جورج سيميل: الغريب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة خالدة حامد: إن كان التجوال يعني التحرر من أية نقطة في المكان، وبذا يكون النقيض المفهومي للتثبت عند هكذا نقطة، لذا فان الشكل السوسيولوجي "الغريب" يمثل، إن صح التعبير، اتحاد هاتين السمتين. ومع ذلك تكشف هذه الظاهرة أيضاً ان العلاقات المكانية هي الشرط الوحيد من ناحية، والرمز من ناحية أخرى، للعلاقات الإنسانية. وبذا فان الغريب، بالمعنى الذي نناقشه هنا، لا بالمعنى المطروح غالباً في الماضي، بوصفه الجوّال الذي ياتي اليوم ويذهب غداً، بل بوصفه شخصاً يأتي اليوم ويبقى للغد الجوال المحتمل، إن جاز لنا التعبير؛ فعلى الرغم من انه لم يتحرك، لكنه لم يتغلب تماماً على حرية المجيء والذهاب. انه مثبت داخل جماعة مكانية معينة أو داخل جماعة حدودها تشابه الحدود المكانية. الا ان موقعه في هذه المجموعة يتحدد، أساساً، بحقيقة انه لم ينتم لها منذ البداية، أي انه يُصدِّر خواصه لها مع أنه لم ـ ولا يقدر ـ أن ينبع من الجماعة نفسها.
يكون اتحاد الاقتراب والنأي الذي تتضمنه أية علاقة إنسانية منتظماً ـ في ظاهرة الغريب ـ بطريقة يمكن صياغتها، بإيجاز، بالقول انه في العلاقة معه، تعني المسافة ان الشخص، الذي يكون على مقربة وبعيداً معاً. ويعني التغريب أن الشخص، الذي يكون بعيداً، هو قريب واقعاً. فإن تكون غريباً تكن في علاقة إيجابية جداً من الناحية الطبيعية؛ إنها الشكل المحدد للتفاعل. فسكان سيريوس Sirius ليسوا غرباء بالنسبة لنا، على الأقل ضمن أي معنى اجتماعي مرتبط منطقياً بهذا السياق؛ إنهم غير موجودين بالنسبة لنا إطلاقاً، إنهم ما وراء القرب والنأي. الغريب، مثل الفقير ومثل " أعداء باطنيين " مختلفين، إنه عنصر في الجماعة نفسها ويشتمل موقعه، بوصفه عضواً كامل الأهلية، على أن يكون خارجها، ويواجهها. تشير العبارات الآتية، والقصد منها حتماً هو ان تكون شمولية، إلى الكيفية التي تتمكن بها العناصر التي تزيد المسافة والمقاومة ـ في علاقات الغريب والعلاقات التي معه ـ من توليد نمطاً من التنسيق والتفاعل المستمر.
وبدا الغريب، على طول تاريخ الاقتصاد وفي كل مكان، بصفة تاجر أو بدا التاجر بصفة غريب. وما دام الاقتصاد مكتفٍ بذاته أساساً، أو ما دام تبادل للمنتجات يحصل داخل جماعة ضيقة مكانيا فانه لا يحتاج إلى وسيط. التاجر مطلوب فقط للمنتجات التي تنشأ خارج الجماعة. وما دام الأعضاء لا يتركون الحلقة لغرض شراء هذه الضروريات ـ وفي هذه الحالة هم تجار " غرباء " في تلك المنطقة الخارجية ـ ينبغي على التاجر ان يكون غريبا طالما لا تسنح الفرصة لأي شخص آخر بان يكسب عيشه.
ثمة تعبير آخر عن هذا التكتل يكمن في موضوعية الغريب. انه غير ملتزم راديكالياً المكونات المتفردة والميول الخاصة بجماعة ما، وهو لهذا السبب يقاربهم وهو يحمل موقف " الموضوعية " إلا أن الموضوعية لا تتضمن، ببساطة، السلبية والانفصال، بل هي بنية معينة متألفة من المسافة والقرب، اللامبالاة والتورط. أشير هنا إلى مناقشة ( ترد في الفصل الذي يحمل عنوان " التفوق والخضوع" ) (8) تخص مواقع الهيمنة لشخص يعد غريباً في المجموعة، ومثالي التقليدي هنا هو الممارسة التي تقوم بها بعض المدن الإيطالية باستدعاء قضاة لها من الخارج لعدم وجود شخص محلي يخلو من ورطة المصالح العائلية أو الحزبية.
وترتبط موضوعية الغريب أيضاً بالظاهرة التي تطرقنا لها سابقاً (9)، على الرغم من أنها تصح بصورة رئيسية ( لا شمولية ) على الغريب الذي يتحرك باستمرار. هذه هي الحقيقة التي تحظى دائماً بصراحة مدهشة جداً؛ إنها الثقة التي تتخذ أحياناً طابع الاعتراف الذي ينبغي كبحه بحذر من الشخص المرتبط جداً. الموضوعية هي اللامشاركة، قطعاً ( والتي هي خارج نطاق التفاعل الذاتي والموضوعي، بالمرة ). إلا أن النوع الإيجابي والمحدد من المشاركة، مثل موضوعية الملاحظة النظرية، لا يشير إلى العقل بوصفه لوحاً أجرد tabula rasa تدمغ فيه الأشياء بصمتها، بل على العكس من ذلك، يشير إلى كامل النشاط الذي يعمل تبعاً لقوانينه الخاصة، وبالتالي [ تبعاً] لإزالة التوكيدات والانغلاقات العرضية التي تؤدي فيها الاختلافات الفردية والذاتية إلى توليد صوراً مختلفة للشيء نفسه.
يمكن تعريف الموضوعية أيضاً بأنها الحرية : الشخص الموضوعي لا يرتبط بأية التزامات يمكن ان تحابي إدراكه وفهمه وتقويمه للمعطى. ومع ذلك، ثمة الكثير من الاحتمالات الخطيرة تتضمنها الحرية التي تسمح للفرد بخبر علاقاته الوثيقة ـ والتعامل معها ـ كما لو أنه ينظر لها من منظور فوقي. ففي الانتفاضات بأنواعها كافة، يدعي الطرف المهاجَم ـ منذ البداية تماماً ـ أن التحريض جاء من الخارج عبر الجواسيس والمحرضين. وقدر تعلق الأمر بحقيقة هذه الأقوال، نقول أنها مبالغة بالدور المحدد للغريب؛ إنه حر عملياً ونظرياً، إنه يبحث عن شروط تقل فيها المحاباة ومعاييره هي أفكار أكثر عمومية وموضعية. إنه غير مرتبط، في أفعاله، بأية عادة، شفقة، حادثة سابقة. (10)
وأخيراً فإن نسبة القرب والنأي التي تمنح الغريب طابع الموضوعية تجد تعبيرها العملي أيضاً في الطبيعية الأكثر تجريداً للعلاقة به. بمعنى آخر، لا يشترك المرء بالغريب إلا بخصائص عامة محددة، في حين تكون العلاقة بأشخاص أكثر ارتباطاً عضوياً مرتكزة على الاشتراك باختلافات محددة عن سمات عامة. والحق أن السمات الشخصية نوعاً ما كلها تتبع هذه الخطاطة وبأنماط مختلفة. إنها لا تتحدد بشرط وجود سمات مشتركة معينة بين الأفراد إلى جانب الاختلافات الفردية التي تؤثر على العلاقة أو تبقى خارجها لأن السمات المشتركة ذاتها تتحدد أساساً في تأثيرها في العلاقة من خلال السؤال عما إذا كانت موجودة فقط بين المشاركين في هذه العلاقة المعينة أم لا. وبذا تكون عامة لهذه العلاقة، لكنها تكون محددة وغير قابلة للمقارنة بالنسبة لأي شيء خارجها، أو عما إذا كان المشاركون يشعرون بأن هذه السمات مشتركة بينهم لأنهم يشتركون في جماعة او نوع او البشرية عموماً. وفي حالة الخيار الثاني تصبح فاعلية السمات المشتركة متناسقة مع حجم الجماعة المؤلفة من أعضاء هم متشابهين ضمن هذا المعنى. ومع أن الصفات المشتركة تعمل كأساس توحيدي لهم، إلا أنها لا تجعل من هؤلاء الأشخاص معتمدين على أحدهم الآخر لأنها تستطيع، وبسهولة، أن تربط أي شخص بها مع أنواع الأفراد كلهم عدا أعضاء جماعته. ويتضح أن هذه أيضاً طريقة تتضمن فيها العلاقة كلاً من القرب والمسافة في الوقت نفسه. وحينما تكون الصفات المشتركة عامة فانها تضيف، إلى حرارة العلاقة المتأسسة عليها، عنصر برود؛ أي شعوراً بكون هذه العلاقة طارئة، أي أن القوى الرابطة فقدت طابعها المحدد والمركزي.
