهي عبارة عن مشهد يعج بالنشاط الصاخب في مدينة متقصياً تجربة الأميركيين-الأفارقة في المدن.

وفي حين أشاد أبدايك بـ"مجموعة الـ40 عملاً فنياً المتنوعة بحساسية" التي تضمنها برنامج "تصور/تصوير أميركا،" إلا أنه قال إن محاضرته، وعنوانها "وضوح الأشياء،" ستتمحور حول "الذكور البيض الموتى" المستهزَأ بهم كثيرا، الذين صاغ ما أسهموا به إلى مجموعة الأعمال التي تشكل المعيار الفني الأميركي فهم الشعب لتاريخ أميركا وتقاليدها الثقافية. وأضاف أنه رغم أن "هؤلاء الأشخاص الأبويين مفرطي الصرامة والرزانة" لا يحظون بالاستحسان في "عصر التعددية وتنقيح التاريخ هذا،" إلا أنه لا يمكن لأي شخص يسعى إلى التوصل إلى إدراك تام لكيفية تشكيل الفنانين للولايات المتحدة ، منذ كانت مستعمرات حتى الوقت الحاضر، إغفالهم.

* دولة ناشئة وفنانوها
يرى أبدايك أن أول رسام أميركي عظيم كان جون سنغلتون كوبلي (1738-1815)، الذي ولد في بوسطن لأبوين إيرلنديين مهاجرين. وبدأ مهنته الفنية في بوسطن كمراهق عبقري يرسم لوحات البورتريه الزيتية التي تنقل صورة الشخص المرسوم بواقعية تتميز ببراعة فائقة. وقال أبدايك إن اهتمام كوبلي بالتفاصيل و"مهارته الخارقة للطبيعة في رسم نسيج القماش وأنواعه" (وهي صفة مهمة إذ كانت ملابس الشخص المرسوم تدل على طبقته الاجتماعية)، سرعان ما جعلاه "رسام البورتريه الذي لا ينازع ليس فقط في نيو إنجلاند وإنما في جميع المستعمرات."
ويشتمل برنامج "تصور/تصوير أميركا" على لوحة بورتريه رسمها كوبلي في عام 1768 قال أبدايك إنها "لصائغ فضة ناجح من بوسطن، بول ريفير، الذي أصبح لاسمه، بفضل قصيدة نظمها (هنري وادزوورث) لونغفيلو في العام 1861، صدى يتردد في أسطورة الثورة الأميركية." ومضى أبدايك إلى القول: "هذه هي لوحة البورتريه الوحيدة التي رسمها كوبلي لحرفي يلبس قميصاً بدون معطف، و... مهما كان الأمر الذي كان ريفير يفكر به، فإنه على الأرجح لم يكن تلك الرحلة على حصانه التي أخذها على عاتقه في منتصف الليل بعد ذلك بثمانية أعوام وإنما العمل الذي كان سيقوم به في صباح الغد، وبعملية نقشه وتلميعه شديدة الدقة."
وقد انتقل كوبلي في نهاية الأمر إلى لندن كي يتمكن من إتقان الأسلوب الفني الإنجليزي، ورغم أن أعماله حازت على الإعجاب في إنجلترا، إلا أنه لم يوفق إطلاقاً في تحقيق نفس النجاح الذي أحرزه في مسقط رأسه. وكما قال أبدايك: "ترك (كوبلي) خلفه الأرض التي كافأته بمكانة لا ينازعه عليها أحد ... في سبيل إنجلترا ناضل فيها على الدوام لإثبات نفسه." وقال المؤرخ الفني لويد غودريتش إن أبدايك: "أعرب عن الأمر بدون مواربة: "فقدت أميركا أعظم فنانيها، لإضافة رسام جيد آخر إلى المدرسة البريطانية."
اشتهر نورمان روكويل برسوماته التي تصور القيم الأميركية الصميمية.وكان ونزلو هومر (1836-1910)، الذي ولد بعد كوبلي بـ98 عاماً، فناناً آخر من بوسطن كان أسلوبه في رسم اللوحات الزيتية صريحاً مباشراً بقوة، ومن الواضح أنه أميركي، في تصويره للمناظر الطبيعية البرية الجامحة الوعرة شديدة الانحدارات والمشاهد البحرية العاصفة، علاوة على تصويره غير العاطفي للعمال من الرجال والنساء الذين يظهرون صبراً وتحملاً يكادان يصلان إلى حد البطولة. وقد اختار برنامج "تصور/تصوير أميركا" لوحة بريشة هومر هي المحارب القديم في حقل جديد، "The Veteran in a New Field" (1865) التي أصبحت أساس صورة مطبوعة من كليشيهات خشبية استعملت كصورة توضيحية في مقالة صحفية نشرت في العام 1867 قال أبدايك إنها كان "تحتفي بعودة الجيوش (التي خاضت الحرب الأهلية الأميركية) على نطاق واسع من ساحات المعارك باعتبارها (أي العودة) نصراًً لمجتمع ديمقراطي."
ولم يكن هومر محصناً ضد التأثيرات الخارجية، ولكنه رفض بوضوح اتجاهات فنية معينة، بينها الحركة الإنجليزية الفنية الشائعة (في القرن التاسع عشر) بالعودة إلى أساليب ما قبل عصر الرسام الإيطالي رفاييل، التي اعتمد أتباعها رسم شكل البنية بأسلوب محدد واستخدموا ألوان الحجارة الكريمة. أما هومر فكان يستخدم في أعماله الألوان المخففة إلى حد ما وكانت ضربات فرشاته قوية متسمة بتحرر لا تحده قيود لخلق توتر ديناميكي. وقال أبدايك إن لوحاته التي تصور مش?هد بحرية كانت بشكل خاص "صور قوة وهيجان عاصف بدائي،" مع وضع الأصباغ على اللوحة بشكل "يكاد لا يتقيد بأي قيود" ولا يحاول إخفاء جهد الفنان.

