عندما نشر ريلكه قصائد موزونة كقصائد نثر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تقديم بقلم عبدالقادر الجنابي:كتب الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه عام 1904 قصائد تحت عنوان "ثلاث قصائد نثر" ("قبر المحْظيـّات"، "أورفيوس، يوريديس وهرمس" و"ميلاد فينوس") وأرسلها إلى المجلة الألمانية Neue Rundschau مع رسالة صغيرة الى الناشر فيشر موضحا فيها تعلقه الشديد بهذه القصائد معتبرا إياها "الأفضل والأكثر اكتمالا من كل ما كتبه". وعندما نشرت المجلة القصائد في عدد نوفمبر 1905، وصله كارت بوستال مكتوب فيه "قصائد رائعة" موقع من قبل 3 كتاب نمساويين من بينهم المسرحي هيغو فون هوفمنستال الذي أضاف في نهاية الكارت الجملة التالية ووقعها: "لكن
في الحقيقة إن ريلكه لم يكتب أبدا، لا بالألمانية ولا بأية لغة قصائد نثر بالمعنى المعروف: اعتماد النثر كمادة جوهرية للقصيدة، أي الكتابة المنطلقة مما يمليه النثر وليس إيقاع التفعيلة. وما محاولته هذه، في نظري، سوى تسرع حصل بسبب انغماسه الكلي، عام 1904، وهو في روما، في كتابة عمل نثري اسمه "دفاتر مالته لوريد بريغه". ذلك أنه وضع تفكيره كله في الطابع النثري لهذا الكتاب لينجزه ، متصورا انه سيخلق عملا يتجاوز كل ما كتبه من أشعار، مبتغيا تحقيق "نثر متين لا ثغرة فيه"، كما كتب في رسالته الى اندريا- سالومي. وفي رسالة الى رودان يوضح هذه الحمى النثرية التي انتابته: "لكتابة شعر، غالبا ما يسعفنا، بل يأخذنا، إيقاع الأشياء الخارجية. ذلك لأن الوقع الوجداني ينتمي للطبيعة، المياه، الريح، الليل. لكن لإخضاع النثر للإيقاع على المرء أن يتعمق في ذاته ليجد الإيقاع المجهول ومضاعَفَ الدم. يريد النثر أن يُبنى مثل كاتدرائية حيث المرء، فعلا، بلا اسم، بلا طموحات، بلا عون: وإنما في صقالات مع الضمير الوحيد...؟". وقد كتب ايضا قطعة نثرية يعتبرها البعض قصيدة نثر عنوانها: "قفص الأسود".
إذن، في غمرة هذه النشوة النثرية التي أسكرته، كتب ريلكه هذه القصائد (يجب ان أعترف بأنها تنطوي على سردية قريبة من السرد الرمزي المميز لقصيدة نثر نهايات القرن التاسع عشر)، "دائريا" أي أبيات متصل بعضها ببعض كتلةً، متصورا أنها تنطوي على "الإيقاع المجهول" الذي يعتبره جزءا من "نثر متين"... هكذا دون أن ينتبه إلى أن هذه القصائد الثلاث التي سماها "3 قصائد نثر" هي قصائد موزونة وفق ما يسمى بالألمانية "الشعر المرسل" Blankvers أي البيت الايامبي ذو التفاعيل الخمسة من دون قافية. من هنا نفهم لماذا اعتبر ريلكه تساؤل هوفمنستال منطقيا، بل شعر وكأن هذا التساؤل يكشف عنرغبة دفينة فيه غير محققة: التخلص من كتابة "إيقاع خارجي"، لبناء "كاتدرائية" نثرية حيث "الإيقاع المجهول".إثر هذا الحادث، توقف ريلكه مباشرة عنمواصلة "دفاتر مالته..." ليعود اليه بعد ثلاث سنوات، واضعا، الآن، كل تركيزه على كتابة "قصائد جديدة" سينشر الجزء الأول منها عام 1907 واضعا في نهاياتهالقصائد الثلاث هذه على النحو الصحيح؛ مقطعة وفق البحر الذي تدفقت عبره:الشعر المرسل.
