ثقافات

رواة طنجة: العياشي، اليعقوبي، المرابط وبولعيش

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالعزيز جدير من طنجة: "رواة طنجة"هم أحمد اليعقوبي (الفنان التشكيلي، صديق الزوجين بول وجين بولز)، العربي العياشي (وهو اسم مستعار لإدريس بن حامد الشرادي)، محمد المرابط (واسمه الحقيقي محمد الحجام، رفضه موظف الحالة المدنية واقترح بديلا. رسام وملاكم وتوأم البحر) ثم عبد السلام بولعيش، (فنان تشكيلي، سائق طاكسي وعازف على آلة العود).
ويمكن اعتبار إقدام بولز على ترجمة نصوص من سميناهم "برواة طنجة" خطوة جريئة وسابقة حميدة ضمن اهتمام مثقف بالثقافة الشعبية لبلد معين. فلقد عمد الرجل إلى ابتداع سنة سيتبعها آخرون عبر العالم، وذلك عندما يعطون الكلمة لفرد من أفراد الشعب ليحكي معيشه. مثال ذلك تسجيل أوسكار لويس لعمل سير ذاتي، لأسرة مكسيكية، بعنوان: " أبناء سانشيزEnfants de Sanchez. Paris, Gallimard, 1961."... وبهذا يكون بولز قد ابتدع ما يمكن تسميته بالأدب الشعبي التسجيلي. أدب لأن نصوصه تندرج ضمن أجناس أدبية محددة، ولأن وراءه راويا. وشعبي لأن هذا الراوي أمي ويعتمد اللغة العامية في صوغ متخيله الواقعي. وشعبي أيضا لأن هذه الأعمال تختلف عن الأخرى العالمة. ثم إن هذا الراوي لا يمتلك رصيدا ثقافيا ومعارف تخص الأدب ومكوناته وأجناسه تمكنه من تقديم السرد بطريقة (حكاية موضوعية) دون أخرى (حكاية ذاتية)، وكذا اختيار فضاء دون آخر، واختيار طريقة تأثيثه... أما تسجيلي فلأنه يمر عبر قناة أداة التسجيل قبل أن يصل إلى القارئ المفترض.
ومعلوم أن جين بولز حذرت زوجها من تعاطيه هذه اللعبة الخطرة. لعبة تسجيل هذه النصوص وترجمتها. فهي قد تستهلك زمنه دون أن تنتج عنها فائدة تذكر. كما أنها تعرضه إلى خطر المضاعفة... وقد اتهم الطاهر بن جلون بولز بأنه اختلق اسم محمد المرابط والشرادي وعمد إلى تنسيق حكايات وقصص باسمهما بينما رأى عبد الله العروي أن نصوص الشرادي والمرابط لا علاقة لها بالواقع المغربي بل هي وثيقة الصلة ب"استيهامات" بولز نفسه. فما الذي قاد "رواة طنجة" نحو شاطئ البوح، وما الذي دفع دور النشر تحويل هذه السرود إلى كتب يتداولها القراء؟ ومن هو القارئ المفترض لهذه النصوص وما الغايات الحقيقية لترجمة بولز لهذه النصوص؟


