ثقافات

ملائكة الجنوب: خرائط أخرى لبلاد متخيلة اسمها العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حمزة عليوي: "ليس غيرك من سيروي القصة" جملة رئيسة ظلّ صداها يتردد طوال الصفحات الأربعمائة ويزيد من رواية "نجم والي" الأخيرة "ملائكة الجنوب- دار كليم- أبو ظبي". قالها الجد "والي" لحفيده الراوي "أو هارون" في مطلع طفولته الباكرة مصحوبةً بتكتّم شديد عن ذكر الوقائع أو التفاصيل التي لم يحن، آنذاك، بقناعة الجد، أوانها، كان على الراوي أن ينتظر خمسين عاماً ليصل إلى زمن القصة ومكانها. ثمّ سمعناها من "ملائكة" و"نور أو الملاك" على السّواء، وحده "نعيم" ثالث الاستثنائيين من "الملائكة" سكت عنها؛ ربما لأنه مُخترع آخر لحكاياتٍ مُتخيَّلة تتّخذُ من "عماريا" فضاءً لها، وهو يُريدُ، بالضرورة، أن يكون كاتبها، هو وليس غيره، أو لأنه ببساطة غادر البلاد مبكراً في "رحلةٍ" ستتحوّل لاحقاً إلى منفىً أبدي، لأجله؛ ربما، سمح الراوي لنفسه أن يستعين بما كتبه "نعيم" عن المدينة في إنجاز قصته وإخراجها بالصورة التي يريدها منه الجميع، بل أنه لم يتردد في التنصيص على حق "نعيم" في كتابة الرواية. هكذا كتب في مقدمتها، أن الكتابين الثاني والثالث هما من تأليف "نعيم عباس". ولكن إلى أيّ قصةٍ عاد الراوي من منفاه الطويل ليسردها؟ قصته المُدمجة ضمناً مع غيرها، وقد وجد نفسه يسأل، بحثاً عن موقعه في القصة، على غرار حفيدة "غوته" قبل انتحارها "حكايتي وحكايات الاخرين، متى يلتقيان؟"، أم قصة "ملائكة" المرأة العراقية ذات الإرث الإثيني المُلتبس "الأب يهودي عراقي، والأم طبيبة شيوعية بأصول مسيحية غير خافية!!" ملائكة المُصرّة، كما أبيها، على عراقيتها برغم التهجير القسري لطائفتها والمطاردات غير المنتهية لها، ولكنها، كذلك، ملائكة بعشقها الاستثنائي لـ"نعيم" و"نور" على السّواء وبالقدر ذاته، ربما الأحرى أن نتحدّث عن "هارون" وقد عاد ليكتب قصة "البلاد" في تدهورها المُريع على مدى نصف قرن؟!
الأصل أن "ملائكة الجنوب" قصة حُب تجمع على نحوٍ استثنائي، خلافاً للسائد، أطرافاً ثلاثة تمثل، كل على حدة، هويات إثينية مختلفة ومتعارضة: ملائكة يهودية، نعيم مسلم لام صابئية، ونور صابئي الأب والأم، هؤلاء الثلاثة ينشئون في "عماريا" جنوب العراق، ويكبرون فيها ليواجهوا لاحقا أقدارا مأساوية متشابهة: النفي لنعيم "فيما بعد سنرى ان الراوي سيلقى المصير ذاته ولكن بعد أربع وعشرين عاما من رحيل الأول!!"، والملاحقة والسجن غير المعلن بالضرورة، أو غير المتعين لنور وملائكة على السواء. لا احد ينجو من لعنة موت المدينة واندثارها سوى القوى التي دفعت بالناس، المدينة، وبالتأكيد البلاد كلها، بقوة قاهرة، إلى حتفهم جميعاً.
تنفتح الرواية على مشهد الراوي العائد من منفاه، وهو يدخل فجرا إلى المقبرة البريطانية مقلدا جده كبير البستنجية قبل خمسين عاما عندما كان يعمل مع"الصاحب" الانكليزي مستر "اليوت" المسؤول في وحدة "النومانس لاند" المختصة ببناء المقابر الملكية للضباط والجنود الانكليز ممن يقتلون هناك، فرقا عن أخريات لا تبتعد عنها كثيرا، لكنها اقل منها شانا بكثير، يُدفن فيها الجنود "الكركه" من أبناء المستعمرات البعيدة. وفي المقابل، ثمّة عودة أخرى للمدينة حرصت الرواية كثيرا على إخفاء تفاصيلها، ولولا الخاتمة المكتوبة بقصد فض الاشتباكات السردية الكثيرة والمتداخلة ببعض، ما كنا لنعرف الدلالة الرمزية العالية لعودة الملاك "نور" لمدينته بعد ثلاثة عقود من التخفي والسجن. الغريب ان العودتين تجعلان من المقبرة منطلقا رئيسا لهما. يذهب الراوي إلى المقبرة بحثاً عن أرشيف قصته الضائع، هناك تحت الصليب كتب عنوانها "ملائكة الجنوب"، بينما لا يجد الملاك مكاناً آخر في المدينة يأوي إليه سوى المقبرة متخذا من البيت القديم هناك سكنا له. إذن، للمقبرة حضور مركزي يطغى على أهميتها كمكان رمزي فاعل أفادت منه الرواية كثيراً عندما وضعته في تعارض زمني بالغ التعقيد مع دلالة العنوان الطاغية. زمنياً تبدأ الرواية بعد أشهر من احتلال البلاد وسقوط نظام البعث، وهو زمن مُختار بعناية بالغة. إنه ببساطة زمن البدايات مثلما هو زمن النهايات المُدمّرة: زمن المُحتل كما هو زمن البلاد الناهضة من حُطامها، زمن الضحية بصوره العديدة، وربما المختلفة، في مقابل زمن الجلاد الآخر. وهو، في النهاية، الزمن الحقيقي لرواية الحكاية. وثمّة أزمنة أخرى تتفرّع منها، أو لا تبتعد كثيراً عنها، في طليعتها زمن المدينة بدلالته التاريخية الراكزة في مُخيّبة شخصيات الرواية، إنها "عماريا" المُندثرة بإرثها الثقافي المختلط والموزّع بالتساوي بين طوائفها الرئيسة: المسلمين واليهود والصبّة مُنتجةً صورةً مُناقضة كلياً لـ"العمارة" المدينة الحالية، وقد عاد إليها الجميع: الضحيّة بدلالتيه: الخارج سهواً من السجن، والعائد من المنفى بقصد كتابة حكاية الجميع، والجلاد العائد إليها بقوة قاهرة، ثمّ إنها، من جانبٍ آخر، النقيض الجذري لـ"صور المدينة" المعروضة بالتساوي بين المحتل البريطاني و"فوزي طاعون" جلاد ألأمس والحاضر، وربما المستقبل أيضاً، في أرشيف "ذاكرة المدينة" المُقام في مكان استثنائي، هو الآخر، يخص الجميع، هو "دار الاستراحة" المُشيّد بعهد الاحتلال البريطاني الأول للمدينة، ليتحوّل، بعدها، أو بسببها، إلى مكان سلطوي بامتيازٍ خاص، بعد أن اتّخذته الجمهوريات المتعاقبة مكاناً تحكم من خلاله المدينة. ولا عجب، إذن، أن تُعطيه الرواية مكانةً خاصةً في عهدي المدينة: عماريا المندثرة والعمارة الباحثة عن هويّتها. في العهد الأول نسمع بوضوحٍ كافٍ خطبة الوداع للصاحب الإنكليزي مستر "إليوت" قُبيل سنواتٍ قليلة من جلاء بريطانيا من العراق. إنه عام (1956) المُقترن بثلاثة وقائع رئيسة اعتمدت عليها الرواية غالباً في صياغاتها الزمنية المُعقّدة. في البدء هناك حرب السويس وبضمنها، أو بسببها، تشهد المدينة الهجرة الجماعية الأخيرة لليهود من العراق، ثمّ ولادة "هارون والي" راوي الحكاية (ولا أدري لماذا لا أقول إنها سنة ولادة الكاتب نجم والي أيضاًَ!!)