ويبدو لي انه في العلاقة مع الغريب، يكون لهذا التكتل رجحاناً استثنائياً وأساسياً على العناصر الفردية التي تقصي مع العلاقة المعينة. الغريب قريب لنا ما دمنا نشعر بوجود صفات مشتركة بيننا؛ صفات قومية او اجتماعية او مهنية او عموماً، إنسانية او الطبيعة عموماً. ويكون بعيداً عنا ما دامت الصفات المشتركة تتوسع إلى ما ورائه او ورائنا ولا تربطنا الا لأنها تربط الكثير جداً من الناس.
من السهل أن يدخل أثر الغرابة في هذا المعنى حتى في أكثر العلاقات حميمية؛ ففي مرحلة العاطفة الأولى، تعمد العلاقات الإيروتيكية إلى رفض فكرة التعميم، وبقوة، إذ يعتقد العاشقان أن ليس ثمة عشق يناظر عشقهما؛ وأن لا شيء يمكن مقارنته بالمحبوب او بالمشاعر المكنونة لذلك الشخص. وتأتي الغرابة ـ سواء أكانت سبباً أو نتيجة يصعب اتخاذ القرار بشأنها عادة ـ في اللحظة التي يختفي بها من العلاقة هذا الشعور بالتفرد. ان شكوكاً معينة تخص قيمتها، لذاتها ولهما، تحوم حول جوهر الفكرة وهي انهما في علاقتهما لا يحققان سوى المصير الإنساني؛ يعيشان خبرة حدثت ألف مرة قبلهما. ولو لم يلتق أياً منهما بشريكه مصادفة، لوجد الأهمية نفسهما في شخص آخر.
من المرجح ان شيئا من هذا الشعور لا يكون غائباً في أية علاقة، مهما كانت وثيقة، لأن ما هو مشترك بين اثنين لا يكون مشتركاً بينهما فقط مطلقاً، بل يُصّنف تحت فكرة عامة تتضمن الكثير إلى جانبها؛ الكثير من إمكانات الصفات المشتركة. وبغض النظر عن صِغَر هذه الإمكانات فإنها تصبح حقيقية، وغالباً ما ننساها نحن هنا وهناك على الرغم من انها تقحم نفسها بيننا مثل الظلال، مثل سديم يفلت من كل كلمة ملحوظة، لكن عليه ان يتحول إلى شكل متجسد صلب قبل أن ينادى عليه بحماس.