بعد أن حاول ريلكه وضع عصارة تخيلاته النثرية في "دفاتر مالته.." و"رسائل الى شاعر شاب" وفي عدد من رسائله الشخصية إلى أصدقائهذات الأسلوب النثري المميز، وبعضها ينطوي على نظراتثاقبة في الشعر (انقر هنالقراءة هذاالمقطع المأخوذ من "دفاتر مالته")، كتب ريلكه الألمانية ما بين 1907 و1914 عدة قطع نثريةقصيرة،وفي الأعوام الأخيرة من حياته، كتبباللغة الفرنسيةمجموعة من "شظايا" انطباعية وتأملية واحيانا حِكَمية مما تتناقض واللاغرضية؛ المعلم الأول والأخير لقصيدة النثر. كما أنريلكه نفسه لم يعتبر قطعه النثرية قصائد نثر، ولا هذه "الشظايا" قصائد نثر(انظر الاطار الجانبي)ولا أي ناقد، مما حدا بأبنته التيأشرفت على نشر اعماله الكاملة في ست أجزاء،أن تضع هذه الشطايا وتخطيطات أوليةلأشعار غير مكتملة تحت عنوان: eacute;bauches et fragments (شظايا وبديئات). ناهيك بإن معظم المختصين بتاريخ قصيدة النثر اعتبروا دفاتر مالته..." قصيدة نثر طويلة مما راح بعضهم يستلون مقاطع منها وينشرونها كنماذج في انطولوجيات قصيدة النثر العالمية،ولم يلتفتوا، أبدا،إلى هذه "الشظايا"، وهناك من يعتبر ما كتبه ريلطة من قطع نثرية سواء كانت قصيرة او طويلة، قصائد نثر.
ميلاد فينوس (النسخة النثرية)
ترجمها عن الألمانية صالح كاظم
في هذا الصباح بعدَ رحيلِ الليل متوجسا ً، محاطا ً بنِداءاتٍ وقلقٍ وتمردٍ أنتفضت كلّ البحار وصرختْ. وحين توقــّفَ الصراخ تدريجيا وتهاوى من يومِ السماءِ الشاحب الى قاع البحر، حيث الأسماكِ الصامتة تقيم، وَلَد البحرُ. أشّعَ زَبَدُ الشَعـْرِ فوق زَبَد الأمواجِ، حالما بَرزت الشمسُ، وانتَصَبتْ الفتاة قُربها، بيضاءَ مضطربة ً ومبتلة. وتَحركتْ مثلَ ورقةٍ خضراءَ صغيرة، تمـدّدت وازدهرتْ ببطء. أزدهرَ جسدُها، مثلَ زهرةٍ لم تَتَفـتح بعدُ، محاطا ً بالبردِ في هواءِ الفجْر النقيّ.
مِثـْل الأقمارِ ارتَفعت رُكبتها لتتصل بالوِركين أطرافَ غيومٍ، إذ أنسَحبَ الظلُ الشاحب ِ للسيقان، بينما توتّرتْ القدمان وتُحوّلت ضوءا. وانـْتَعشت المفاصِلُ مثل حنجرةِ شِرّيبين. وفي كأسِ الحوضِ أستقرّ الجَسدُ مِثل ثَمرةٍ طريّة في يد طفلٍ. في كؤيسِ السّرةِ الضّيق حلّ كلّ ظلام هذه الحياة البهيجة. وتحت السّرة ارتفعت الموجة ُ الصغيرة مضيئة ً وجرت قوية ً بحثا عن الحوضِ، حيث ثمة خرير هادئ. غير أنّ العانة مثلَ غابةٍ من أشجارِ البتولا استلقت دافئة ً فارغة ً لا ظلال لها وبلا حمايةٍ.
والآن جاءَ ميزانُ الكتفين الخفيف مستقرا ً على الجسد القويم الذي نهضَ من وسط الوركينِ مثل نافورة ٍ وتوارى عند الذراعين لينتهي في منحدر الشعر الملئ.
بعدها تحرك الوجـْهُ بطيئا ً قادماً من الظلامِ المختزل لانحداره لينتصبَ فخوراً واضحا ومعتدلا، يلْحقه الفكُ مشدودا.
الآن وبعد أن استطالتْ الرقبة ُ مثل إشعاعٍ تشبها بساق زهرة، تستقـّر فيه العصارة، امتدتْ ذراعان مثل أعناقِ بجع تبحث عن الساحل.
بعد
رجّم شاكر لعيبي تسع شظايا منها، في جريدة "المدى" (23 اغسطس 2009)، تحت عنوان: "ريلكه: قصائد نثر مكتوبة بالفرنسية". لماذا، وعلى أي أساس اعتبر لعيبي هذه الشظايا قصائد نثر؟ لا اجيب عن هذا السؤال، مادامت الثقافة العربية يصح بها اليوم المثل المصري: "عند العرب كله صابون". فالكارثة ليس فقط في اعتباره الخاطئ فحسب، وإنما كذلك في تَرجيمته. ورغم أننا أكدنا في مقال سابق (انقر هنا) على أن لعيبي لا يفقه الفرنسية،لكن يبدو أنه من الضروري،هنا على الأقل، أننعود، ثانية،لنبرهن قولنا باربعة نماذج من قطعة واحدة مكونة من عشرة أسطر: القطعة هي Farfallettina.
أولا العنوان" يبدو انه لم يفهم ماذا تعني كلمة العنوان، فوضع "فارفاليتينا" دون أي شرح للعنوان، مما راح القارئ يتصور انها اسم امرأة مشعبذة، (وربما لعيبي نفسه تصورها هكذا)، بينما هي كلمة إيطالية تعني "النحلة الصغيرة" والقصيدة تقريض للنحلة، وأي مترجم مهما كان صغيرا كانسيضع بين قوسين ترجمة عربية لهذه الكلمة الإيطالية..
ثانيا: كلمات وأفعال: ترجم لعيبي Ell srsquo;est abattue surhellip; بـ" لقد خفقتْ على..." بينما الأقرب هو "سقطت على..." وترجم bilboquet بـ"البطاقة الهشة" بينما الصح "لعبة خشبية" ( تتكون من حبل يشد في طرفه كرة وفي الطرف الثاني خشبة ذات تجويف والرابح هو من يستطيع اسقاط الكرة في التجويف. انظر صورة رقم واحد). وترجم Cest en toi, ma belle, que Dieu srsquo;est eacute;puiseacute; بـ " منك، يا جميلتي، اغترف الله غرفاً"، بينما الترجمة الأقرب هي التالي: "فيكِ، يا جميلتي،نَضَبَ الله". وأخيرا، ترجم Comme un enfant qui casse sa tirelire بـ"مثل طفل يكسر مسطرته"، بينما الترجمة الأقرب هي "مثل طفل يكسر حافظة نقوده".
وختاما، هنا صورتان الأولى لـbilboquet والثانية لـtirelire علهما تساعدان لعيبي على فهم الكلمتين.
هكذا هبطتْ الإلهة. المتعجلة، تتبعها عند الساحلِ الجديد طيلة الصباح الزهورُ وعيدانُ القصب ِ، دافئة ًومضطربة ً. أما الإلهة فقد واصلتْ السير والركض.
ولكنْ عند حلول الظهيرة في أشدّ ساعاتها قسوة ً أنتفضَ البحرُ من جديد وقذف دلفينا في الموقع ذاته، ميتا ً وأحمرَ، جريحا ً.
ميلاد فينوس (النسخة الشعرية)
ترجمها عن الألمانية صالح كاظم
في هذا الصباح بعدَ رحيلِ الليل، متوجسا ً
محاطا ً بنِداءاتٍ وقلقٍ، وتمردٍ، انتفضت،
كلّ البحار وصرختْ، وحين توقــّفَ الصراخ
تدريجيا وتهاوى من يومِ السماءِ الشاحب
الى قاع البحر حيث الأسماكِ الصامتة:
وَلَد البحرُ.