I. أهداف المتُرجَمين من ركوب صهوة الحكي
1 - العربي العياشي
لما علم العربي العياشي بالشرطين اللازمين لتأليف كتاب (لكل إنسان الحق في تأليف كتاب وليس ضروريا عرضه على سلطة الرقابة في أمريكا) أبلغ بول بولز رغبته في تأليف كتاب مما يوحي باقتناعه بقيمة قصته وبطريقة سردها، ذلك أنه سيمتح من صميم حياته ليبدع سيرة ذاتية اعتبرت، رغم ذلك، أول وأحسن رواية مغربية تسجيلية، بالرغم من تأكيد المترجم أن الكتاب ولد بطريقة مفاجئة.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعنون العربي العياشي عمله هذا بـ"عيشة مَدْلولَة" فقد كان يسعى إلى إماطة اللثام عن حياة ليست جديرة بالإنسان. حياة كلها آلام وعذابات: يجب أن يندد بها، ففي ذلك تنديد وتشهير بالمسئولين عنها.
لقد كانت حياة العربي، كما تعكسها سيرته الذاتية، فصلا من مأساة، تلاحقت فصولها وتتالت حتى بلغت أوجها؛ وهو منفاه الاختياري، أم الإجباري؟ إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتخليه عن أسرته. فولد مأساة من مأساة.
وإذا كان بولز يؤكد في مقدمته لسيرة العربي العياشي أن فكرة تأليف الكتاب قد نشأت بطريقة غير مباشرة ولا منتظرة. فالتعويض المادي، مقابل هذا العمل، كان حاضرا في حديث الرجلين -عن المشروع- وحاضرا في سريرتهما. يؤكد بول بولز في سيرته الذاتية "بدون توقف": "طلبت من العربي العياشي أن يسجل ذكرياته حول السجن، وعندما ترجم النص إلى الإنجليزية بعثت به إلى مجلة (Second Coming)، فتوصلنا، بشكل عاجل، بشيك مقابل ذلك. أعتقد أن العربي لم يصدق في الواقع أن أحدا يمكن أن يجازيه عن "عمل" كهذا، لكنه عندما حصل على المال رغب بقوة في مواصلة تسجيلاته" (ص، 350)..وهو الأمر الذي أكدته التعويضات الأولى التي جازت النص الأول (الفصل الثامن من السيرة وعنوانه" السلك") والطلب الملحاح من صاحب دار نشرGrove Press الذي التزم بواسطة عقد بنشر كتاب [hellip;] "ولما نشر الكتاب بيع بشكل جيد، بلغات عدة وعرف طريقه، في وقت وجيز، إلى طبعات الجيب في أمريكا والمملكة المتحدة، على حد سواء. وقد نتج عن كل ذلك أن كسب العربي ما يكفي من المال ليبحث عن عروس."
وإذا كانت حقوق التأليف قد حققت للعربي العياشي بعض الاستقرار المادي والاجتماعي والنفسي فهي قد حررته، أيضا -إلى جانب عمله ببيت بولز، من جهة، وببيت تنيسي وليامز، من جهة ثانية- من ممارسة تلك المهن الصغرى والمتعددة (ومنها السرقات الصغرى) بفضاء طنجة. ويتجلى الاستقرار النفسي في كون العياشي الذي كان يعتبر نفسه منبوذا ومحتقرا.. [في كتابه الثاني "العاشق الغيور"(1986) يسترجع العياشي تفاصيل مرحلة شبابه. وبذلك يعتبر "العاشق الغيور" جزءا ثانيا "للحياة المليئة بالثقوب". ويقدم هذا الجزء الحياة المضطربة ذاتها والمهن التي مارسها العياشي: التهريب، بيع السجائر بالسوق السوداء، وسحب شباك الصيد... ويحفل هذا النص بتيمة الإدانة: إدانة زوج الوالدة والمجتمع اللذين فرضا على العياشي الحرمان وأذاقاه الظلم والشعور بالدونية، إدانة ينقلها أسلوب بريء خال من كل نزعة خطابية أو تقريرية.. وحري بالتذكير أن العياشي لما التقاه بولز، كان يحرس مقهى مهجورا ولا يتصل بأحد].. سيثأر لنفسه من هذا المجتمع برمته حين تحول "مؤلفا" تزين صورته طبعات سيرته الذاتية، بلغات مختلفة، وتنتدب جرائد ومجلات ودور نشر أجنبية مبعوثيها الخاصين لمحاورة صاحب السيرة الذاتية. وقد اتخذ هذا التوازن النفسي عند العياشي صيغة أخرى بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعيش هناك. فقد ظل يبعث من هناك رسائل إلى بولز يطلب فيها منه، بصيغ مختلفة أن يبعث إليه بقصص يكون قد تركها العياشي مسجلة على شريط خلال إقامته بطنجة. ولعل في الأمر ما يؤكد اقتناع العياشي بممارسته السردية التي منحته سلطة معنوية لا غبار عليها.
وهكذا يبقى التعويض المادي أهم الحوافز التي دفعت العربي العياشي نحو ممارسة البوح السردي. وقد ارتبط هذا التعويض بتحقيق الاستقرار المادي والاجتماعي (زواج العربي وتوفره على أول مسكن خاص به) كما ضمن للعياشي بعض التوازن النفسي. وتعتبر الإدانة وفضح ما يحدث في "الداخل" من حوافز العياشي على البوح السردي أيضا. لكن هل كانت كل هذه الحوافز كافية لولا توفير بول بولز مادة هذا البوح وأدواته؟
فالمعاناة تحولت إلى قدر، والشعور بالدونية حول العياشي إلى كائن يعيش تحت درجة الإنسان. وقساوة محيطه عليه جعلته يفقد الأمل بالعدالة وبإمكانية تحسين وضعه. كل ذلك دفع به إلى تحميل المسؤولية إلى المسلم:
"حين نشتغل في بيت يوجد به مسلمون غيرنا، فلن ننعم بالسلام" وقوله: "إذا رأيت مسلما محظوظا، فاعلم أنه لا يوجد مسلم آخر معه." ("حياة مليئة بالثقوب").
وإذا كان تحميل العياشي مسئولية ظروفه إلى المسلم وليد تجربة معيشه اليومي، فإن المبرر ذاته دفعه نحو الهيام بالآخر، وخاصة اليهودي كما تعكس ذلك مقاطع من سيرته الذاتية. ولعل في الأسباب المشار إليها أعلاه ما يبرز مبررات هيمنة موضوع الإدانة وقوتها على امتداد صفحات السيرة الذاتية، وإلى ذلك يشير بول بولز ذاته بقوله: "إن العنصر الهزلي يظل غائبا في عمل العربي العياشي؛ فهو لا يسمح لنفسه إلا أحيانا بمسحة من دعابة ساخرة تلعب دور تعليق، أو توضيح لفكرته الرئيسية والتي تتلخص في الظلم والمعاناة اللذين تعبر عنهما [hellip;] من البداية حتى النهاية يظل العربي وفيا لغرضه الأصلي المعلن: " أن يحكي لمن يعيش في" الخارج" طبيعة حياة من يعيش محبوسا بالداخل".


2- أحمد اليعقوبي
يرجع الفضل لأحمد اليعقوبي في إثارة انتباه بولز إلى غنى التراث الشفاهي المغربي. فقد شرع يروي لبولز حكايات من هذا التراث منذ نهاية الأربعينات. ولكنه "كان يطبع هذه الحكايات بطابعه الشخصي، فيشحنها بالسخرية، واللامعنى، والخيال الجامح" كما يلاحظ بولز.
وفي تراث أحمد اليعقوبي خمس قصص. ويعود الأمر إلى انشغاله الكلي بممارسته التشكيلية أساسا، والموسيقية كعنصر مكمل لهذه الممارسة. فقد كان يستعين على ممارسته التشكيلية بالعزف على الناي "حتى أبعث الروح في اللوحة، وأحييها"، كما كان يلح التأكيد على ذلك. وبذلك كانت الممارسة السردية لأحمد اليعقوبي ممارسة ثانوية. فهو قد ركب صهوة الحكي لأسباب منها:
- تلبية رغبة بولز القوية في الاستماع إلى حكايات من التراث الشفاهي المغربي لتعميق معرفته بهذا التراث ولإخصاب كتاباته بمواضيعه؛
- اعتبار الحكي فترة استراحة لازمة، يتناسى خلالها ممارسته التشكيلية ليعود إليها وهو أكثر طراوة وأكثر استعدادا من ذي قبل؛
- استلهامه أحيانا لبعض صور شخوص قصص هذا التراث، تكون قد شدت انتباهه إليها، من ذلك لوحته المعنونة "الرجل النائم".
وبذلك يتضح أن عناية اليعقوبي بالحكي كانت عناية ثانوية -ومكملة لأخرى أساسية- ولم يكن التعويض المادي مطلبا رئيسيا وحافزا موضوعيا لأن اليعقوبي كان رفيق بول بولز.


3-.محمد المرابط
"كان المرابط لا يتعب من رواية الحكايات"، يقول بولز في رسالة إلى الشاعر والناقد إفانس أوليفر مؤرخة بـ(5 يوليوز 1969). يعتبر،المبدع والراوية الشعبي، محمد المرابط الأغزر إنتاجا، والأخصب والأعمق تيمات وقضايا بين "رواة طنجة" الذين تعاملوا مع بول بولز. وللمرابط اثنا عشر عملا منشورا تتوزعه مجمل الأجناس الأدبية المعروفة: الرواية (ثمانية أعمال منها اثنان يصنفان ضمن الرواية المستلهمة مباشرة للتراث الشعبي) والقصة القصيرة (ثلاث مجاميع) والسيرة الأدبية (عملان: واحدة ذاتية والأخرى موضوعية) والمسرح (عمل واحد). وهي أعمال ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة وأكسبت المرابط صداقات كتاب عالميين (تنيسي وليامز، ترومان كابوتي، وليام بورووز، براين غيسن، إليا كازان، أيرا كوهن، هنري ميللر...) أشادوا كلهم بسمو أدبه وعبقريته، في رسائل وجهت إليه بعد قراءة أحد أعماله، أو كتبت في شكل شهادة. إن الممارسة الأدبية لمحمد المرابط غنية وخصبة، فما هي غايات ركوب هذا المبدع والراوية الشعبي صهوة الحكي؟
من عادة بولز أن يطلب من أصدقائه المغاربة، منهم من لهم ولع بالموسيقى أو الرسم أو غيرهما، يطلب منهم أن يحكوا له بعض القصص الشعبية أو الخرافية أو الواقعية. وكان يغري أي راوية جديد بأن يقدم صورة سلفه على صفحة مجلة أو كتاب جماعي من جهة، ثم يعده بهجرة نصه إلى اللغة الإنجليزية كصنوه عن طريق الترجمة من جهة ثانية. وكانت قمة الإغراء تتجلى في إخبار بولز الراوية الجديد بالمقابل المادي لممارسته السردية. وقد تراوح هذا المقابل المادي لكل قصة أو حكاية بين المائة دولار والخمسمائة دولار (إبان الستينيات والسبعينيات). وإذا كان المرابط "لا يتعب من رواية الحكايات" كما يؤكد ذلك بول بولز. وإذا كان محمد المرابط قادرا على الاستمرار في حكي القصص سنة كاملة دون انقطاع، كما يؤكد هو نفسه، فإن بولز قد وفر لهذا الاستعداد ولهذه الممارسة السردية الثرة سندها الموضوعي والمادي. وذلك عندما مكن بولز المرابط من تحويل هذه الممارسة إلى مهنة يمارسها ويتقاضى عنها مقابلا. فإذا كانت سلطة شهرزاد السردية قد دفعت عنها غائلة الموت ومنحتها الأمل في الحياة، فإن سلطة المرابط السردية قد دفعت عنه غائلة الفقر ومنحته نعمة الاستقرار المادي والمعنوي، وكذا هجرة نصوصه إلى لغات العالم كما هاجرت نصوص شهرزاد.
ويؤكد محمد المرابط في معرض حديثه عن الغايات التي من أجلها ركب صهوة الحكي: "السبب الرئيسي هو المال. فأنا لم يكن لي عمل معروف أو قار. لما كنت أعزب، كنت أحرص على تحقيق التوازن الضروري بين عدد الأعمال التي أنجزها يوميا أو أسبوعيا (ومنها: صيد السمك، تطهير البالوعات، قطع الأشجار وتقليمها.. ) وحاجياتي ومصاريفي الشخصية ومصاريف أهلي. ثم جاء الحب الدائم وتزوجت وانفتح ثغر آخر... انضاف إلى المصاريف المعروفة يومها والمشار إليها واجبات الكراء والماء والكهرباء والطعام. وكان علي أن أؤثث المنزل فقد كان حافيا. كنت أعيش وضعا شبيها بوضع الكلب [...] ولما لاحظت أن كل خرافة أو قصة تكسبني مئات الدراهم، وأحيانا الآلاف شرعت أجتهد لأروي عددا كبيرا من الخرافات كل ليلة. وأذكر أني حكيت ذات ليلة قرابة عشرين خرافة [...] فكان لا بد أن أتمسك بهذه الحرفة، أنا من لا حرفة له، لأنها تمثل مخرجا من عنق الزجاجة. وأحمد الله وأشكره على نعمه. فقد أكلت وشربت من هذه الحرفة." (محمد المرابط، من حوار خاص: 1994)
يؤكد لنا هذا الشاهد أن الكسب المادي هو المبرر الرئيس لركوب محمد المرابط صهوة الحكي. فهو يعتبر هذا الركوب بمثابة الحرفة ونظير الوظيفة. وهكذا رأيناه يحرص حرص الطفل على أدوات عمله (آلة التسجيل والشرائط والميكرو)، يلازمها ويحملها معه إلى الأماكن التي يرتادها بمفرده بحثا عن العزلة، مترصدا قصة أو حدثا يفتح الباب على قصة... فهو صياد أصلا. صياد سمك. اكتسب الدربة على الغوص، وفضيلة الانتظار، ونعمة الصبر، والقدرة على التأمل... يذكر بولز، أنه زار ذات مرة المرابط، في بيته، فوجده يمسك بالميكروفون ويملي قصة على آلة التسجيل، بينما ظل محتفظا بلوحة فوق ركبتيه. كان رسم نصف مساحتها. "قلت له: "تابع عملك ولا تشغل بالك بوجودي." تماما كما يفعل هو عندما يدخل بيتي فيجدني جالسا إلى مكتبي، أو في فراشي أكتب. ولكني أيضا كنت نهبا للفضول، فقد كان المرابط شرع يرسم منذ ثلاث أو أربع سنوات، وكنت حريصا على معرفة كيف يزاوج بين حكي القصص والرسم. فهو كان يحدثني عن ذلك، وليس من رأى كمن سمع، كما يقال. ظل يحكي قصة من قصصه، لم أعد أذكر عنوانها الآن، مدة قرابة ربع الساعة بكل الطقوس التي تعرفها عن المرابط [ضاحكا]، وكان بين الفينة والأخرى يلقي نظرة على اللوحة القابعة فوق ركبتيه. ثم أوقف آلة التسجيل، ووضع الميكرو جانبا. التفت نحوي قائلا: "Un momento" وتناول الريشة وشرع يرسم باللون الأسود أشكالا على النصف الأبيض من اللوحة. في الغالب، يرسم المرابط أشكال لوحاته باللون الأسود ثم يعود للألوان فيما بعد... ظل يرسم، وبين الفينة والأخرى يلتفت نحوي ويحرك رأسه، من الأعلى إلى الأسفل، كأنما يستمهلني."(ح ش: 1983).
وإذا كان الكسب المادي، الملازم للكسب المعنوي، هو الذي أعطانا كاتبا اسمه محمد المرابط، وهو الذي جعل المرابط يركب صهوة الحكي، فهو أيضا مكنه من مصدر قار للعيش، وضمن له كذلك استقرارا نفسيا ووجوديا ومكنه من أن يبني بيتا، ويملك بعض رؤوس الأغنام، ويعنى بتربية الدجاج والأرانب... وهي ممارسة حرم منها لما اقتضت إرادة جد والده اقتلاع جذور الأسرة من الريف وزرعها بطريقة قسرية في أحراش طنجة.
وإذا كان من بواعث ممارسة العربي العياشي السردية الإدانة أولا (والكسب المادي ثانيا)، فإن هذا الباعث الأول لا يشكل هاجس المرابط على مستوى الوعي النظري، على الأقل. فهو يصرح: "في الحقيقة، ليس هناك موضوع أو شيء معين يمكن إثارة انتباه الناس إليه. فالناس ليسوا في حاجة إلى نصائح من أحد. فالأطفال أنفسهم يميزون بين الحلال والحرام. وعندما يبلغ الإنسان يصبح أكثر تمييزا ومعرفة لما هو حسن ولما هو قبيح. فسنوات التربية والتعلم في حضن الوالدين كفيلة بتحفيظ أي كان الخطأ والصواب، الحق والظلم، الحسن والقبح. انظر ألا ترى الحيوانات ذاتها تميز بين الحلال والحرام؟ فالقط إذا أعطيته قطعة لحم أكلها أمامك، وإذا ما أخذها، بغير خاطرك أو معرفتك، اختلى بنفسه وأكلها بعيدا عن عينيكhellip; "(ح خ: 1993). لكن على مستوى الوعي الفني، تقدم نصوص المرابط أشكالا متعددة للصراع المتعدد الأوجه، والإدانة الصارخة في غير تكلف..
ولعل هذا البون بين الوعي النظري للمبدع والراوية الشعبي والوعي بالواقع في أعماله الإبداعية هو ما دفع بول بولز إلى القول: "ليس لمحمد المرابط أطروحة للدفاع عنها، ولا مظالم لعرضها، ولا يخشى من وفرة الترقيم. إنه صاحب عرض مسرحي (فرجة)، لأن عنايته الأساسية تنصب على إنجازه الشخصي كقصاص فنان".
وإذا كانت سلطة محمد المرابط قد منحته تحقيق ذاته ماديا واجتماعيا ونفسيا، فهي أيضا قد ردت له الاعتبار -من زاوية نفسية- إذ منحته فرصة الثأر من ظروف ومجتمع حرماه نعمة التعلم. فالمرابط "الأمي" استطاع بواسطة موهبته أن يتفوق على المتعلم العادي، وغير العادي، ويصبح ندا لأي كاتب مبدع بالفعل، بل وينتصر عليه من حيث عدد الكتب، وعدد المبيعات، وتنوع القراء، وخصوبة المضمون ورونق الشكل وكذا الصدى العالمي وعدد اللغات المترجم إليها: "أمي؟ تلك فضيلة أحمد الله عليها. وأحمد الله على أني لست متعلما (بمعنى دخلت المدرسة وتبلدت كالجميع وفق برامج تنخر الذهن والخيال ومنحت شهادة تثبت ذلك فقط؟) وإلا كنت قضيت العمر كله عاطلا... أمي، ولكن معروف في العالم كمغربي، ومقروء بكل اللغات، تقريبا، باستثناء اللغة العربية؟" (ح خ: 1993).
وهكذا يعتبر الكسب المادي أهم غايات ركوب محمد المرابط صهوة الحكي، وقد مكنه هذا الركوب من تحقيق شرط وجوده الإنساني، فانتقل من الحاجة إلى الغنى ومن المحلية إلى العالمية ومن النكرة إلى العلم. إن هذا التحول ترويه نصوص المرابط من خلال مواضيعها وصياغتها ومدة إنجازها مما يعكس تشبثه القوي بهذه الممارسة وإخلاصه في أدائها.


4 - عبد السلام بولعيش
" نعم، أرغب وأفضل كثيرا لو تسلمي باليد إلى بولعيش مبلغا نقديا إلى أن أعود إلى هنا [...]
ومهما يكن، فإنه لا يمكن أن ينال أكثر من ألف فرنك يوميا." من رسالة لبولز إلى زوجته من نيويورك بتاريخ:1969)
في رصيد عبد السلام بولعيش الأدبي ثلاث حكايات ("جبن، بلاهة وشره") وقصة طويلة نسبيا "عمر، سائق الشاحنة". وتعود محدودية هذه الممارسة السردية إلى تعدد اهتمامات بولعيش. فهو فنان تشكيلي متميز (عرض لوحاته في أماكن عدة منها المغرب وإنجلترا... ) وهو عازف ماهر على آلة العود، وهو سائق طاكسي أيضا.
تعرف بولز إلى بولعيش، ذات زوال، لما نقل بولعيش بولز، وبعض أصدقائه من الكتاب، إلى بيته. وهناك، شرب كأسا مع الجماعة، دعاه إليها الكاتب الأمريكي جون گودوين. وفي تلك الأثناء "طلبنا منه أن يحكي لنا قصة أو خرافة [...] لكن ما حكاه لم يتجاوز ثلاث حكايات وقصة..." يحكي بولز. (ح خ: 1995)
وواضح أن عبد السلام بولعيش لم يركب صهوة الحكي بدافع رغبة دفينة ومتأصلة فيه كما هو الأمر بالنسبة لمحمد المرابط، بل ولج "عالم الحكي لتلبية رغبة بول وهواه. ولا بأس من حكي قصة ما دام ذلك يرضي بول."
ولعل الدافع الثاني وراء ركوب بولعيش صهوة الحكي هو المقابل المادي الذي يحصل عليه. وهو مقابل غير منتظر ولا متوقع، ولو أن بولز يعلن عنه عندما يطلب من رواته، في بداية الأمر، ولوج هذا العالم - وهو إعلان يمكن أن يقرأ كإغراء من لدن بولز. "في الحقيقة، كان ذلك القدر من المال يتم الحصول عليه بدون تعب يذكر. كنت أزور بول بولز، وأحكي له قصة. وكنت أحصل على مقابل مباشرة، وعندما تنشر القصة كنت أحصل على قدر مهم. ويتراوح المقابل بين مائة ومائتي دولار، وكنت أحصل عليه في الغالب بالتقسيط."