وفي بعض الحالات، وربما كلما كانت أكثر عمومية زاد عدم امكانية تخطيها، ليس سبب الغرابة هو الامور المختلفة واللامفهومة، بل ان سببها حقيقة ان التشابه والتناغم والقرب تكون مصحوبة بالشعور بانها ليست خاصة متفردة حقا لهذه العلاقة المعينة. انها شيء أكثر عمومية، شيء ينتشر بقوة بين شريكين وعدد غير محدد من الآخرين، ولهذا السبب لا تمنح العلاقة المتحققة بمفردها أية ضرورة باطنية او اقصائية. ومن ناحية أخرى، ثمة نوع من " الغرابة " يرفض الصفات المشتركة المستندة إلى شيء أكثر عمومية يعتنق المتشاركين. وربما تكون علاقة الاغريق بالبرابرة مثالاً مناسباً هنا طالما ان الحالات كلها التي يتم فيه الشعور بان الصفات العامة تحديداً هي إنسانية على وجه الخصوص وتماماً تكون غير مسموحة للآخر. الا ان الغريب هنا لا يتمتع بأي معنى ايجابي، فالعلاقة معه هي لا علاقة، انه ليست له صلة هنا، أي لا يكون عضواً في الجماعة نفسها وبدلا من ذلك، فانه بوصفه عضواً في جماعة يكون قريباً وبعيداً في الوقت نفسه بالضبط مثل صفة العلاقة التي لا تتأسس الا على صفات إنسانية مشتركة عموماً. وينشأ بين القرب والبعد توتراً معيناً حينما يؤكد الوعي ـ أي الصفة الوحيدة المشتركة عموماًـ ما هو غير مشترك. وفي حالة الشخص الذي يكون غريباً عن بلد ما، مدينة، عنصراً،.. الخ، فان عنصر اللااشتراك هذا يكون لا فردياً مرة أخرى، بل محض غرابة اصل يمكن ـ او ان تكون فعلا ـ عنصراً مشتركاً للكثير من الغرباء. ولهذا السبب لا يتم تصور الغرباء بوصفهم أفراداً حقاً، بل بصفة غرباء من نوع معين : عنصر المسافة يكون عاماً لهم بالضبط مثل عنصر القرب.
ان هذا الشكل هو أساس لمثل هذه الخاصة التي تم فيها فرض ضريبة على اليهود القروسطيين في فرانكفوريت وغيرها من الاماكن، ومع ان ضريبة Beede التي كانت تفرض على المواطن المسيحي تغيرت مع التغيرات التي طرأت على ثروته، لكن تم تثبيتها مرة أخرى تماماً على كل يهودي عازب. واعتمد هذا الأمر على حقيقة ان اليهودي له موقعه الاجتماعي بوصفه يهودياً، لا بوصفه فرداً يحمل مضامين موضوعية معينة. وكان كل مواطن اخر مالكاً لمقدار معين من الممتلكات فإن ضريبته تتبع التذبذبات التي يمر بها. الا ان اليهودي بوصفه دافعاً للضريبة كان في المقام الاول يهودياً، ولهذا فان موقفه الضريبي يتضمن عنصراً فردياً. ويبدو هذا الموقف نفسه وبقوة اكبر حالما يتم حذف هذه السمات الفردية ( على الرغم من كونها محددة بثباتية صارمة ) ويدفع الغرباء كلهم تقريباً ضريبة متساوية.
ومع أن الغريب ليس ملحقاً بالجماعة عضوياً، لكنه ما زال عضواً عضوياً فيها؛ فحياته الموحدة تتضمن الشروط المحددة لهذا العنصر. نحن فقط لا نعرف كيف نحدد الوحدة الخاصة لهذا الموقف عدا من خلال القول انه متألف من إجراءات معينة تخص القرب والمسافة. وعلى الرغم من ان بعض كمياتها تميز جميع العلاقات، يؤدي تناسب خاص وتوتر متبادل إلى توليد علاقة معينة وشكلية " بالغريب ".
* * *
لكن حينما يقدم المهاجَمون تفسيراً مزيفاً، فإنهم يفعلون ذلك بسبب ميل أولئك الموجودين في مرتبة أعلى إلى تبرئة من أهم أدنى منهم الذين ارتبطوا بهم بعلاقة وثيقة بسبب الانتفاضة. وذلك لأنه من خلال خلق وهم مفاده أن الثوار لم يكونوا المذنبين حقاً بل خضعوا لتحريض الغير وأنهم لم يبدأوا الانتفاضة حقاً فإنهم يبرئون أنفسهم بالقدر الذي ينكرون فيه الأسس الحقيقية للثورة.
عن كتاب "سوسيولوجيا جورج سيمل"