ثقافات

كاندنسكي: عشرون قصيدة نثر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ترجمها عن الألمانية صالح كاظم

مقدمة بقلم عبد القادر الجنابي: أرانين... تجريدات كاندنسكي النثرية
بعد مرور سنتين على "الجانب الروحي في الفن" وقبل عام على انجاز "نظرات على الماضي"، التجأ فاسيلي كاندنسكي(1866- 1944، روسي الأصل/ فرنسي الجنسية /ألماني القلم... وعالمي الريشة)إلى قصيدة النثر، لكي تكون رنينا لغويا لبصيرته الفنية في التمهيد لحاسة التجريد التشكيلية. فأصدر عام 1912 "أرانين" Klauml;nge الذي يعتبر أول كتاب يرتبط فيه الشعر بالرسم، إذ لم يكن هناك من كتاب شعري يتضمن رسوم الشاعر نفسه، او كتاب فنان لرسومه يتضمن أشعاره هو. فالعادة المعروفة كانت كالتالي: شاعر يطلب من فنان تزيين كتابه الشعري ببعض الرسوم. إن "أرانين" يتوحد فيه شعر كاندينسكي ورسومه توحدا يكاد أي انفصال بينهما يفقد كلاهما معناه، بقدر ما ينسفهما أي تماثل بينهما. حالة توتر جدلية الطابع تنتج بعدا ثالثا: اختلافهما هو الرابط الحقيقي بينهما.المشروعهذا كان، في الحقيقة، يفكر به كاندنسكي منذ أن أخذ يكتب قصائد نثر ما بين عامي 1908 و 1911. فكان مجموع ما كتب 38 قصيدة ضمها الكتاب مع 12 رسمة بالألوان و44 رسمة بالأبيض والأسود. والرسوم كلها تمت طباعيا بالحفر على الخشب. ولم يطبع منه سوى 340 نسخة مع وصيةكاندنسكي الحاسمة:أن لايعاد طبع هذا الديوان على الاطلاق، وقد احترمَت وصيته إلى اليوم، مما بات من الصعب على القارئ الألماني العثور عليه لقراءته، وما عليه إلا أن يذهب الى مكتبة مختصة لكي يطلع عليه، ليرضي فضوله. وقد عانينا، نحن الراغبين فيرؤية الأصل، معاناة الألماني نفسه مما اضطررنا الاتصال بمكتبة كاندنسكي في متحف بوبور(باريس) لتزويدنا بنسخ مصورة، لاتمام هذه الترجمة ليس فقط على مستوى المضمون وإنما أيضا على مستوى الشكل
. لذا حافظ، المترجم، على شكل التقطيع في عدة قصائد كما هوفي النص الأصلي.

إن قصيدة النثر التي يتضمنها كتاب كاندنسكي "أرانين"، تختلف كليا عن مجمل نتاج قصيدة النثر، على الأقل عن النتاج الذي كان شائعا حتى عام 1912. فهنا ليس السرد أساسها، ولا الحكاية هدفها. ولا الكتلة مثالها.. ومع هذا فإن المعايير الثلاثة لقصيدة النثر (الاختصار، اللاغرضية، والتوتر)، تمثل جزء لا يتجزأ من قصيدة النثر لدى كاندنسكي. فالإيجاز متوفر في كل القصائد، واللاغرضية واضح إذ لا يريد كاندنسكي، على الاطلاق، إيصال أية حكمة أو موعظة أو قصد للقارئ عبر قصائده هذه. كما أن النثر هنا هو مادة القصيدة، استقلاليته من اية غرضية سواء كانت "شعرية" أو "غنائية". فالجمل بسيطةتلغرافية... ولا تربط بينها أية رمزية أو معان مجازية. والترجمة هنا يجب أن تحافظ على الوهلة التجريدية الأولى التي تولدها هذه القصائد عند قراءتها. فأي تجميل لها تدمير لها.

صحيح أن كاندنسكي سمى أرانينه هذه "قصائد نثر"،لكن ليس ضمن ما يفهم كإضافة جديدة لفن شعريأسمه "قصيدة النثر" وإنما استخدم المصطلح بالمعنى العام للكلمة أي كتلة كلامية نثرية لاتتوسل أي إيقاع عروضي أو وزن أو غير وزن.وفي الحقيقة، إن التقطيع الذي يراه القارئ لكتل قصائد كاندنسكي النثرية سببه ليس التقطيع الإيقاعي المعروف في الشعر الحر، وانما لإعطاء قيمة تركيبية للفراغ، وتكثيف التوتر بين الرسم والكتابة. فكان يضطر الى قطع الجملة أو الكلمة، وكأنالكتلة النثريةمحاصرة ببياض ملموس يفرض نفسه ولغاية ما.وهكذا يلبي كاندسكي المطلب الثالث لقصيدة النثر: التوتر، كثافة الفراغ،متوفر من خلال هذا التقصيب المفاجئ للجمل، وفي مسلخ هذا البياض (فراغ الصفحة)الذي هو أشبه بحلبة حوار أو صراع بينالعينواللسان...

فضلت "أرانين" كمقابل لـ Klauml;nge على كلمات أخرى كـ"رنّات" أو "أصوات" أو "رنينات" أو "رُنن" أو "نغمات". إن المعنى الأول لكلمة Klauml;ng هو"رنّة"،وهي،غالبا،رنّة موسيقية، نبرة. والمترجم الفرنسي للكتاب كان على حق عندما ترك العنوان بالألماني لأنه لم يجد المراد الموسيقيفي المقابل الفرنسيSonoriteacute;s، بينما المترجمة الانجليزية اكتفت بوضعSounds كمقابل وبهذا ضيّعت بالذات النبرة الموسيقية للتركيبية الخميائية المنطوية عليها "أرانين". فكاندنسكي لم يكن له هم سوى العثور على النغمة الضائعة المتمكنة من جعل هذا النثر اللاغرضي أنيصدّيهيئات اللون وآثار الحفر على الخشب، وفي الوقت ذاته، أن تكون هذهالحفريات الصورية مكبرات صوت ما تنطوي عليه هذه الكتل النثرية المكثفة في حال من التوتر... فلا يعود المطلوب منالكلمة إفادة المعنى المتعارف عليه، وإنما أن تتجرد... أن تبقى هيئة لغوية تتقاطب وهيئة الشكل المرسوم: مجردمناظر مقتطعة من ضواحي التجريد، أرانينَ من أعماق الشكل المترامي غابةً لونية من الرتوش.

يجب ألا ننسى أولا، انه نشر عام 1903 كتابا تضمن 12 رسمة (حفر بالخشب) ويحمل عنوانا غريبا: "أبياتٌ بلا كلمات"، وثانيا،أنه كتبمسرحية تجريبية عنوانها"الرنّة الصفراء:تأليف مشهدي"، وستفضي الىعلاقة معالموسيقارأرنولد شوينبرغ، مؤسس الموسيقى البلا نوطة، ومن ثم الى عمل مشترك معه: "اليد الجذلاء"نقطة التقاء بين التجريد واللانوطة؛ بين مسار اللغة- الرسم كإشارةوسلّم الموسيقى - الإيقاع كرنين.

صدر ديوان "أرانين" في وقت كان فيه الفن الشعري، حتى في حداثته آنذاك، أسير "الجمالية" و"الشعرية" و"الصورية الغائية"؛ عكس التيار المتعارف عليه في كتابة الشعر. من هنا كان هذا الديوان الغريبيحدث (خصوصا في تلك الفترة)صدمةً في ذهن قارئه مما كان يجد هذا القاري نفسه ملقى في أفاق لم يعهدها من قبل... لكن، ربما، لم تعد مجهولة بالنسبة الى قارئ اليوم فيُحرم أثناء قراءته لهذا العمل التاريخي، من اللذة الكاملة لما تنطوي عليه "أرانين" من صدمة تحديث عميقة .

لقد لعبت "أرانين" كاندنسكي دورا في تغيير ذائقةمتلقي مطلع القرن الماضي،منبئة إياهم عن صعود طلائع تشكيلية سيتغير معها كل مفاهيم الكلمة واللون؛ التركيب والخطوط؛اللامغزى والمضمون الباطن؛تجريداتالنغمة الكلاميةوأرانين المرئي. وليس غريبا، أن الدادائيين في زيورخ عندما أخذوا يتجمعون، عام 1917،بصفتهم رأس هذه الطلائع المقبلة، وجدوا أنكتاب كاندنسكيمن بين كل الأعمال الحديثة، هو الأقرب، شكلا ومضمونا،الى ذائقتهم المتمردة، فقرؤوا بصوت عال في مقاهيهم وعروضهم، قصائد من "أرانين" كمثال للشعر الذي يريدون اجتراحه. هنا مقطع كتبه احد المؤسسين الكبار للدادائية هانز آرب، يوضح فيه شعور رفاقه: "باشر كاندنسكي في أندر التجارب الروحية في قصائده. فمن الوجود المحض استخرج جماليات لمتُسمع من قبل. في هذه القصائد تطفو تراكيب لغوية على نحو لم يحدث مثله من قبل... فكاندنسكي يواجه القارئ بصور محتضرة ومتحولة، بجمل محتضرة ومتحولة، بحلم محتضر ومتحول ذاتيا. في هذه القصائد نعيش الدورة، التشميع والتضاؤل، تَحوّلَ هذا العالم. قصائد كاندنسكيتكشف فراغ المظاهر والعقل".

لقد أوضح كاندنسكي بأنه، رغم كفاحه من أجل الرسم، اكتشف "أن الرسم وحده لن يكفي". لذا أصدر "أرانين" والكتاب هذا كما وصفه كاندنسكي نفسه، "كتاب تركيبي أستطاع حذف نصف المفاهيم القديمة والضيقة، محطما الجدران الحائلة بين الفنون... وأثبت في آخر الأمر بأن مشكلة الفن ليست مشكلة شكل وإنما هي مشكلة المضمون الروحي...."

20 قصيدة نثرمنكتاب فاسيلي كاندنسكي:"أرانين" Klauml;nge

ترجمها عن الألمانية صالح كاظم

أوراق
أتذكّر حدثا معينا. كان هناك جبلٌ أسودُ ضخم مثلث القاعدة تصل قِمته الى السماء. وكان من الصعب رؤية قمته الفضية. على يمينهِ كانت هناك شجرةٌ متينة جدا
ذات قمةٍ خضراء كثيفة. قمة الشجرة كانت كثيفة جدا
بحيث كان يصعبُ فصل أوراقها عن بعض.
على اليسار في بقعةٍ ضيقة نمتْ زهيراتٌ بيضاء صغيرة، بدت مثل صحون مسطحة.
ما عدا ذلك لم يكن هناك شئ.
وقفت أمام هذا المنظر ونظرت اليه. فجأة جاء رجل من جهة اليمين على ظهر تيس أبيض يبدو اعتياديا جدا، غير أن قرنيه لم يكونا منحنيين الى الوراء، بل كانا منتصبين الى الأمام. أما ذنبه فلم يكن متجها بوقاحة الى الأعلى، بل كان عاريا ويتجه نحو الأسفل.
وجه الرجل كان أزرقا وبأنف معكوفٍ وقصير. ضحك الرجل فبرزت أسنانه الصغيرة المتضررة الموزعة بشكل غير منتظم، رغم أنها كانت ساطعة البياض. ولاحظت شيئا شديد الحمرة. مر عليّ ببطْء وأختفى وراء الجبل. الغريب في الأمر أني حين تطلعت من جديد في المنظر كانت كل الأوراق قد انتشرت على الأرض، وعلى اليسار اختفت الزهور، لتحل محلها ثمارٌ حمراء. الجبل بقي ثابتا في محله. هذه المرة.

مغامرة
مرة زرت منطقة بنيت فيها قصور، لا يسكنها أحد. البيوت كلها كانت ساطعة البياض وكانت شبابيكها الخضراء مغلقة بإحكام. وسط هذه المنطقة كان هناك ميدان نما عليه العشب. ووسط الميدان انتصبت كنيسةٌ ببرج نواقيس مرتفع، مدبب السطح. عقارب الساعة الكبيرة كانت تتحرك غير أنها لا تدقّ. أسفل البرج وقفت بقرة حمراء وقد انتفخت بطنها. إنها تقف هناك وتمضغ شبه نائمة. وكلما أشار عقرب الساعة الى مرور ربع أو نصف ساعة أو ساعة كاملة صرخت البقرة: "آي لا تخافي!" ثم تواصل المضغ.

ماء
في الرمال الصفراء مشي رجل صغير. كان يتزحلق بين وقت وآخر. بدا كما لو انه كان يمشي على أرض جامدة. غير أن ما كان يمشي عليه كان رملا أصفر لسهل لا ينتهي.
بين وقت وآخر كان يقول: "ماء. ماء أزرق."، دون أن يعي لِم قال ذلك.
مر فارسٌ يرتدي ثوبا أخضر ذا ثنايا على فرس أصفر يجري سريعا.
الفارس الأخضر شد قوسه الأبيض المتين وأستدار مطلقا السهم باتجاه الرجل الأحمر. صفير السهم كان شبيها بالبكاء وهدفه ان ينغرز في قلب الرجل الأحمر. غير أن الرجل الأحمر امسك به في آخر لحظة بيده ورماه الى جنب. الفارس الأزرق أبتسم وانحنى على عنق فرسه واختفى بعيدا.
الرجل الأحمر أزداد حجما وخطواته أزدادت قوة. قال "ماء أزرق."
واصل سيره في حين بدأت الرمال تتحول الى تلال وكثبان. ومع كل خطوة وجد نفسه وسط تلال أكثر شدة وظلاما وأكثر ارتفاعا حتى تحولت صخورا صلبة.
فأضطر أن يحشر نفسه وسط الصخور، حيث لا مجال للتوقف ولا للعودة من حيث أتى. وحين مر على صخرة مدببة ومرتفعة جدا لاحظ أن الرجل الأبيض الذي كان يتربص فوقها يريد أن يسقط عليه صخرة بنية كبيرة.
غير أنه كان مضطرا للسير في المضيق منتصبا، وحالما أصبح تحت الصخرة، دفع الرجل من الأعلى الصخرة بكل ما يمتلك من قوة.
سقط الحجر على الرجل الأحمر. غير انه أستقبله بكتفه الأيسر ورماه وراء ظهره. الرجل الأبيض فوق الصخرة أبتسم وهز رأسه برضى. الرجل الأحمر صار أكبر، يعني أطول. قال "ماء. ماء". الممر بين الصخور راح يتسع حتى تحول من جديد الى كثبان واسعة تمتد في سهول منخفضة سرعان ما تختفي، كما لو أنها لم تكن هناك.
-وأنما هناك سهل تجدّد.

مائدة
كانت هناك مائدة طويلة. أوه طويلة طويلة. يمينا ويسارا حول هذه المائدة جلس عدد كبير من البشر البشر البشر.
أوه طويلا، طويلا جلس البشر حول هذه المائدة الطويلة.

نظرة
لماذا تتطلعُ نحوي من خلال الستارةِ البيضاء؟ لم أنادِك ولم أطلبُ منك أن تتطلع نحوي من خلال الستارة البيضاء. لماذا تخفي الستارةُ وجهـَك عني؟ لماذا لا أرى وجهكَ وراء الستارة البيضاء؟ لا تتطلع نحوي من خلال الستارةِ البيضاء. لم أنادِك ولم أطلب منك شيئا. من خلالِ أجفاني المغلقة أرى كيف تتطلعُ إليّ، إذ تتطلع إليّ من خلال الستارة البيضاء. سأسحب الستارة البيضاء جانبا وأرى وجهك، وأنت لا ترى وجهي. لماذا لا أستطيع أن أسحب الستارة البيضاء جانبا؟ لماذا تخفي الستارة البيضاء وجهك عني؟

في الغابة
الغابة أزدادت كثافة. والجذوع الحمراء أصبحت أكثر سمكا. والقمم الخضر أزدادت ثقلا. والهواء أشتد ظلاما. الأدغال أزدهرت ونَمت. وأزداد عدد الفطر، حتى وجد المرء نفسه مضطرا لأن يسحقها بقدميه. وأزدادت صعوبة مواصلة السير بالنسبة للرجل، فحشر نفسه وسط الأحراش دون أن يتزحلق. غير انه واصل السير وهو يكرر الجملة ذاتها:
االندوب الشافية.
الألوان المختارة.
على يساره خلفه تقريبا تسير امرأة. وكلما أنتهى من النطق بجملته تقول المرأة مشددة على حرف الدال
عمليٌ جِدددددًا.

تلال
كمية من التلال في كل الألوان التي يتصورها المرء. أحجامها مختلفة، غير أن أشكالها تكاد أن تكون متشابهة: متينة في الأسفل، منتفخة الأطراف، مسطحة ومستديرة عند القمة. هي إذا تلال بسيطة وعادية كما يتصورها المرء دون أن يراها.
وسط التلال هناك درب ضيق أبيض ببساطة، هذا يعني لا يميل للزرقة ولا للصفار. لا أزرق ولا أصفر.
في ثوب أسود طويل يغطي الأقدام أيضا يسير في هذا الدرب رجل شاحب الوجه، غير أن خداه عليهما بقعتان حمراء. كذلك شفتاه حمراوان. يحمل على رقبته طبلا يدق عليه. الرجل يسير بشكل مضحك جدا.
أحيانا يركض ويدق على الطبل دقات سريعة ومضطربة. وأحيانا يسير بطيئا، ربما غارقا في التفكير، ويدق على البطل دقات طويلة بطريقة ميكانيكية. واحد... واحد... واحد... واحد... أحيانا يتوقف تماما عن السير ويدق على الطبل مثل الأرنب الأبيض ذو الفرو الرقيق الذي نحبه جميعا. غير أن هذا لا يستمر طويلا.
وها هو الآن يواصل السير ويدق بشكل غير منتظم وسريع على الطبل.
وها هو الآن يرتمي متعبا هذا الرجل الأسود متمددا على طوله في الدرب الأبيض بين التلال الكثيرة الألوان. طبله مرمى الى جنبه وكذلك خشبتا التطبيل.
والآن هو سينهض. وسيواصل السير.
كل هذا رأيته من فوق وأرجوكم أن تنظروا اليه كذلك من فوق.

حقل متعدد الألوان
في حقل تنموا عليه أزهار متعددة الألوان بدلا من العشب، جلس خمسة رجال جنبا الى جنب. على جنب منهم وقف رجل سادس.
قال الرجل الأول:
"السقف ثابت. ثابت السقف. ثابت..."
بعد وقت قال الثاني:
"لا تمسوني.. أنا أعرق.. أعرق.. نعم!"
وقال الثالث:
"لا تعبروا الجدار!
لا تعبروا الجدار!
لا!"
أما الرابع فقال:
"فاكهة طازجة!"
بعد صمت طويل صرخ الخامس بصوت حاد:
"أوقظوه! أفتحوا عينيه على سعتهما!
هناك صخرة تنحدر من الجبل.
صخرة. صخرة. صخرة. صخرة! من الجبل! انها تنحدر الى الأسفل. أجعلوا أذنيه فضوليتين!
أفتحوا عينيه على سعتهما!
أطيلوا ساقيه! أجعلوها طويلة! طويلة. ساقيه!"
أما السادس الذي كان يقف على جنب فصرخ بقوة وبحدة: "أصمتوا!"

ستارة
الحبلُ انحدرَ نحو الأسفل و
الستارةُ ارتفعت الى الأعلى.
هذه اللحظة كنا
ننتظرها جميعا منذ وقت
طويل. الستارة صارت معلقة.
الستارة معلقة. معلقة نحو الأسفل. والآن أصبحت فوق.
حين أتجهت نحو الأعلى (أو كانت على وشك أن تتجه الى أعلى)
سررنا جميعا
سرورا كبيرا.

الزبد الأبيض
أود أن أعرف لماذا الأمر هكذا وليس على العكس. من الممكن أن يحصل العكس، العكس تماما. امرأة تركب جوادا شديد السواد وتقوده عبر حقول خضراء منبسطة. لا أستطيع أن أرى نهايتها. المرأة ترتدي ثيابا حمراء، ووجها مغطى بحجاب لونه أصفر مثل الكناري. المرأة تضرب الجواد بقسوة، غير انه لا يستطيع أن يجري بسرعة أكبر. أنه يجري بكل الأحوال سريعا ويزداد بياضا من خلال الزبد الأبيض الساخن. المرأة تجلس منتصبة وتضرب الجواد الأسود. ألا تظنون أن من الأفضل أن يموت الجواد الأسود؟ أنه يزداد بياضا بسبب الزبد الأبيض الساخن! غير أنه عاجز عن الموت. أوه لا! انه لا يستطيع أن يموت. اليس من الممكن أن يحصل العكس، العكس تماما.

الرخو
كل واحد أستلقى على ظهر جواده، مما جعل المشهد قبيحا ومبتذلا. جميل، بل من المفضل أن يجلس طائر بدين على غصن نحيف ترتجف أوراقه الصغيرة. كل يمكن أن ينحني( ومن لا يستطيع ذلك سيتعلمه). هل يستطيع الكل أن يرى الأبراج المدببة؟ أفتحوا الأبواب! أو سيهدم الشق في الجدار السقف!

البرج
رجل مفتول الشارب يرتدي سترة خضراء يستلقي على العشب الأخضر. لم يعجبني مطلقا . المكان محاط بفطر أحمر.امرأة أتت من الغابة الخضراء: زرقاء كانت ومقرفة.
جَلـَستْ قربَ الرجل فأختفى الفطر كله. زال.
الرجل نهض ومضى والمرأة الى جانبه، سويةً مضيا من الغابة الخضراءِ نحو البيتِ الأحمر الكبير.
الباب الرمادية كانت مغلقة. البابُ لم تكنْ هناك.
المرأة دخلت. الرجل أيضا دخل. في أعلى البرج غالبا ما يقفان سوية: أمر مقرف.
الباب الرمادية مغلقة.

أرانين
وجه.
بُعد.
غيمة.
...........
...........
ثمة رجل يقف حاملا سيفا طويلا. السيفُ طويلٌ وعريضٌ أيضا. عريضٌ جدا.
............
انه يسعى مرات عديدة للخداع ويجب أن أعترف: لقد تمكن من ذلك- الخداع. وربما مرات عديدة.
................
................
عيون. عيون. عيون...عيون.
..................
..................
أمرأة نحيفة لم تعد شابة، تحمل حجابا على رأسها، يغطي وجهها مثل درع ويلقي بظله على الوجه. المرأة تسحب وراءها عجلا مازال صغيرا وعاجزا عن الوقوف على قدميه المعوجتين. أحيانا يسير العجل وراءها راضيا. وأحيانا يتمرد. حينها تشد المرأة على الحبل. فيحني رأسه وتتصلب سيقانه. غير أن سيقانه ضعيفه والحبل لا ينقطع.
الحبل لا ينقطع.
......................
......................
عيون تنظر من بعيد.
الغيمة ترتفع.
........................
........................
الوجه.
البُعد.
الغيمة.
السيف.
الحبل.


لاحقا
في عمق المرتفع سأعثر عليك. هناك حيث الصقيل يجرح. هناك حيث الحاد لا يشق. أنك تمسكين الخاتم في اليد اليمنى. لا أحد يرى القلادة. غير أن هذه الخواتم هي آخر حلقات القلادة.
البداية.
النهاية.


الثغرة
الرجلُ الصغير أرادَ أن يقطع
الجنزيرغير انه بالطبع
لم يتمكن من ذلك. الرجل الكبير قطعه
بسهولةٍ كبيرة. الرجلُ الصغير
حاول أن يتسرب
من خلال الثغرة.
الرجل الكبير أمسك
بذراعه، وأنحنى عليه هامسا
في أذنه:
"يجب أن نحتفظ بهذا السر." وضحكا
سوية من الأعماق.

قبل حلول الربيع
رجل رفع قبعته في الشارع. رأيت شعرا
أسود وأبيض ثبت بالدهن يمينا ويسارا على جانبي مفرق الشعر. رجل آخر رفع قبعته. شاهدت صلعة كبيرة
وردية وملمعة بالزيت يسطع
عليها ضوء أزرق.
تطلع الرجلان في بعضهما وكشف أحدهما
للآخر عن أسنانه المعوجة المائلة الى الصفرة
والمحشاة.

أغنية
رجل جالس
في الدائرة الضيقة
في الدائرة الضيقة
للمكان الضيق.
انه فرح
لا أذنان له
ولا عينان.
الصدى الأحمر
لكرة الشمس
يمس آثاره.
ما تهاوى
سينهض من جديد.
وما لم يَنطق
سيصدح أغنية.
سيكون الرجل
لا أذنان له
وبلا عينين ايضا.
الصدى الأحمر
لكرة الشمس
يتحسس آثاره.

قفص
كان ممزقا. أمسكت طرفيه بيدي وحاولت أن أربطهما ببعض. كان هناك ما ينمو حولي بكثافة. غير أن كل هذا لم يكن مرئيا. فكرت بأن لا شئ هناك. غير اني كنت عاجزا عن السير قدما. كنت مثل ذبابة في صندوق مغلق.
يعني هذا هناك شئ لا مرئي، غير انك عاجز عن تجاوزه. كان فارغا حتى. أمامي كانت هناك شجرة يتيمة، بل شجيرة. خضراء زرقاء مثل خضرة العفن. كثيفة مثل الحديد وصلبة أيضا. على غصونها ثمة تفاحات صغيرة حمراء مثل الدم.
هذا كل شئ.

بعض الأشياء
سمكة تغطس عميقا في الماء. لونها فضي. لون الماء ازرق. ألاحقها بعيني. السمكة تغطس أعمق. غير أني مازلت قادرا على رؤيتها. ولم أعد قادرا على رؤيتها. كنت قادرا على رؤيتها، حين لم أعد أراها.
طبعا طبعا رأيت السمكة. رأيتها. رأيتها. رأيتها. ثمة جواد أبيض سيقانه مرتفعة يقف هادئا. كانت السماء زرقاء. السيقان كانت مرتفعة. الجواد لم يتحرك من مكانه. عنقه كان منحنيا الى الأسفل وبلا حركة. الجواد يقف بسيقانه المرتفعة بلا حركة. غير انه مازال حيا. عضلات لا حركة فيها وجلد لا يرتجف. كان حيا. طبعا طبعا كان حيا.
في الحقل الواسع نمت زهرة. الزهرة كانت زرقاء. كانت زهرة في حقل واسع.
حقا. حقا. حقا. كانت هناك.


