إعادة النظر في الطرق الصوفية خارج الاعتقاد والتقديس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يرى الباحث أن الطرق الصوفية أضحت ظاهرة اجتماعية لا يمكن إهمالها، ففضلاً عن أهميتها، فهي لا تزال حقلاً بكراً أمام الدراسات الاجتماعية عامة والسياسية خاصة، وينتهي من دراسته إلى نتائج محددة أولها أن التنظيم الصوفي بشقيه الإداري والروحي ينتج قيماً سياسية بعضها إيجابي مثل التسامح والتماسك والتعاون والاستمرارية وبعضها سلبي لا يشجع على نشوء ثقافة الديمقراطية مثل الخضوع والطاعة العمياء والجمود والإكراه، فيما تعزز كاريزما الشيخ قيمة التسلط. فالشيخ قائد مطاع يتكئ على شرعية مستمدة من الانتساب إلى آل البيت أو الأولياء الكبار مثلما يعتقد المتصوفة، وهو يرث المشيخة من ذويه، ويمثل رأساً لتنظيم هو خليط تام من جماعات مختلفة من حيث التعامل والاختيار والتجانس أو النوع والسن. والشيخ هو الرمز الأساسي الذي يتمحور حوله التنظيم الصوفي باعتباره تنظيماً يقوم على الزعامة الملهمة وليس تنظيما إقطاعياً أو نفعياً يقوم على ازدواج المنافع المشتركة بين أفراده ومساهمتهم جميعاً في اتخاذ القرارات الخاصة به بشكل منطقي ورشيد، كما أنه ليس تنظيماً اختصاصياً يركز على التخصص المهني أو العلمي. وهذا الشكل التنظيمي الذي اتخذته الطرق الصوفية وإن كان قد أدى إلى خلق قيم سياسية سلبية فإنه يعتبر العامل الأساسي الذي أدى إلى استمرار وجودها على قيد الحياة كل هذه القرون.
أما النتيجة الثانية فهي على رغم من أن الفكر الصوفي الذي يقوم على أركان أربعة هي المعرفة اللدنية والزهد والولاية والمحبة ينتج قيماً سياسية متعارضة بعضها إيجابي مثل الانتماء والانخراط والاستقرار والتسامح والتعاون والتماسك، وقيما سلبية مثل الإكراه والصراع والخضوع والتسلط والانعزال إلا أن الممارسة الحياتية تسير في اتجاه يرفع من شأن القيم السلبية على حساب القيم الإيجابية، فتاريخ علاقة المتصوفة بالسلطة السياسية يشير إلى أنهم داهنوها وخضعوا لها أكثر مما عارضوها أو اتخذوا موقفاً حاسماً ضد فسادها وطغيانها. وإذا كان بعض مشايخ الصوفية قد أغضبهم ظلم السلاطين للرعية، وسعوا لمقاومة الجور وانتصروا للجماهير فإن هذا لم يحدث سوى مرات نادرة، وكان يتم بشكل فردي ومتقطع، ولم يكن أبداً يمثل سياسة متواصلة، تنم عن إصرار على انتزاع الحقوق، والتعامل مع الدين بوصفه ثورة على الظلم والتجبر والفساد.
ويرى الباحث، في النتيجة الثالثة لدراسته، أن أساليب التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر رغم اختلاف ظروف النشأة والمؤهلات الشخصية للشيخ والقدرة الاقتصادية والدقة التنظيمية والانتشار الجغرافي والقوى العددية لمريدي الطريقة، ومن ثم تتشابه هذه الطرق من حيث الثقافة السياسية لأفرادها. فالمعين الذي ينهل منه الجميع واحد وهو الأوراد والأذكار والطقوس وهو إن اختلف في شكله العام إلا أن جوهره متطابق، كما أن الدور الذي يلعبه الشيخ في تربية مريديه لا يختلف من طريقة إلى أخرى. ومع تماهي وانخراط المتصوفين في المجتمع فإن وجد اختلاف في الثقافة السياسية بين الطرق فإن ذلك يعود إلى نوعية المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه الطريقة وليس لطبيعة الفكر والطقوس والتنظيمات الصوفية.
ويؤكد الباحث أن الإصلاح السياسي في العالم العربي يتطلب الالتفات إلى الإصلاح الديني، فطالما استقوت الجماعات والتنظيمات التي تربط الدين بالسلطة السياسية، وتبحث في الدين الإسلامي نفسه عن سلطة تشبه الكهنوت فإن فرص إيجاد ثقافة سياسية ديمقراطية ستصبح غاية في الضعف.
ويدعو الباحث إلى إعادة النظر في الطرق الصوفية خارج الاعتقاد والتقديس بمعنى أن الطرقية لم تعد شيئاً مقدساً وإنما ظاهرة اجتماعية شعبية حتى ولو أطلق عليها دين الحرافيش أو الدين الشعبي مثلما يحلو للبعض أن يصفها. وهذا التقييم الجديد للطرقية لابد أن يقوم على الدراسة المتعمقة والبحث الجاد انطلاقاً من شيئين رئيسيين: الأول هو ارتباط الطرق الصوفية بالمزاج الديني المصري وكون التربة الاجتماعية المصرية مهيأة إلى حد كبير لتقبلها، والثاني هو الانتفاع المادي لأرباب التصوف من أسر المشايخ والقائمين على الأضرحة، وهو الأمر الذي وصل إلى حد ادعاء البعض بوجود مقابر للأولياء في أماكن معينة من أجل استغلال الميل الديني لدى الناس في حثهم على دفع النذور والصدقات.
ثم ينتهي إلى نتيجة مهمة يقول فيها إن إمعان النظر فيما ورد بين دفتي هذا الكتاب إلى القول إن الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تعزيز التصوف في وجه الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، محكوم عليها بالفشل. وربما يغير الأمريكان وجهة نظرهم، حال قراءة متعمقة لما ينتجه الفكر الصوفي من ثقافة سياسية من ناحية، والإطلاع على تاريخ الطرق الصوفية في آسيا وأفريقيا من جهة ثانية، وربما يمضون في استراتيجيتهم، لكن الثابت في كل الأحوال أن الصوفية شكلت على مدار التاريخ أحد تجليات الإسلام في أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية، وستظل تزاول هذا التجلي في المستقبل المنظور.
وقد أرفق الباحث على الغلاف الأخير للكتاب شهادات لعدد من الباحثين والمفكرين العرب والأجانب حول الكتاب، حيث وصف جاسون براونللي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تكساس الأمريكية الكتاب بأنه إضافة متميزة في علم السياسة عامة، لأنه يسد نقصا نجم عن تجاهل نسبي للأدوار السياسية للتنظيمات والحركات الإسلامية الدعوية والروحية. وأنه عمل رائد أضاء جوانب مظلمة عن الروابط العميقة والقوية بين الطرق الصوفية والسلطات المصرية المتعاقبة، واستطاع عبر بناء نظري ومسح ميداني دقيق أن يقدم إسهاما حيويا في الأدبيات السياسية عموما، ولاسيما تلك التي تهتم بأيديولوجيات الحركات الإسلامية.
وأكد براونللي أن قراءة هذا الكتاب تبقى ضرورية للدارسين المعنيين بالحركات الدينية، وبالتطور الديمقراطي للمجتمع المصري.
وأكد عالم الاجتماع الفرنسي آلان روسيون أنه وجد في الكتاب ما أفاده في دراسته للمجتمع المصري وقال الكتاب قربني أكثر من فهم تيار ديني لم يدرس كما ينبغي من الباحثين في علمي السياسة والاجتماع وهو الطرق الصوفية، وجعلني ازداد اقتناعا بأن الإصلاح السياسي في العالم العربي برمته يجب أن يترافق مع الإصلاح الديني.
ويقول عالم الاجتماع المصري علي فهمي مع خبرة في دراسات الدين الشعبي تكاد تناهز نصف قرن أنتهي، بقدر فرض من الموضوعية والدقة المنهجية، أن هذه الدراسة هي الأكثر تميزا بين مثيلاتها في مصر، وأن هذا التميز أوضح في الجوانب النظرية بالغة الثراء.
أما فوليا أتاكان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة يلدز في تركيا فتقول يتعامل هذا الكتاب مع قضية حيوية بالنسبة لمصر، ويقدم تحليلا مهما للعلاقة بين الطرق الصوفية والسياسة، وهو كتاب نافذ البصيرة وملهم.
عنوان الكتاب: التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر
المؤلف: د. عمار علي حسن
الناشر: دار العين ـ القاهرة
تاريخ النشر: الطبعة الأولى 2009
عدد الصفحات: 688 من القطع فوق المتوسط