ثقافات

الماركيز دوساد: أنا فاجر ولست مجرما

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

رسائل الماركيز دو ساد إلى زوجته


عبدالله كرمون من باريس: ليست هذه أول مرة تنشر فيها مختارات من رسائل دو ساد بما فيها رسائله الخاصة إلى زوجته. إذ صدرت منها طبعة جديدة لدى دار بابل منذ عامين. كما كان جان جاك بوفير سباقا، في إطار مهمته النبيلة المتمثلة في إخراج كل التراث الإيروسي من الظلمة إلى النور، إلى نشر جزء منها منذ بداية الستينيات وتحديدا في سنة 1963، معتمدا في ذلك على المسودات التي تم العثور عليها حينها في قصر كوندي منذ آواخر الأربعينيات. وقد أعد الكتبي المعروف بيير لوغوا اليوم "خمسين رسالة إلى مدام دو ساد" ونشرها في كتاب من القطع الكبير مع صور لبعض مسوداتها. يحتوي، إضافة إلى الرسائل المعروفة، أخريات لم يسبق لها أن نشرت من قبل.
إنها إذن فرصة أخرى تتاح لنا لنعود إلى أثر هذا الرجل الإباحي الذي لم يكن قط مجرما كما يحاول أعداء الحرية لصق التهمة به، كما يحدث عادة مع كل المتمردين على الترسانة الأخلاقية المتزمتة.
لم يكن الرجل مسافرا إلى بلد بعيد بالمعنى الحرفي كي يكتب لزوجته عن أسفاره ومغامراته في بلاد عجيبة وغريبة، ولكنه مسافر بمعنى آخر أشد شرا وشراسة، لأن سفرته لا تتعدى عقر الدار ولكن الأشد فيها والأمر أنها سفرة إلى "قفص حديدي" كما كتب بنفسه. لقد زُج بالماركيز في سجن فانسان الرهيب (الصورة رقم 1). وفي زنزانة ضيقة (الصورة رقم 2) ليحمل منذ وصوله إليها سنة 1877 رقم 6 كسجين، ونجده ينعت نفسه أحيانا في بعض رسائله تهكما بالسيد 6.
كتب جيبير لولي الذي قدم للمختارات التي نشرها جان جاك بوفير قائلا: "لقد شاهدت حصن فانسان، إنه قبر ضخم ذو أبراج أربعة محصنة. تسلقت الدرج اللولبي الذي كان يُقتاد فيه المحكوم عليه. كانت الزنازين مفتوحة على مصراعيها لإثارة قلقي وإشفاقي: فهي ضيقة، مرتفعة جدا، ومرهونة للغسق الأبدي الذي ترسله عليها كوة ذات قضبان مضعفة. ففي إحدى هذه الأسطوانات الباردة، وفي خضم هولها المأتمي، دبج الماركيز دو ساد رسائله..."
لم يتوقف دو ساد برهة في وصف أجواء زنزانته عبر رسائله خلال الفترة الطويلة التي أوصد فيها. فما إن وصل إلى ظلمتها حتى بدأ يرسل بكائياته منها وعبر رسائله الأولى. مثال ذلك ما كتبه إلى زوجته في اليوم السادس من مارس/آذار 1777 بشكل حزين، متسائلا في تذمر بلا نظير: "أواه، حبيبتي العزيزة، متى سوف يوضع حد لوضعي الشنيع؟ متى سوف يتم إخراجي، يا ويحي! من القبر الذي طُمرت فيه حيا؟ ليس هناك ما يضارع هول قدري! ولا شيء يستطيع أن يصف كل ما أقاسيه، ولا أن يأتي على الكآبة التي تلهوجني والأشجان التي تفترسني! ليس لي هنا سوى دموعي وصراخي؛ لكن لا أحد يسمعها فيه...أين العهد الذي كانت فيه حبيبتي العزيزة تقاسمها معي؟ لم أعد أملك اليوم أحدا؛ يبدو أن الطبيعة، بالنسبة إلي، قد ماتت كلها! من يدري هل تتوصلين على الأقل برسائلي؟ إن عدم توصلي بجواب على آخر واحدة كتبتها لك يؤكد لي جيدا أنهم لا يسلمونها لك، وأنهم يسمحون لي بأن أكتبها لك فقط من أجل أن يسلونني عن شجني أو لأن يطلعوا على ما أفكر فيه."
صحيح أنه شرع يتماسك بمرور الزمن، وتحولت أناته الأولى إلى سخط وحنق كبيرين، الأول تجاه حماته وعائلتها والثاني تجاه السلطات الفرنسية، مع التباس مواقفه السياسية. كما أن زوجته نفسها لم تسلم من لمزه ووخزه، بل يحدث له

وأخيرا موقع خاص بالفاجر الملحد الماركيز دي ساد

كثيرا أن يغلي ويفيض سبابا وشتما. كتب لها يومه 18 أبريل/نيسان 1777 ما يلي وهو يرد على قولهم له، مستنكرا، أنهم يسجنونه من أجل مصلحته: "ألأجل مصلحة رجل نعرضه لأن يصير مجنونا، من أجل مصلحته ندمر صحته، من أجل مصلحته نغذيه بدموع اليأس!"
أمر آخر، كان من أشد ما أثار حفيظة الرجل منذ أيامه الأولى في برج فانسان ولم يختف ذكره، بشكل أو بآخر، نهائيا على طول رسائله، ألا وهو مطالبته بمحاكمته، نشدانه لمن يسميهم جلاديه أن يمنحوا له الحق المقدس في الكلام وفي التعبير والتفسير وقول ما لديه قوله في قضيته. الأمر الذي لم يمكنوه منه قط. طُرح في زنزانته بأمر من حماته، وسجلت ضده ثلاث تُهَمٍ فظيعة: تتعلق الأولى منها بأنه تهتك مع مجموعة من الفتيات ثم بقضية مارسيليا، وكذا تهمة الإجرام والفساد، ونشر عنه كما كتب أن حديقة قصره حولت إلى مقبرة يدفن فيها جثث الضحايا اللائي استعملهن في مغامراته "السادية".
لقد فند الماركيز الجانب الإجرامي مما نسب إليه بشكل مفصل وتبنى كل ما هو إباحي وذلك في رسالته إلى امرأته والتي أطلق عليها "الرسالة الكبرى" المؤرخة ب20 فبراير/شباط 1781 وأضاف أن من سوء حظه أيضا أن يكون قد جبل، ربما بشكل مفرط، على حب النساء! ما جر عليه كل تلك المتاعب، إذ استغلها أعداؤه للانتقام منه، لأنه يقول لماذا لا يتم سجن كل الذين يقضون لحظات شهوانية مع النساء؟ أم أنه لا يسجن في فرنسا من يملك أرصدة مالية هائلة؟! كتب في نفس الموضع أن"السيد دو ساد لم يفعل سوى ما يفعله كل العالمين!" أفظع من ذلك، يقول، بأن فرنسا ترعى أكثر أرداف المومسات أكثر من غيرها، فالويل كل الويل لمن يمس ردف مومس. كتب الماركيز أنه يملك هو أيضا مؤخرة فلماذا لا تحظى كذلك بالرعاية اللازمة؟
تأفف دو ساد مرارا في رسائله الفانسانية من وعود زوجته له بإخراجه من ضيق السجن، إذ تمر الليالي دون أن تتحقق، فيلعن المماطلات والأكاذيب ويعمد بشكل حاد إلى رد العتب إلى حماته وتحاملها الشديد عليه. نعرف مع ذلك أن زوجته لم تترك بابا إلا وطرقته كي تتمكن من إطلاق سراحه. يطلب منها قبل أن ينهي أغلب الرسائل أشياء كثيرة أو يسجل مطالبه في وريقة مستقلة يضمها إلى الرسالة. يريد الملابس، الأحذية، الفواكه وغير ذلك. كتب في رسالة تعود إلى 1784 لدن نقله إلى سجن الباستيل الذي قال عن زنزانته فيه أنها أفظع كثيرا مما كان عليه حاله في فانسان، وذلك على كل المستويات: قال أن هناك أمرين مركزيين لديه "الفواكه واستنشاق الهواء". ثم وضع لائحة بأسماء الفواكه التي اشتهى أكلها: عنب، خوخ وغيرها.
نادرا ما تشبه طلباته في رسائله طلبات لأنها كثيرا ما تتخذ شكل أوامر، مع تأكيده على التسرع بإحضار ما يرغب فيه، وفي الحين.
ما يهمني أكثر في الأشياء التي خط لزوجته طلبَه لها في رسائله، بغض النظر عن الجوارب والوسائد، تهمني أكثر الكتب والدفاتر. الدفاتر التي يحرص على التدقيق في أشكالها وأبعادها في الطول والعرض، لأنه يحتاجها لكتابة الأعمال الهائلة التي جاءتنا من خلف أسوار برج فانسان الموصد. غير ذلك فدو ساد يتابع الحركة الأدبية في زمنه انطلاقا من زنزانته، يطلب من زوجته أن تحضر له كل المسرحيات الرائجة في المسارح الباريسية، لأنه كما هو معروف كان مهتما بالكتابة المسرحية أيضا، ما اختلف المختصون في أعماله حول قيمتها الأدبية، في حين ينحيها الكثيرون عن إرث الرجل.
كتب في رسالة بتاريخ 17 فبراير/شباط سنة 1779 بأن ما يشكل عزاءه في زنزانته هو الكاتب المعروف بترارك. قال بأنه يقرؤه بمتعة وشره لا مثيل لهما. وأضاف، ما أجده رائعا وعميقا، بأنه يتعامل معه مثلما تتعامل السيدة سيفينيي مع رسائل ابنتها، قال: أقرؤه بتريث مخافة أن أنهي قراءته بالمرة!
غير ذلك ينتقد الروايات الجديدة والرديئة والتي لا تمكن، في نظره، قراءتها، ويحذر زوجته من حملها إليه مرة أخرى. كما أن هناك كتب لا يجب إعادة قراءتها. في الوقت الذي يستحثها أن تأتيه بكتب جان جاك روسو وغيره من الكتاب الكبار. أما ريتيف، يكتب لها في تحامل ذاتي نظرا للخصومة الواردة بين الرجلين، لا تسعي أبدا إلى حمل كتبه إلي!
نقرأ في رسائل الماركيز قوة رجل لم يقصم السجن ظهره، (وإن حبس في آخر حياته في مشفى المجانين وإن لم يكن مجنونا)، ولم يحد من حيوية فكره إذ أفنى طول حبسه في القراءة والكتابة شحذا للقريحة، مؤكدا لأعدائه الذين سجنوه بأنه وإن حرم من متعة الجنس الذي يعشقه فإن منعه لم يؤد إلا إلى اشتداد نزوعه إليه أكثر فأكثر. كتب أنه لن يغير آراءه الإباحية والإلحادية، وصرخ فيهم: إن شئتم فاقبلوني كما أنا عليه وإلا فاقتلوني، ولا تطمحوا يوما أن أحيد عن موقفي قيد أنملة. كتب في رسالة مؤرخة ببداية تشرين الثاني من سنة 1783 ما يعتبر صرخة تاريخية: "ولو رصدتم المشنقة لي فلن أتغير أبدا. فإذا لم يكن بمقدور مبادئي وأذواقي أن تتفق مع القوانين الفرنسية، فإنني لن أسعى أبدا إلى البقاء في فرنسا. ففي أوروبا توجد حكومات عاقلة لا تسيء إلى شرف الناس جراء أذواقهم، ولا تسجنهم بسبب أفكارهم، سأمضي للعيش لديها وسوف أكون سعيدا."
kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مبدع ومريض
لينا الفلسطينية -

كنت قد سمعت كغيري عن الكونت دو ساد مرتبطا بالوحشية وتلعثم الهوية الجنسية وفظاعات القرن التاسع عشر المريبة و لكن بعد رؤيتي لفيلم عن حياته من بطولة جفري رش وكيت وينسلتتبين لي ان الرجل كانت تتصارع فيه روحان مريرتان متضاربتان اودتا به في غياهب الجنون والموت روح الفنان وروح المريض النفسيوحتى في اشد المجتمعات الغربية تحررا يضرب دوساد على الوتر الحساس دوما الا وهو الرغبات الجنسية الدفينة والاقنعة الحديدية الثقيلة التي ترزح تحتها الاجساد البشرية في سعيها للتناسل وتحقيق الاشباع الذاتي للرؤى والهواجس الدفينة في الللاوعيلكن دو ساد برايي كان مجرد حزين منتقم من مجتمع يقمه هوسه الذي يستبد به كثيرا وطويلالكن ما يجعلنا نعجب به قبل ان نشفق عليه هو قدرته على التمرد والمقاومة واظهار صورته الحقيقية دون ان يضع تقزز المجتمع منه ومن افعاله كحاجز بينه وبين ما يريدقد لا نوافق على انفاعه وسلاطة سلانه وفحشه ولكننا نوافق على ان البشر امثاله يرزحون تحت نير العبقرية والجنون وهما اشد العذابات الانسانيةوانهم تحت وطاة الالم والصد الاجتماعي ينفجرون في النهاية وكما يقولونالجنون فنون

مبدع ومريض
لينا الفلسطينية -

كنت قد سمعت كغيري عن الكونت دو ساد مرتبطا بالوحشية وتلعثم الهوية الجنسية وفظاعات القرن التاسع عشر المريبة و لكن بعد رؤيتي لفيلم عن حياته من بطولة جفري رش وكيت وينسلتتبين لي ان الرجل كانت تتصارع فيه روحان مريرتان متضاربتان اودتا به في غياهب الجنون والموت روح الفنان وروح المريض النفسيوحتى في اشد المجتمعات الغربية تحررا يضرب دوساد على الوتر الحساس دوما الا وهو الرغبات الجنسية الدفينة والاقنعة الحديدية الثقيلة التي ترزح تحتها الاجساد البشرية في سعيها للتناسل وتحقيق الاشباع الذاتي للرؤى والهواجس الدفينة في الللاوعيلكن دو ساد برايي كان مجرد حزين منتقم من مجتمع يقمه هوسه الذي يستبد به كثيرا وطويلالكن ما يجعلنا نعجب به قبل ان نشفق عليه هو قدرته على التمرد والمقاومة واظهار صورته الحقيقية دون ان يضع تقزز المجتمع منه ومن افعاله كحاجز بينه وبين ما يريدقد لا نوافق على انفاعه وسلاطة سلانه وفحشه ولكننا نوافق على ان البشر امثاله يرزحون تحت نير العبقرية والجنون وهما اشد العذابات الانسانيةوانهم تحت وطاة الالم والصد الاجتماعي ينفجرون في النهاية وكما يقولونالجنون فنون