II. أهـداف الناشرين
يعتبر الكتاب سلعة خاصة قادرة على نشر المتعة. وتعتبر تلك الخصيصة هي الحافز وراء عناية المتلقي باقتناء ذلك المنتوج. ولا يجادل أحد في اعتبار النشر تجارة تقدم تلك السلعة الخاصة. وبالطبع، فهذه التجارة تحكمها مقاييس ومبادئ يعتمدها الناشر، ليحدد قبول أو عدم قبول نشر عمل معين وليضمن لتجارته النجاح. فما هي دور النشر التي أقدمت على نشر أعمال "رواة طنجة"؟ وذلك بالرغم من كون أصحابها كانوا لحظة نشرها مغمورين، وبالرغم من كونهم ينتمون إلى عالم غير غربي؟ وما هي أهداف الناشرين من وراء نشر هذه النصوص؟
لقد تم نشر أعمال "رواة طنجة" من لدن أربع دور نشر أمريكية ومن لدن دار خامسة إنجليزية. وذلك قبل أن تتلقفها دور نشر أخرى، من مختلف بقاع العالم، لتعيد نشرها أو لتقدمها إلى قرائها بلغات مختلفة. وهذه الدور متوسطة أو صغيرة، تختلف مقاييسها المعتمدة في اختيار الأعمال لنشرها عن مقاييس الدور الكبرى. هذا وتشترك دور النشر التي أقدمت على نشر أعمال "رواة طنجة" في بعض المبادئ العامة بينما تختلف في أخرى خاصة بكل دار.
بالنسبة للدور الأمريكية الأربع، تتلخص بعض أهدافها من وراء نشر تلك الأعمال فيما يأتي:
1. محاولة تقديم تجربة أدبية خاصة وفريدة من نوعها.
2. الحرص على تقديم وجه آخر للمغرب، لأدبه، ولمعيشه. وجه أصيل وهو أيضا الوجه الحقيقي، لأنه وجه الشعب.
3. أهمية هذه النصوص تكمن في شفاهيتها. وشفاهيتها عنوان صدقها، وضمانة لعدم تعرضها لأية رقابة. ورواة هذه النصوص لا يعانون من أية رقابة مقيمة في الضمائر أو الأذهان، كما يعاني منها المثقفون عامة، وفي بلدان كالمغرب خاصة. وأعتقد، أن أهمية هذه الشفاهية تكمن في كون المغرب بلدا ذا تقليد شفاهي.
4. تيمات هذه النصوص آسرة. فهي تيمات تثيرنا كقراء أجانب، وتنشط مخيلتنا وعواطفنا التي أصابها الكلس، كما يحلو لبول بولز أن يقول عن الأمريكيين."(لورنس فيرلانغيتي، سيتي لايتس بوكس، ح ش: 1994).
ويمكن اعتبار هذه العناصر التي أشار إليها فيرلانغيتي قاسما مشتركا بين داره ودور النشر الأمريكية الأخرى التي نشرت نصوص "رواة طنجة". بينما تعتبر هذه العناصر هي ما يميز دار سيتي لايتس بوكس عن الدار الإنجليزية: بيتر أوين. ويلاحظ أن العناصر التي تتحكم في إقدام فيرلانغيتي على نشر أعمال "رواة طنجة" تتلخص في أهمية هذه الأعمال وخصوصيتها. ويلخص گاري بولسوفير أهداف دار بيتر أوين من وراء نشرها لأعمال هؤلاء الرواة كما يلي:
1. النجاح الكبير الذي حققته سيرة العربي العياشي ماديا ومعنويا، والرغبة في تحقيق ذات النجاح مع نصوص جديدة ومماثلة ومع كتاب آخرين.
2. الرغبة في وضع اليد على تجارب أخرى حياتية وقصصية متميزة تخلد بها الدار ذكرها وتغني بها قائمة منشوراتها وتضمن بواسطتها مبيعات مهمة.
3. اندراج هاتين الرغبتين ضمن فلسفة الدار في نشر كتب لها صدى أدبي أو فكري، أو نشر كتب مغايرة. "(گاري بولسوفير/بيتر أوين، ح خ: 1994).
وتكاد دوافع دور النشر التي نشرت نصوص "رواة طنجة" أن تكون واحدة. ومن هذه الدوافع "اعتبار بول بولز وراء هذه الأعمال ومكتشف أصحابها، ومن ثم حرصنا على طبع اسمه بحروف مضغوطة، فالاسم ضمانة رواج هذه النصوص لشهرة صاحبه أولا، ولذوقه الأدبي الرفيع ثانيا...
إن ذكر اسم بولز على صدر الغلاف يجد مبرره في كونه مسجل تلك النصوص ومترجمها وناشرها أحيانا... ولولاه لما عرفت ولا نشرت ولا قرئت" (بولسوفير وفيرلانغيتي، ح خ: 1994).
وهكذا، فقد تتعدد أهداف دور النشر التي أقدمت على نشر نصوص "رواة طنجة" ولكن يمكن إرجاعها إلى أهداف محددة منها: المراهنة على نص مغاير، والاحتفاء بالتجارب الخاصة، وبالنصوص الشعبية، والرغبة في منافسة الدور الكبيرة عن طريق تقديم نصوص جديدة وفريدة من نوعها.