تربة
التربة الثقيلة تنقلها مساح ثقيلة الى العربات.
العربات امتلأت وأصبحت ثقيلة. البشر
يصرخون على الجياد.
بالسوط يحدثون ضجيجا البشر. الجياد تسحب
بصعوبة العربات الثقيلة
التي فيها التربة الثقيلة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
جميل
الزاهي -

ترجمة جميلة ومقروءة... هذه اول مرة اقرأ قصائد لهذا الرسام... انها قصائد فكرية عميقة تستحق التأمل... لم اكن اعرف انه كتب شعرا... شكر لايلاف على تعريفنا بهذا الشعر الخفي

جميل
الزاهي -

ترجمة جميلة ومقروءة... هذه اول مرة اقرأ قصائد لهذا الرسام... انها قصائد فكرية عميقة تستحق التأمل... لم اكن اعرف انه كتب شعرا... شكر لايلاف على تعريفنا بهذا الشعر الخفي

خلي الحسد يقتلهم
زعيم -

اغبياء الثقافة العربية اصابتهم اليوم صدمة: صار لهم عشرات السنين يتكلمون عن قاندينسكي ولم يعرفوا انه كان يكتب شعرا... باللاغبياء،

خلي الحسد يقتلهم
زعيم -

اغبياء الثقافة العربية اصابتهم اليوم صدمة: صار لهم عشرات السنين يتكلمون عن قاندينسكي ولم يعرفوا انه كان يكتب شعرا... باللاغبياء،

إلى متى يبقى ...
أحمد الناصري -

تفتقر المكتبة العربية لمن يقدم لها روحياً الإنتاج الهائل في الكثير من الفنون إلى القاريء، فكيف بنا ونحن نرى ديناصورات لا روح لها تحاول إضفاء طابع آخر على جامع الفنون الرائع كاندنسكي، فهو رسام وفوتوغراف بارع وكاتب قصيدة، ونحات الخ .. الخ.. من هنا تأتي كل الإهتمامات متأخرة إذا تم قياسها بسنوات أمضاها إبداعاً، ولعل المقدمة التي تتبوء قصائد النثر تمثل حجر عثرة يفقد النثر جماليته، حيث تحوز المقدمة على إغراء كسقوط الحجر على رأس القاريء مع سبق الإصرار. إكتشاف عبقرية الفنان وفلسفته في الحياة والإبداع وتقديمه في هكذا صيغة تتشابه تتشابه وتصريف أعمال خدماتيه أو كزحف الرمال وهي تطبق على أغراض وإشكالات الزهرة - أي النص النثري. فهل من منقذ ينقذ أهل الكتابة وليس المكتوب.

إلى متى يبقى ...
أحمد الناصري -

تفتقر المكتبة العربية لمن يقدم لها روحياً الإنتاج الهائل في الكثير من الفنون إلى القاريء، فكيف بنا ونحن نرى ديناصورات لا روح لها تحاول إضفاء طابع آخر على جامع الفنون الرائع كاندنسكي، فهو رسام وفوتوغراف بارع وكاتب قصيدة، ونحات الخ .. الخ.. من هنا تأتي كل الإهتمامات متأخرة إذا تم قياسها بسنوات أمضاها إبداعاً، ولعل المقدمة التي تتبوء قصائد النثر تمثل حجر عثرة يفقد النثر جماليته، حيث تحوز المقدمة على إغراء كسقوط الحجر على رأس القاريء مع سبق الإصرار. إكتشاف عبقرية الفنان وفلسفته في الحياة والإبداع وتقديمه في هكذا صيغة تتشابه تتشابه وتصريف أعمال خدماتيه أو كزحف الرمال وهي تطبق على أغراض وإشكالات الزهرة - أي النص النثري. فهل من منقذ ينقذ أهل الكتابة وليس المكتوب.

تحفة جمالية وفكرية
صدرالدين امين -

شكرا للاستاذ المترجم البارع صالح كاظم , شكرا داتما لعبد القادر الجنابي الفريد في ثقافته واختياراته الفكرية الجمالية , ان هذه القصائد تحف فكرية وفنية وجمالية لاتقل جمالا وروعة ودهشة واهمية عن اعمال كاندنسكي الفنية التجريدية الخلاقة , هذه القصائد حقيقة تحف شعرية لاتحتمل ولن اشبع من قرائتها ابدا , شكرا لكاندنسكي العظيم وشكرا لايلاف لهذه الهدية القيمة .

تحفة جمالية وفكرية
صدرالدين امين -

شكرا للاستاذ المترجم البارع صالح كاظم , شكرا داتما لعبد القادر الجنابي الفريد في ثقافته واختياراته الفكرية الجمالية , ان هذه القصائد تحف فكرية وفنية وجمالية لاتقل جمالا وروعة ودهشة واهمية عن اعمال كاندنسكي الفنية التجريدية الخلاقة , هذه القصائد حقيقة تحف شعرية لاتحتمل ولن اشبع من قرائتها ابدا , شكرا لكاندنسكي العظيم وشكرا لايلاف لهذه الهدية القيمة .