وأضاف أبدايك أنه من خلال "كسو (هومر) اللوحة بطبقة كثيفة (من الطلاء الأبيض) بسكين ينقل الطلاء الزيتي من لوحة ألوانه إلى قماش اللوحة الزيتية، و"نشره في مكانه على اللوحة مقلداً نشاط المياه الهائجة، نشاهد في آن واحد المحيط والفنان أثناء قيامهما بعملهما. وهذه المراحل الصعبة من الزبد المتدفق بسرعة والرذاذ المنفجر منه هما تصوير لظاهرة طبيعية وفي نفس الوقت أمثلة على البراعة في الرسم" يندمجان معاً بسلاسة تامة على قماش اللوحة الزيتية.

* صياغة هوية: الماضي كمقدمة تمهيدية
أشار أبدايك في محاضرته إلى عدة فنانين مرموقين آخرين تضمنهم برنامج "تصور/تصوير أميركا،" مثل غرانت وود، الذي تقدم زيتيته "رحلة بول ريفير على جواده في منتصف الليل" (The Midnight Ride of Paul Revere) صورة ملتقطة من الجو لإنجاز ريفير الشهير وقد صورت "بنفحة من المحاكاة الساخرة؛ فالقرية تبدو كلعبة أطفال صغيرة،... وقد تمدد فرس ريفير فوقها في وضع حصان خشبي للأطفال." وتشكل نفحة بساطة شعبية مماثلة جوهر الجدارية التي رسمها توماس هارت بنتون في العام 1975 بعنوان "مصادر الموسيقى الريفية" (Origins of Country Music)، والتي رسمت بخطوط بنتون المرنة المتواصلة دون انقطاع عادة." ويرى أبدايك أن "مثل هذه الرسوم التمهيدية الإيجازية المضحكة تطلب من المشاهد بلطف عبقري أن يتوقف عن عدم التصديق بينما تعرض عليه ما هو صورة أميركا الذاتية أكثر مما هو مشهد أميركي،" وتصبح بذلك تحية حنونة للأساطير القومية والقصص غير القابلة للتصديق.
ووصف أبدايك الصورة التي التقطها ووكر إيفانز في العام 1919 لجسر بروكلين، الذي بدا فيها الجسر وكأنه أعجوبة هندسية "تقاوم خطوطها جذب الجاذبية الأرضية لها إلى أسفل برشاقة، تماماً كما تقاومها أقواس الكاتدرائيات القوطية مستدقة الرأس،" بأنها تسجل تحول أميركا إلى بلد صناعي. وقد جاءت المشاهد المنزلية البسيطة التي سجلتها ريشة نورمان روكويل، الذي ظلت أعماله تنشر على غلاف مجلة ساتِرداي إيفننغ بوست لعدة عقود، مخالفة لها. وقد أصبح ينظر إلى روكويل على أنه كنز قومي محبوب لرسوماته المصورة للقيم الأميركية الصميمية؛ إذ كانت معظم لوحاته صورة موجزة مأمونة تكشف صفات الود والحماسة والاستقامة وحس الدعابة التي يتحلى بها الأميركيون من جميع شرائح المجتمع.
وقد أعطى أبدايك روكويل ما يستحقه من تقدير، مشيراً إلى زيتيته "حرية الكلام" (Freedom of Speech) (1943)، التي "رسمت بدون أي ضربات فرشاة ظاهرة، مما يشكل السمة الرسمية لأسلوب الرسم."وقد تم في هذه اللوحة، التي ينظر إليها وكأنها أيقونة مقدسة وفُهمت على أنها تحية إجلال وإكبار للديمقراطية أثناء ممارستها، "تم تركيز الانتباه من جميع الجهات" على الشخصية الرئيسية فيها، رجل يقف ليدلي برأيه في اجتماع لسكان بلدة أميركية.

وقال أبدايك إن روكويل "مثله في ذلك مثل كوبلي الذي جاء قبله،" قدم أعمالاً ذات قيمة جيدة لزبائنه، "وفي الدرجة الأولى (مجلة ساترداي إيفننغ) بوست والملايين الذين يشكلون قراءها، وكان يتجاوز دوماً ما هو ضروري من خلال حيوية كاريكاتورية إضافية أو، في أعماله الأخيرة، من خلال تفاصيل تمت ملاحظتها بمحبة."
وعاود أبدايك بعد ذلك التطرق للقرن الثامن عشر مشيداً بلوحة غيلبرت ستوارت القوية Lansdowne Portrait (1796) التي وقف جورج واشنطن، أول رئيس أميركي، أمام الفنان فرسمها من مشاهدته مباشرة (لا من رسم آخر). ويرتدي واشنطن في هذه اللوحة، بتواضع، الفراك (وهي سترة رجالية سوداء تبلغ الركبتين) والبنطلون القصير (لركوب الخيل) التي كانت ملابس الجنتلمان الذي يملك أراض في الريف، وإن كانت وقفته الدالة على العظمة لا تترك أدنى شك لدى المشاهد بأنه رجل يتمتع بمنزلة رفيعة مهمة بين أقرانه. وقال أبدايك إن لوحة لانسداون بورتريت، الصورة الفخمة بالحجم الطبيعي للرجل الذي كان أب وطنه، "بأسلوبها البليغ المبجّل تليق بملك."
وترتبط هذه الأعمال الفنية، مع الكثير من الأعمال الأخرى التي يتضمنها برنامج "تصور/تصوير أميركا،" بوعي عالم جديد أعرب عنه بوضوح عالم اللاهوت جوناثان إدواردز الذي عاش إبان الاستعمار البريطاني لأميركا، (1703-1758)، والذي استمد أبدايك عنوان محاضرته من كتاباته. وخلص أبدايك إلى أن إدواردز "بحث عن صلة مع ما هو سماوي في "وضوح الأشياء" الجميل. وقد وجد الفنان الأميركي، الذي ولد أولاً في قارة تخلو من المتاحف ومدارس الفنون، في الطبيعة أستاذه الأول، وفي "الأشياء" مادته الرئيسية."
وقال أبدايك إنه في مثل هذه البيئة، حيث كان على المستوطنين خلق مؤسساتهم أثناء تشييدهم لدولة من نقطة الصفر، كان هناك دوماً "انحياز للتجربة العملية واعتماد الملاحظة والاختبار، أثناء انكباب الفنان على رسم المعالم الظاهرة في عالم جديد يشعر وكأنه محاط بالفوضى والفراغ."(الترجمة خاصة بـ"موقع يحكي قصة أميركا")

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف