حارسةُ الأقمار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في المُرج، بدلَ عناقيد الهدوء المُتهدلة على أطراف الأفضية، هرجٌ ومرجٌ ولغطٌ. من أينَ تجيءُ كلُّ هذه الضجةُ؟ لا شيءَ أرى، لا شيءَ غيرُعاديّ يُرى، سوى تلك (الفزّاعة) (1) المُنتصبةِ وسط الحقل المترامي على مديات البصر.أشعرُ أنّ الضجيجَ آتٍ من كلّ مكان. والفضاءُ من حولي، من كلّ الجهات، فارغٌ لا يتنفسُ فيه مخلوقٌ ما. حتى الطيورُ لا وجودَ لها، لكنّ وتائر فوضى هذه الموسيقى الهادرة لا تنقطعُ ولا تخفتُ. فهل أعودُ القهقرى وأتراجعُ؟ لا، قلتُ مع نفسي، ربّما جئتُ لغرض ما، وقد نسيته، ولا بدّ أنْ أتذكره بعد وهلة، هكذا صرتُ أنسى بسرعة ثمّ تستعيدُ ذاكرتي صحوتها ويتوضحُ الشيءُ المنسيّ، ينبغي،إذاً، أنْ أتقدّمَ تجاه (الفزاعة) التي لم يكنْ لها وجهٌ، لكنها مثلَ البشر تقف على رجلين. ترتدي ثوباً بنيّاً، ولها رأسٌ مدورٌ كبيرٌ ورقبةٌ. لا وجهَ لها، ولا عينين، أو أنفَ أو فمَ أو اُذنين. والرقبةُ خشبٌ يرفعُ الرأسَ المُغطّى بقبعة قَشّ(2).وكلما اقتربتُ منها علا الضجيجُ. هديرٌ ضخمٌ يصيبُ رأسي بالصداع. ويهزّ أرجاء الحقل الأخضر المكسوّ بالأغراس الخضراء اليانعة، المزدحمة بآلاف آلاف من الأزاهر الصفر. حين انحنيتُ على غرس وتقريته بيدي عرفتُ أنه شجيرة شمّام. وقد ظهرت تحت الزهرات الذابلات الصفر حبات كروية زمردية اللون، إذاً ثمة َ منْ يقف وراء هذا الضجيج العالي كي يُبعدَ كلّ متطفل ذا فضول،عن حقله الذي كان في مبتدأ العطاء، من الطير والدواب. لكنْ ما الذي جاء بي الى هنا وأيّ جنون؟ وأسألُ نفسي ثانية ً: أأرجعُ أدراجي بعد أن تلقفني هذا المدى الأخضر المُجرّدُ من أيّما حياة سوى هذا الخيال المنتصب في منتصفه خللَ هدير الموسيقى الذي يصمّ الآذان؟ وعلى الرغم من تفاقم الإحباط فيّ الّا أني مُمسكٌ بزمامي في مُكنتي متابعة السير، وذاكرتي ممسوخةٌ معطلةٌ مُتهتكة َ التصميم،تركتني وحيداً اُواجه مصيراً مجهولاً. في هذه الحالة يجبُ أنْ اُواصلَ طريقي. وكلما اقتربتُ من (الفزّاعة) تضاعف صخبُ الموسيقى، الفضاءُ الساخنُ مُضاءً بنور الظهيرة، وهذا الكائنُ العاطل عن أيّما احساس يفتحُ ذراعيه كما لو كان يرومُ عناقي. عرتني دوخةٌ غير متوقعة، كدتُ أتهافت في مكاني، واضطررتُ الى تغطية اُذنيّ بكفيّ، وأنا واقفٌ لصقَ هذا الجرم الساكن المعبّأ باللامبالاة، كان صوتُ الموسيقى المنبعث من تحته يُحرّكُ أطرافَ ثوبه كما لوأنّه ريحٌ تهبّ من أيّ مكان (3). بينما الهواءُ ساكن قائظٌ. كان الخيالُ وحيداً يائساً يشكو من الوحدة وكأني به يشتكي اليّ من هذا الضجيج الهائل، وربّما بدأ يعترف أنْ لا نفعَ فيه، مثل البشر المكتظين بالضجيج من دون فائدة/ جعجعةٌ بلا طحن/ (4) الموسيقى غير متناسقةٌ، هدير طبل، زعيق بوق، واكرديون، ومزمار، ودف، وبيانو. ضجةٌ عبثيّة عشوائية غرضها افزاع الطير والحيوات التي تُلحقُ الضرر بمحصول الشمّام، انحنيتُ أمام صديقي، رفعتٌ حاشية ثوبه، فإذا بجهاز مستطيل اُخفيَ تحته، اذاً ثمة َ عقلٌ رصينٌ وراء هذا الإبتكار الشيطاني، والى جانب الجهاز سماعةٌ، وسماعاتٌ اُخرُ موزعة في أرجاء البستان.فتبعثُ كلّها أصواتاً تشبه دوي المدافع، فأيّ مخلوق يجرؤ على الإقتراب وأيّ عقل اخترع هذه الوسيلة؟ حيثُ يستمدّ الجهازُ طاقته من ضوء الشمس وتخزن للمواصلة ليلاً ونهاراً من دون انقطاع. وإذ التفتُ حولي أرى أوراق شجيرات الحقل تميس وتموج مثل بحر من الزمرد ينفرش على مديات البصر، يُحرّكها دويّ الموسيقى. وعرفتُ أنّ كائنات هذا المدى الأخضر تعتمد على المطر. وصحت ذاكرتي من سباتها وتذكرتُ ايام طفولتي الغاربة في قرية (غرة) التابعة لقضاء طوز(5). كان عمي يحرثُ مساحة من الأرض بعد أن يرمي عليها بذور الشمّام والقثاء، يستغرق العملُ قرابة شهر، ثمّ يتركها للمطر أذا تكرّمتِ السماءُ به في ذلك الموسم. يعود اليها في مبتدأ الصيف حيثُ يمتدّ أمامنا فضاءٌ أخضرُ يكسوه غطاءٌ أصفر من الزهرات اليانعة واليابسة، وتحت الثانية حباتٌ كروية وأصابع ناعمة مختلفة الأحجام،زمردية مخملية الغلاف، في منتصف يونيو ينضج المحصول، وتتخلل هذا الفضاء الزمردي أقمار صفر وحباتٌ طرية خضرٌ، ويستمر البستان في العطاء حتى نهاية اكتوبر، كان للطير وحيوات البرية والناس حصة ٌفيه. بينما سيُحرم الكائن الحيّ من نعم هذا الحقل. رنوتُ الى وجه (الفزاعة) التي لا وجهَ لها، المجرّد من أيّ احساس أو هاجس. كان الرأسُ كرةً من القش المضغوط مكسوةً بقماش تغير لونه، فيما كان طرفا كميها سائبتين، مددتُ يدي أبحثُ عن كفها لإصافحها فلم تكن لها يدُ. ثمّ مضيت خارج الحقل تاركاً اياها ورائي، مغروسةً في الأرض بلا حول ولا حيلة. انّها هي نفسها سواءً أنظرتَ اليها من الأمام أم من الخلف،. فمثلما استقبلتني ودّعتني. حين صرتُ بعيداً خفّ صوتُ الموسيقى وخبا. وغُصتُ في مديات بعيدة، ولا أتذكرُ الى أين مضيتُ، لكني عُدتُ بعد وقت الى ذا المكان، في هذه المرة كان مكتظاً بالعمال، يقطفون ما نضج من هذه الأقمار يضعونه في صناديق خشب ثمّ تحمل الى شاحنة طويلة واقفة لصق كوخ طينيّ بُنيَ حديثاً. لم أجرؤ على دخول البستان، ولم يُضيفني أحدٌ الى تناول واحد من هذه الأقمار العسلية المذاق. كما أنّ الخيال الذي كان يتوسط الحقل منكفيء يوشك على السقوط وقد بليت كسوته، وانقطع من تحته طوفانُ الموسيقى الهادر. غبئذٍ تذكرتُ لمَ جئتُ الى هنا، فثمة حلم أهوج أشبه بمصادفة عابرة رماني الى هنا (6). حين صحوتُ من قيلولة الظهيرة، ولمّا يزلْ صدري ممتلئاً برائحة الشمام الطيبة، كان شريطٌ من الموسيقى والأغاني بعدة لغاتٍ يترامى الى سمعي من الحديقة المجاورة لشقتنا،حيثُ يُقامُ مهرجان، وما أكثرَ المهرجانات التي تصنع الفرح للناس.وتتسرب الينا أغانٍ تركية،ايرانية،اسبانية،سريانية، تقدّمها الجاليات القاطنة في منطقتنا، وفاجأني ابني أنه جلب ثلاثَ حبات من الشمّام التركي ذات المذاق العسلي والرائحة الزاكية التي ذكرّتني بأيام ماضينا الآفلة في مدائننا الجميلة..وافتقدتً الأغاي العربية، تُرى لمَ لمْ تشارك الجاليةُ العربية في هذا العرس الصيفي، ربّما لأنها مشغولة بقضايا اُخرى لاتلامسُ الفن ولا تمتّ اليه بصلة...
هوامش:
1- أيا أيّها العابرُ الى اللامكان، فهل رأسُكَ مثلي مخزنٌ للظلام؟/ أنا كذبةٌ جرداءُ من نسلٍ مختمر في أقبية المكر، يتحاشاني كلُّ حيّ ولا يغشى مكاني، يتقمّصني سرٌّ فوقَ بديهة الطير والدواب، جاء بي صانعي من مخزن الحطب، غُرستُ هنا دميةً من خشب، ولي ظلٌّ يكرهني ويلعنني من مطلع الفجر حتى حلول الغبس.
2- سمّرني وهمّشني صاحبُ الحقل هنا، خيالاً تهزني الريحُ وفقَ مشيئتها، وحيداً رُميتُ في العراء أصمّ أبكمَ وكلّ حياتي عمىً. وحين يعنّ أوانُ الظلام انكمشّ على ذاتي وارتعشُ من الرعب. كنتُ في سابق عهدي بعضاً من شجرة، تحطّ عليّ العصافيرُ والفراشات، تميسُ بي النسماتُ العذابُ، لكني هنا حارسٌ خائفٌ لا يخافني أحد.
3- هذه الضجة تخرج من تحت ثوبي، طوفانَ هدير، ومن حسن حظي أنْ ليس عندي حواس، والّا عراني جنون أبدي. وحين جئتني شُغفتُ بك، فما اقترب مني أحدٌ مثلك. أنتَ عابرٌ الى مبتغاك، لا شأنَ لكَ بما يجري هنا.
4- أقلتَ: جعجعة بلا طحن، فليس لديّ ما يُطحنُ، لقد رُكِبَ في داخلي هذا الجهاز، كما لو كان جرحاً من الجمرات، تُصلي كينونتي، وتجرحُ كلّ حياة حواليَ.. 5- أفِلتْ غرّةُ، مُسحتْ من الخارطة، تناثر أهلها الناجون من المذابح شذرَ مذر، لكنها بقيتْ هنا، في ذاكرتي ملتفةً بنسغ الخلود..هي التي ضيّفت قامتي الذابلة، أرضعتني فرحَ الطفولة وقت المعسرة، علمتني أنّ الفصولَ خيولٌ تخب في مسالك الفقر والغمر والصبر، كنتُ فيها خارج الزمن، أسبتُ في غيبوبة الغياب، نسي الأهلون في ضجيج المدينة، أغنى مدينة في الكون، طفلهم يتمرّغ في سديم الفاقة معزولاً مهزولاً مُقمطاً بالقمل والذباب، هناك،عندهم، رُميتُ الى مرضعة عوراء تُضيّفها الفاقةُ والمرض، ورثتُ منها أدواء أعاني منها حتى الساعة، غرةُ،هذه الهالةُ المسوّرة شغافَ قلبي، هي الآنَ تفاحة ٌبارقة،جمرة ٌ حارقة، مُسحتْ من الخارطة..محتها سنابكُ خيل المغول.
6- الحلمُ حياةٌ اُخرى، جارةٌ تلامسُ حياة الواقع، فما أسهلَ الإنتقالَ من الواحدة الى الاُخرى؛ من دون وثائق أو جوازات سفر. يقولُ صديقٌ: الموتُ حلمٌ أبديّ، يُخلّدُ فيه الكائنُ بعد فناء الجسد، ثمة َيحظى بكلّ ما يتمنى، ما حُرّم عليه في الحياة الدنيا..وأعظمُ ما يحظى به الحريةُ التي لا أولَ لها ولا آخر...