جهد مشكور
د. علي البهادلي -

قصائد باهته، لا يوجد ولا حتى جملة شعرية واحدة فيها

جهد مشكور
د. علي البهادلي -

قصائد باهته، لا يوجد ولا حتى جملة شعرية واحدة فيها

ليست بقصائد
ss -

كانت هناك مائدة طويلة. أوه طويلة طويلة. يمينا ويسارا حول هذه المائدة جلس عدد كبير من البشر البشر البشر.أوه طويلا، طويلا جلس البشر حول هذه المائدة الطويلة. بالله عليكم هل هذه قصيدة...نصف كلماتها طويل وطويلة!!!!!!!!!!!!!!!!!!

ليست بقصائد
ss -

كانت هناك مائدة طويلة. أوه طويلة طويلة. يمينا ويسارا حول هذه المائدة جلس عدد كبير من البشر البشر البشر.أوه طويلا، طويلا جلس البشر حول هذه المائدة الطويلة. بالله عليكم هل هذه قصيدة...نصف كلماتها طويل وطويلة!!!!!!!!!!!!!!!!!!

ذائقة طرية
أحمد -

ليس من العدل أن نبخس حق أيّ ابداع ونشطب الجهد المثابر فيه، كاندنسكي ليس فناناً سهلاً ولا قصائده بسيطة كما يتبينها القاريء العادي، هو يرسم بالكلمات نزوات الطفولة، طفلٌ تقدم زمانه بقرون، كانت رسوماته ثورة حداثية، وشعره حارج الاُطر التقليدية، وعندما يكرر بعض الكلمات يلحّ في ذلك مثل أيّ طفل يبحث عن جوابات. في أيام يفاعتنا، كنا نجد فوق أرفف مكتبة مكنزي البغدادية كتيبات ل:كاندنسكي وشاغال وروسو وسيزان وفان غوخ وغوغان ولوتريك، من هؤلاء المجانين العباقرةتلقينا محبة فن الرسم، لكن شعرهم لم يصلنا بكلّ أسف ما عدا رسائل كتبوها لهذا وذاك، وقرأنا رسائل غوخ لأخيه ، الطفل يسأل أحياناً بابا، بابا....بابا لماذا يذهب النهار سريعاً ثمّ يجيء الليل، يجيب الأب: الليل للراحة والنوم، والنهار للعمل، بينما في مقدورنا أن ننام نهاراً ونعمل ليلاً؟؟ ويتهرب الأب من بقيةالسؤالات، لأنه لا يستطيع أن يلامس إدراكه ويفهمه، هذه مبادرة لا تخلو من المتعة والفائدة قاما بها الرائعان الجنابي وصالح كاظم، قرّاء ايلاف في حاجة الى صدمة فكرية خارج أطر المعتاد ، تحية لجهدهما الكبير السخي ..

ذائقة طرية
أحمد -

ليس من العدل أن نبخس حق أيّ ابداع ونشطب الجهد المثابر فيه، كاندنسكي ليس فناناً سهلاً ولا قصائده بسيطة كما يتبينها القاريء العادي، هو يرسم بالكلمات نزوات الطفولة، طفلٌ تقدم زمانه بقرون، كانت رسوماته ثورة حداثية، وشعره حارج الاُطر التقليدية، وعندما يكرر بعض الكلمات يلحّ في ذلك مثل أيّ طفل يبحث عن جوابات. في أيام يفاعتنا، كنا نجد فوق أرفف مكتبة مكنزي البغدادية كتيبات ل:كاندنسكي وشاغال وروسو وسيزان وفان غوخ وغوغان ولوتريك، من هؤلاء المجانين العباقرةتلقينا محبة فن الرسم، لكن شعرهم لم يصلنا بكلّ أسف ما عدا رسائل كتبوها لهذا وذاك، وقرأنا رسائل غوخ لأخيه ، الطفل يسأل أحياناً بابا، بابا....بابا لماذا يذهب النهار سريعاً ثمّ يجيء الليل، يجيب الأب: الليل للراحة والنوم، والنهار للعمل، بينما في مقدورنا أن ننام نهاراً ونعمل ليلاً؟؟ ويتهرب الأب من بقيةالسؤالات، لأنه لا يستطيع أن يلامس إدراكه ويفهمه، هذه مبادرة لا تخلو من المتعة والفائدة قاما بها الرائعان الجنابي وصالح كاظم، قرّاء ايلاف في حاجة الى صدمة فكرية خارج أطر المعتاد ، تحية لجهدهما الكبير السخي ..