، ولكن يبقى الحدث الأهم، رمزياً على الأقل، هو انهيار صيغة المدينة ثمّ اندثارها لاحقاً. ولكن حتى هذا الأمر لا يحدث بعيداً عن دلالة المقبرة، فإن اندثار المدينة تسبقه إزالة المقابر الثلاث المتجاورة والتي نشأت مع المدينة تدريجياً. وبخلافه يواجهنا العهد الثاني بسيلٍ من الأكاذيب يُلقيها علناً المحتل أيضاً المتمثّل بالضابط ذي الملابس المدنية. وفي العهدين ثمّة صيغة مشتركة تقفز، ربما، على مظاهر الخلاف الواضحة في لحظتين يُلقيهما في زمنين متباعدين ضابطان ينتميان إلى وحدة النومانس لاند. ولا بأس طالما انها تُشير، في الحالتين، إلى ملامسة أخرى لدلالة المقبرة في الرواية، بملاحظة انها في الاولى تُفيد ضياع هوية الفرد (لنقل انه نعيم الراوي المفترض للحكاية الأصل!!)، وفي المقابل تضعنا الثانية إزاء الحقيقة الكلية الأخيرة، ان البلاد كلها قد دخلت في صيغة " النومانس لاند "، أي صيغة فقدان الهوية، وهي اللحظة الأخيرة التي تتكشف عندها اشتباكات السرد والدمج الشيق، وربما الفريد، بين صيغتي الزمان والمكان. انها لحظة التذكر بالنسبة للراوي، مثلما هي لحظة استعادة القدرة على النقش بالنسبة لنور، وهي، كذلك، لحظة استعادة الصورة، صورة المدينة، صورة البلاد، صورة
" ملائكة " كما تبدت له في الحلم قبل ان يراها، بعد ان فقد القدرة على تخيلها في السجن. الأحرى، ربما، ان نقول انها صورة واحدة منظور إليها من عيون شتى، وقد ترك لها الراوي الحرية الكاملة ان تختار المنور الملائم لها.
في " ملائكة الجنوب " يراكم " والي " تجربته ككاتب منفى بامتياز فريد. فهو المشبع بتجربة النفي المبثوثة في رواياته السابقة، نجده في هذه الرواية يُفيد كثيرا من دلالة النفي ليقترب عبرها من صورة البلاد في الداخل. هذه الصورة الحاضرة بكثافة فريدة في روايته النموذج " صورة يوسف "، وقد سعى غير كاتب عراقي على تقليدها، ان لم نقل إلى نسخ فقرات عديدة منها، تعود لتحضر في " ملائكة الجنوب " عبر صيغة النقش - الصورة وبالتوازي مع صيغة الكتابة - الحكاية. هاتان الصيغتان عملتا بتظافر شيق على استحضار المتن اليهودي في العراق، وبالذات المدونات السردية المبثوثة عميقا في تراث البلاد وذاكرتها. ولقد أظهرت الرواية نجاحا فائقا في استثمار الاسم اليهودي لـ" عماريا " التي تأخذ بالاندثار بعد تهجير اليهود ومقابلتها ب" العمارة الفاقدة لهويتها، او الباحثة عنها دون جدوى، ثم في تعاملها مع دلالة النبي الكاتب " العزيز "، واتخاذه أداة للنظر إلى صراع الهويات في سعيها إلى امتلاك صفة " الكاتب " بحيازتها سدانة " العزيز " ؛ ولا باس طالما ان الجميع يريد ان يكتب حكايته.

كاتب من العراق

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف