إشكالية الأسلوب في العمل الفني المعاصر (1.. 2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
- الاسلوب هو الطريق.
- الاسلوب هو الإنسان (بيفون).
- الأسلوب يدل على صاحبه (ماكس جوب) وجوهر الإنسان كامن في لغته و حساسيته وهو البصمة المميّزة للمبدع.
- أن الأسلوب الذي يستخدمه الفنان في عملة ما هو إلا قوة لها استقلالها الذاتي وتتحكم في كل ماعداها (ارنست فيشر).
إن كان أستاذ ألدروبي يحافظ على منطقة حيادية ما بينه وبين قماشة رسمه فان بولوك يقتحمها بكامل قلقه وانفعاله حرثا لسطح ساكن لكنه قابل لتشابك الذات في الذروة من انفعالها. وان جاز لنا أن نطلق على نمطية أعمال الأول صفة الأسلوب. فان نمطيته تلغي بعض الشيء خصائصه الفردية لمشاعتها التقليدية وتحيله لنمطية عمومية. مع ذلك فإنها أيضا أسلوبا له خصائصه. لكنه غير قابل للحراك. وبذلك فانه يظل حبيس تقليديته الأكاديمية المدرسية. مثلما مشتغله الذي يحافظ هو الآخر على أناقته وحيادية فضاءه. لكن الحذلقة وهي بعض من مكونات الأناقة لا تصنع فنا مشاكسا ( بمعنى التجاوز الخلاق). وان فضل العديد من تشكيليينا المحافظة على علاماتهم الأسلوبية (ومعظم الأعمال مكتظة بالعلامات والمشخصات نفسها) فان الأمر هو الآخر لا يتعدى حذلقة أخرى مشابه.
سطوة مبثوثاته على امتداد سطوح أعماله الأولى. بمعنى آخر. ان الخلق الفني تمازج وذات الفنان في دورة تحولاته الثقافية، وبعد ان مل سكونية بعض أجزاء عمله وتاقت نفسه لحراك يشرك الجسد عنصرا
حركيا أدائيا، تحققت نبوءة جسارته الفنية الأولى. بعدها استطاع ان يحقق حلم اقتحام عمله من جميع الأطراف أبوابا مشرعة على حلم مستحيل. الفنان العراقي المعروف (محمد مهر الدين) هو الآخر لم يزل يبحث عن مخارج أسلوبية يناور بها مكتسباته الفنية الأولى. وان استباح بولوك الفعل الحركي العنيف في نهايات تجربته أو نضجها. فان مهر الدين يبحث الآن وبعد عدة عقود من تجربته عن معادل استاتيكي يلغي الفعل التشخيصي المشاكس من مجمل أعماله المتأخرة لصالح الهامش الكرافيتي الذي كان يتسلل غالبا من خلالها. وهو بذلك يركن لسكونية مفعمة حنينا للمنجز الأول ونائيا في نفس الوقت عن مشاكساته. مع ذلك فإننا لا يمكن ان نلغي العناصر المحركة لأسلبه كل من رسومات بولوك أو مهر الدين. لكنها مع ذلك اسلبه قابلة للحراك الذهني والإجرائي العملي وبما يتناسب وحراك الذات في أزمنتها المتتابعة.
الفنان الاستثنائي بيكاسو تحكمت في ذاته المبدعة عين فاحصة شديدة الانبهار بما حولها، ومهارة أدائية مكتملة الأدوات (لقد كان زميل تكعيبيته براك يخفي رسوماته خوفا من أن تتحول هذه الرسوم ومن خلال إبصار بيكاسو لها إلى منجز بيكاسوي). ونفس قلقة لائبة لا يستقر لها قرار. وزمن هو في الذروة من الحراك ألاكتشافي الفني الموازي للمكتشفات العلمية التي مهد لها القرن التاسع عشر، ووسط فني متمرد على ما قبله، وعصر كوارثي أنتج حربين كونيين والعديد من الحروب الصغرى. كل هذه المحركات الوجدانية والثقافية والبيئية ساهمت في تعزيز مكتشفاته الأسلوبية وكسرها وتجاوزها ولم يكن
مهادنا مع نفسه ليبقى أسير أسلوب واحد رغم براعة منتجه الاسلوبي، بل كان يواكب الحراك الزمني للقرن العشرين بحراك أسلوبي مستقبلي متواتر ومتجاوز و مختلف للحد الذي ساهمت مكتشفاته الأسلوبية في حراك الفن الحديث وتنوع إيحاءاته. فمصادره الإلهامية الزمنكانية الثقافية وهي في المركز من اهتمامه أوصلت نتائج بحوثه التشكيلية لذروتها الإبداعية. وان كان الزمان والمكان متغيرا ولا يزال فكيف يرتضي الفنان إقامته في منطقة واحدة (اسلبه واحدة) يبني عليها كامل منجزه ونحن نعيش وسط حاضن ثقافي متسارع المتغيرات، حتى ولو كانت جمالية، فالذائقة الجمالية هي الأخرى تتعرض للتغير. وان نحن استطعنا أن نهضم فيه درس بيكاسو فالمفروض بنا ان نحرك مناطقنا الإبداعية بموازاة منطقة الحراك الثقافي لزمننا بكل متغيراته الاعجازية المتسارعة وبما يوافقها من أدوات تعبيرية إجرائية متنوعة. وان كان الشاعر نبي أزمان مضت أو لا تزال فعلى الفنان أيضا أن ينبري للإدلاء بنبوءته الإبداعية.
الأسلوب وهو يتمثل تفاصيل العمل وطرق التصور والأداء يتشكل بصمة شخصية بالتأكيد. لكنها بصمة متعالقة وحراك الذات الفنية الفاعلة. وان حملت العديد من الأعمال الفنية بصمة مبدعها. فهل تشكل البصمة الشخصية كل شيء في العمل الفني في زمن تشضي الأساليب ضمن مساحة التأويل الثقافي والاجتماعي والفلسفي في العديد من اتجاهات فنون مابعد الحداثة وبالذات الأعمال الفنتاسية (الخيالية، ومنها الخيال العلمي) والنصية و الفيديوية ببرمجياتها وبتقنياتها المختلطة. وأعمال الفكرة (كونسبتوال، فيرتوال) فان كانت الأسلبة مرتبطة بأدواتها التنفيذية التشكيلية التقليدية من صباغة ومواد خام وجاهزة ومرتهنة بإمكانياتها التعبيرية. فان بعض الأعمال الفنية لا تخضع لنفس الشروط التنفيذية، مثل فن الأداء الجسدي والنص الافتراضي والكثير من أعمال التجميع والإنشاء. بل حتى البصمة الشخصية هي الأخرى في أعمال العديد من فناني مابعد الحداثة كثيرا ما تتغير بتغيير مشاريعهم التشكيلية. ومن خلال ملاحظتنا للعديد من انجازات الفنان المعاصر بالإمكان متابعة مسار الذات في الخط الأسلوبي وبشكل إيحائي عام رغم ما يطرأ عليه من تغييرات أو تحويرات أو تبدلات تقصي حتى جذر الاسلوب وتقنيته الأولى. ربما لخط السيرة أو للسطوة البيئية أو الثقافية أو الاجتماعية، أو من كل ذلك، تتشكل بعض العناصر السرية التي تتسلل بغفلة أو بقصد من الذات للعمل الفني. ومتابعة خط إنتاج فنان مابعد حداثي مشهور (جيف كونز) الأمريكي تدلنا على ذلك. هذا الفنان العولمي رغم كون نتاجه من إفرازات السوق التشكيلية الأمريكية المتنوعة وبمقاربات من مخلفات فن البوب من خلال استغلاله لجاهزية الكثير من أشكال الدمى التسويقية ومفردات السوق الغذائي والجنسي. بإمكاننا ان نرصد خطا سريا يربط أعماله ببعضها ليس بعيدا عن مقاصد شروط الذائقة الاجتماعية والحس التسويقي (وهو مهني أصلا في مضاربات البورصة قبل ان يتفرغ للإنتاج الفني) في أنتاج أعماله. وبالتأكيد شروط إنتاج مقننة هكذا سوف تنتج فنا ذا طابع أسلوبي صناعي جمالي نفعي متقارب رغم اختلاف المفردات وحتى مواد تنفيذها، والمهم بالنسبة للفنان هو طريقة اكتشاف المفردة الفنية بحس تسويقي يتواءم وأطروحات السوق الإعلامية. للحد الذي مكن أعماله من عرضها في قصر فرساي ضمن فضاء مغاير لفضاء المدن الأمريكية الحديثة حيث عرضت في فضاءاته وتفاصيلها (الروكوكو) الأثرية ولأول مرة. وهي مفارقة لا تزال موضع شك، رغم استساغتها كفضاء غرائبي معاصر تكرر في مشاريع عروض أخرى وفي مناطق مختلفة من العالم.