III. قراء متن "رواة طنجة" المفترضون
من البدهي التأكيد أن النص الأدبي لا يمكن أن يكون له معنى ولا وجودا إلا عندما يقرأ. وكل قراءة هي تفاعل بين بنية نصية وقارئ. وقد أحصى فولفغانغ أيزر الأنماط المختلفة للقراء سواء كانوا قراء حقيقيين أو افتراضيين. ويرى أيزر أن القارئ" الافتراضي هو الذي يمكن أن تسقط عليه كل تحيينات النص الممكنة."
ولعل القارئ الأمريكي هو القارئ المفترض الأساس الذي توجه إليه نصوص "رواة طنجة". فقد سبق لأغلب قصص الرواة القصيرة أن نشرت على صفحات مجلات أمريكية (منها على سبيل الذكر: أنتيوس، رولينغ ستونز، أنتولوجيا زيرو، زيرو) وهكذا تكون هذه المجلات قد أسهمت في إيجاد قراء مفترضين وفعليين وتوسيع صفوفهم والتجاوب مع أفق انتظارهم. "بالنسبة إلي، يعتبر قارئ نصوص هؤلاء الرواة قارئا أمريكيا بالدرجة الأولى. إنه القارئ الذي يقبل على كتبي، والذي تهمه هذه الكتب، وتهمه مواضيعها. بالطبع، لا يتعلق الأمر بالجمهور الواسع. إنه الجمهور نفسه الذي يقرأ كتبي ويقبل عليها. ولذلك يطبعها ناشري نفسه، أو من نشروا كتبي فيما بعد..." (بولز، ح خ: 1995).
وتشكل الطقوس المحايثة لجمع نصوص الرواة تأكيدا على هوية القارئ المفترض لنصوص هؤلاء الرواة. فترجمة هذه النصوص إلى اللغة الأمريكية تحدد جنسية قارئها، المفترض والمقصود، علاوة على توجيهها إلى ناشر بعينه، وإلى مجلة بعينها...
وإذا كان القارئ الأمريكي خاصة، والأنجلوساكسوني والغربي عامة هو قارئ نصوص الرواة المفترض، أمكن التساؤل عن الغايات الحقيقية لترجمة بولز نصوص "رواة طنجة"؟

IV. الغايات الحقيقية لترجمة بولز لنصوص"رواة طنجة"
إن هذه الأعمال تقدم صورة حية عن المغرب بأفواه أصحابها. فهم من قد يتحمل تبعات بعض ما في أعمالهم من نقد أو تجريح؛ خاصة الأعمال التي تتخذ شكل السيرة الذاتية، أو التي تمس قضايا حساسة بالنسبة للسلطات المغربية. وهكذا فلا مسؤولية لبولز في هذه الأعمال إلا ما كان من ترجمتها. ذلك أن المترجم كثير الحيطة والحذر فيما قد يسيء إلى المغرب وسلطاته. نقرأ من رسالة بعثها بولز إلى لورنس فيرلانغيتي، مدير النشر بدار كتب (سيتي لايتس، سان فرانسيسكو)، نقرأ بشأن اختيار عنوان لأربع قصص قصيرة تنتظمها موضوعة الكيف وتصدر في مجموعة خاصة، نقرأ قلق الكاتب من أن تتم الإشارة إلى المغرب في العنوان: "فما أرغب في أن أكون واثقا منه هو أن يحتفظ بعبارة المغرب بعيدا عن أي دعاية مغالى فيها فيما يتصل بالقصص. إن السلطات، هنا، شديدة الحساسية بشأن مسألة الكيف[...] وأرغب، بالطبع، في أن أتجنب أية مشاكل من هذا الصنف." ولما التمس فيرلانغيتي من بولز اقتراح عنوان للمجموعة القصصية جاء في رده: "هل ترغب في مائة جمل في الفناء؟ ويمكن أن تتضمن صفحة العنوان الداخلية الاستشهاد بأكمله: "سبسي من الكيف قبل الفطور يمنح الإنسان قوة مائة جمل في الفناء" مثل مغربي.
لقد جاء بولز إلى المغرب في مرحلة متقدمة جدا. كان، خلالها، المغرب ما يزال يحتفظ ببنياته التقليدية، كما كان الاستعمار في بداية عهده وما زال عاجزا عن أن يتسرب إلى أعماق البلاد. وقد ظل المغرب تحت مجهر بولز لعقود، فلما بدأت بوادر التحول تظهر على المغرب تحت ضغط الحضور الاستعماري، شرع بولز يسجل كل ما هو مغربي أصيل وما هو قابل للتحول، أو معرض للتغيير، أو مهدد بالاختفاء من عادات وظواهر وملامح، وهو ما تحبل به أغلب أعمال "رواة طنجة". ويؤكد هذا الرأي سعي بولز إلى التأريخ إبداعيا لمدينة فاس وهي على شفير التحول، كنموذج للمغرب التقليدي تاريخا وعمارة وقيما، من خلال روايته "بيت العنكبوت"، وغيرها من الأعمال الأخرى.
ويرغب بولز في إسناد المغاربة وظيفة التأريخ لهذا المغرب الأصيل التقليدي. وذلك لتقديم صورة عن بلدهم. صورة تحتفل بالخيالي والعجائبي والتقليدي. وكل ما يمكن أن يفوت ملاحظة بولز على اعتبار العلاقة الحميمة التي تربط هؤلاء الرواة بمجتمعهم. بينما اهتم بولز، في الغالب، بفترة التحول. فترة "الأشياء التي اختفت والأشياء الباقية هنا"، كما عني بقضايا تبدو معاصرة له. ومن ثم هذا التكامل بين عمل بولز وعمل رواته. وهو تكامل جمع بين الأصالة والمعاصرة، مع إطلالة كل طرف على حقل الآخر.
ويستخلص من هذا التكامل أن ما يقدمه أدب بولز يشكل صورة المغرب من منظور "ملاحظ خارجي" يلاحظ ما لا يمكن أن يلاحظه ابن البلد، باعتباره مندمجا اندماجا كليا؛ وبذلك يدرج عدة ملامح وظواهر، وخصائص ضمن العادي والمألوف والمتعود عليه فلا يلامسها -لأنها لا تلفت انتباهه- بينما تقدم نصوص "رواة طنجة" مادتها من خلال عيون "ملاحظ داخلي" يعايش مجتمعه بحميمية، يغضب لنواقصه وينتشي لإيجابياته.
وتدخل ترجمة هذه النصوص أيضا ضمن اهتمام بولز بالتراث الشعبي عامة، وتراث المغرب خاصة، لغناه وخصوبته وأصالته من جهة، ولأسباب أخرى من جهة ثانية منها:
أ. انتماؤه إلى بلد حديث [أمريكا] لم يبدع خلال تاريخه القصير أي تراث شعبي؛
ب. الإمكانية التي يمنحها هذا التراث للانفلات من شرنقة العقلي والمنطقي؛ فالحاجة إلى اللاعقلي واللامنطقي والروحي حاجة نفسية وروحية وضرورة حياتية لتحقيق التوازن النفسي للإنسان المعاصر. ألم يدع جل مفكري الغرب إلى ضرورة تحطيم العقل، وتطليق المعنى، والتخلص من هيمنة العقل -الذي يلقي بالإنسان، بالرغم من ذلك، في غياهب الظلمات واللامنطق- وذلك منذ نيتشه؟؛
ج. ملاحظة بولز، كلما حل بإحدى الدول ذات التاريخ العريق كالمغرب، والمكسيك، والتايلاندhellip; أن التراث الشعبي بمختلف أشكاله عرضة للضياع والإتلاف بمعاول "الحداثة" بكل أشيائها (تقليد الآخر، والخضوع لأثره، واستهلاك إنتاجه، ومن ثم إهمال كل ما هو تراث شعبي وضياعه أو مزجه بعناصر دخيلةhellip;)؛
د. وعيه بأن بلدا ما يعيش مرحلة التحول لا بد أن يذعن كليا للتغيير الجارف. وهكذا، فهناك ملامح وعناصر معرضة للاندثار والزوال وأخرى قابلة للاستمرار. ولما فاتت بولز الملامح والعناصر الأولى -و قد حاول تسجيل بعض مكوناتها- سعى إلى الاحتفاظ بالثانية. ويدل على هذا السعي عنوان قصته " أشياء مضت وأخرى باقية هنا"، وهو عنوان دال ومؤشر على ما نذهب إليه؛
هـ. السعي إلى تقديم صورة عن المغرب من خلال عيون/رؤى بعض أبنائه، وهي صورة تشمل عناصر معرفية مهمة عن حياة المغربي الاجتماعية والروحية، تفيد كل من لا يعرف المغرب -سواء انتمى إلى أمريكا أو بريطانيا أو الغرب عامة- ويبدو أنه لولا هذه الرغبة لما تجشم المترجم مشقة العمل على تسجيلها ثم ترجمتها ونشرها. ولعل عنوان المجموعة القصصية التي جمعت نصوص هؤلاء الرواة، وقد أضيف إليهم شكري "خمس نظرات"، يلمح إلى ذلك. هذا دون أن نغفل الجانب الغرائبي والعجائبي لهذه النصوص، وهو أمر تؤكده الترجمات المتعددة إلى لغات أوربية عامة وآسيوية خاصة؛
وقيام قسم كبير من شهرة بولز وصيته على ترجمته لنصوص "رواة طنجة"، وإنشائه لمدرسة فعلية، أو حلقة قائمة بذاتها، من هؤلاء الرواة. وهي نصوص، يحتفي قسم منها بالكيف، ومن ثم ذلك الإقبال اللافت للنظر عليها. وهو أمر تؤكده أيضا ترجمة مؤلفات "رواة طنجة" وعدد طبعاتها في كل لغة ترجمت إليها.
وبعد كل هذا يمكن لنا أن نؤكد (من خلال الغايات المعلنة وغير المعلنة) أن بولز بنشره لنصوص "رواة طنجة" قد سعى إلى إعطاء صورة تكمل الصورة التي سعى إلى إعطائها هو، عبر مؤلفاته الخاصة، عن المغرب. فكلا الطرفين استطاع أن يبدع جزءا من الصورة العامة التي لا يمكن أن تكتمل إذا لم يضف إليها الجزء الآخر المكمل لها. وبذلك تحقق الصورة، وقد اكتملت، عمقها وقوتها ونصاعتها عن طريق تواتر الموضوعات وتقاطعها ورصدها من زوايا وأبعاد متناظرة تارة، ومتجاورة ثانية، ومتكاملة ثالثة.

Azioued1@maktoob.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
طاكسي الغرام
ن ف -

على هامش الموضوع. وردت في مادة الكاتب كلمة ((طاكسي)) وأظنُّ أن الكاتب يقصد بها ((سيارة اجرة)). وإذا كان كتابة كلمة واحدة أسهل وأسرع من كتابة كلمتين فالأجدر به أن يكتب ((تاكسي)) بدلاً من ((طاكسي)) لا سيما وإن حرف التاء موجود في أبجديتنا الكريمة. أود أن ااكد للكاتب لو أني كنت سائقاً لسيارة اجرة ونادى عليَّ أحدهم وأنا أمرُّ بالقرب منه: طاكسي.. طاكسي.. فلن أقف ولن ارحّب بهذا الزبون أبداً! أحمد الله أن اسم السيد كوفي ((أنان)) لا يرد في الصحافة العربية هذه الأيام. فرغم الحضور المكثّف للهمزة في لغتنا فإن الصحافة العربية كانت تصرُّ على كتابة اسمه على هذه الشاكلة: كوفي ((عنان)). واللفظ الأخير يوحي لي أن الرجل من قبيلة شمَّر العربية.

طاكسي الغرام
ن ف -

على هامش الموضوع. وردت في مادة الكاتب كلمة ((طاكسي)) وأظنُّ أن الكاتب يقصد بها ((سيارة اجرة)). وإذا كان كتابة كلمة واحدة أسهل وأسرع من كتابة كلمتين فالأجدر به أن يكتب ((تاكسي)) بدلاً من ((طاكسي)) لا سيما وإن حرف التاء موجود في أبجديتنا الكريمة. أود أن ااكد للكاتب لو أني كنت سائقاً لسيارة اجرة ونادى عليَّ أحدهم وأنا أمرُّ بالقرب منه: طاكسي.. طاكسي.. فلن أقف ولن ارحّب بهذا الزبون أبداً! أحمد الله أن اسم السيد كوفي ((أنان)) لا يرد في الصحافة العربية هذه الأيام. فرغم الحضور المكثّف للهمزة في لغتنا فإن الصحافة العربية كانت تصرُّ على كتابة اسمه على هذه الشاكلة: كوفي ((عنان)). واللفظ الأخير يوحي لي أن الرجل من قبيلة شمَّر العربية.

طنجة الساحرة
صباح -

الأستاد جدير اقرب المبدعين لطنجة في الظرفية الحالية ينظر إلى المدينة من مختلف الزوايا الإبداعية قلة في الكلام وعمق في التفكير وإخلاص كبير في نقل الأفكار

طنجة الساحرة
صباح -

الأستاد جدير اقرب المبدعين لطنجة في الظرفية الحالية ينظر إلى المدينة من مختلف الزوايا الإبداعية قلة في الكلام وعمق في التفكير وإخلاص كبير في نقل الأفكار

والكاتبات الطنجيات؟
نادية -

بالفعل هو يقدم المدينة من محتلف الزوايا، لكن ألا تقف المرأة الكاتبة في أي زاوية؟ ألم يكن حضور للكاتبات الأجنبيات وربما العربيات حضور في هذه المدينة الساحرة؟ فالمساواة أساس العدل أم الرجولة؟

والكاتبات الطنجيات؟
نادية -

بالفعل هو يقدم المدينة من محتلف الزوايا، لكن ألا تقف المرأة الكاتبة في أي زاوية؟ ألم يكن حضور للكاتبات الأجنبيات وربما العربيات حضور في هذه المدينة الساحرة؟ فالمساواة أساس العدل أم الرجولة؟