حالما بَرزت الشمسُ أشّعَ زَبَدُ الشَعـْرِ
فوق زَبَد الأمواجِ، وانتَصَبتْ الفتاة قُربها،
بيضاءَ مضطربة ً مبتلة،
وتَحركتْ مثلَ ورقةٍ خضراءَ صغيرة،
تمـدّدت وازدهرتْ ببطء مثلَ زهرةٍ
لم تَتَفـتح بعدُ، أزدهرَ جسدُها محاطا ً بالبردِ
في هواءِ الفجْر النقيّ.
مِثـْل الأقمارِ ارتَفعت رُكبتها
لتتصل بالوِركين أطرافَ غيومٍ،
إذ أنسَحبَ الظلُ الشاحب ِ للسيقان،
بينما توتّرتْ القدمان وتَحوّلت ضوءا.
وانـْتَعشت المفاصِلُ مثل حنجرةِ
شِرّيبين.
وفي كأسِ الحوضِ أستقرّ الجَسدُ
مِثل ثَمرةٍ طريّة في يد طفلٍ.
في كؤيسِ السّرةِ الضّيق حلّ
كلّ ظلام هذه الحياة البهيجة.
وتحت السّرة ارتفعت الموجة ُ الصغيرة
مضيئة ً وجرت قوية ً بحثا عن الحوضِ،
حيث ثمة خرير هادئ.
غير أنّ العانة مثلَ غابةٍ من أشجارِ البتولا
استلقت دافئة ً فارغة ً لا ظلال لها وبلا حمايةٍ.
والآن جاءَ ميزانُ الكتفين الخفيف
مستقرا ًعلى الجسد القويم،
الذي نهضَ من وسط الوركينِ، مثل نافورة ٍ
وتوارى عند الذراعين لينتهي
في منحدر الشعر المليء.
بعدها تحرك الوجـْهُ بطيئا ً قادماً
من الظلامِ المُختزِل لانحداره
لينتصبَ فخوراً واضحا ومعتدلا،
بعده جاء الفكُ مشدودا.
الآن وبعد أن استطالتْ الرقبة ُ مثل إشعاعٍ
تشبها بساق زهرة، تستقر فيه العصارة،
أمتدتْ ذراعان مثل أعناقِ
بجع تبحث عن الساحل.
بعد ذاك جاءَ في فجر هذا الجسد
النفسُ الأول مثل ريح الصباح.
وفي شبكةِ الشرايينِ الرقيقة
كان هناك ثمة همس، يُبشّر بأنسيالِ الدم
في مناطقه العميقة.
إذ ذاك أزدادت هذه الرياح عصفا
وأنصبت بكلِ قوتها في الأثداء الشابةِ
وملأتها حتى صارت مثل شِراعَين تملأهما الريح
تجذب الشابات الطائشات الى الساحل.
هكذا هبطتْ الإلهة.
المتعجلة، تتبعها
عند الساحلِ الجديد طيلة الصباح
الزهورُ وعيدانُ القصب ِدافئة ًومضطربة ً.
أما الإلهة فقد واصلتْ السير والركض.
ولكنْ عند حلول الظهيرة في أشدّ ساعاتها قسوة ً
أنتفضَ البحرُ من جديد وقذف
دلفينا في الموقع ذاته،
ميتا ً وأحمر، جريحا.
انقرهنا لقراءة النسخة الشعرية للنص الأصلي
وهنا صورة طبق الأصلللنسخة النثرية التي نشرت في Neue Rundschau:
نشكر ادارة المكتبة الوطنية في باريس بالسماح لنا،بعد أخذ ورد لأن النسخة التي لديهمكانت متهرئة، بتصوير القصائد من مجلة Neue Rundschau .
التعليقات
شكرا
نصيّر -ليس فقط نقرأ ترجمة جميلة لكن تاريخ القصيدة ايضا مفيد ومحفزة على التفكير,, شاعر مثل ريلكه يكتب قصيد بشكل وبعدين يعيد كتابتها بشكل آخر...