صناديق زوجتي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله كرمون من باريس: ولدت إين هي- كيونغ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وقد عرفت نجاحا أدبيا ونشرت عدة مجاميع قصصية وروايات. وتعتبر مجموعة "صناديق زوجتي" أول مجموعاتها التي تترجم إلى الفرنسية. وقد أصدرتها دار زولما هذا العام مترجمة من طرف كل من ليه هيي_ي ونغ وبييريك ميكوتيه.
حاولت أن ألخص قليلا عوالم قصصها، باستثناء الأخيرة منها، كي يقف القارئ على ما تتوفر عليه من أبعاد متعددة. هذه إذن بعض أجوائها التي أضع في الأخير بعض استنتاجات حولها:
صناديق الزوجة
الزوج هو الذي تكفل بمهمة السارد، ليروي لنا كيف أفضى به الحال لأن يتسلل في بداية النص إلى مكتب زوجته، وينظر إلى الصناديق أو العلب التي تركتها زوجته في مكانها منضدة جيدا وكل واحدة منها تحوي شيئا معينا، الرسائل القديمة المصفرة والمبقعة بالحبر والتي تعود إلى زمن غابر إذ لم تعد تتوصل بها في الماضي القريب.
"زوجتي لم تعد هنا. وستظل خزانة أوراقها موصدة إلى الأبد. سوف نجد فوقها قلمها الرصاص الأصفر الذي ينتهي طرفه بممحاة، لقد توغل كل هذا في الدياميس. ولن تحضر أبدا في هذه الأمكنة".
كان ذلك في الصباح الذي قرر فيه أن يرحل عن شقته تلك. لم يعد يطيق العيش فيها. إنه يرغب أن يقطن بعيدا. لأنه، كما قال، يستشعر ألما رهيبا كلما دلف فيه إلى مكتب زوجته.
"أقترب ببطء من النافذة. بعد كل خطوة ثمة رائحة غريبة تلامس خياشيمي. وكأنها شيء من هواء عفن، أو نفتالينا خارجا من دولاب قديم. أو أيضا، مثل بنزين سري تم رشه على أزهار اصطناعية. لا يتعلق الأمر، في كل الحالات، بعطر زوجتي".
يحاول تذكر ما عاشه معها وأية امرأة كانت. تنكفئ على نفسها كلما حل الليل، جنبا إلى جنب مع زوجها. وترفض ممارسة الجنس. يحاول معها، لكن جسدها يظل باردا. يقبلها، ويدس لسانه في أقصى مناطقها الحميمية، ثم يلج فيها بتريث بعد ذلك. وتأخذ بكتفيه وتهمس له: "أحبك!"
اكتشف أخيرا مصدر الرائحة الكريهة التي شمها من قبل. كانت تصدر من أزهار حمراء وسوداء جافة في الممر. يبدو له أن تلك الرائحة تهوم مثلما لو كان في أرجاء مقبرة. ثم غادر.
كانت حياتها النفسية مضطربة. لا تستقبل أحدا ولا تخرج إلا نادرا. ولكنها كانت تستسلم سريعا للنوم، وعندما تنام فإن نومها يكونا عميقا جدا. سألها زوجها يوما عن سر ذلك فأجابته: "كلما شرعت في النظر إلى أسفل العمارات أغطس في النوم مباشرة". واصلت بعدما صمتت برهة: "أرأيت كتلة العمارات المتراصة، ملاعب الأطفال، موقف السيارات والأزقة، الناس الذين يذهبون ويجيئون أمام الحوانيت وهم يحملون أكياسا بلاستيكية في أيديهم، ثم أيضا السماء التي لا تتبدل أبدا، والهواء الذي نتنفسه...يتشابه كل شيء بالنسبة لي تماما."
لهذا قد تنام طيلة النهار، وعندما لا تنام فإنها تقرأ كثيرا. قال زوجها أنها تقرأ كل أنواع الكتب، ونادرا ما تتذكر ما قرأته، إذ تنساه سريعا، وتضع الكتب التي قرأتها في صناديقها، ربما كي تنساها أكثر وتغيب عن مرآها.
على خلاف التوقعات، فشقتها نظيفة جدا، وتحرص على ترتيبها بشكل مثير. كل شيء في مكانه. إلا أنها نادرا ما تفتح النوافذ. كما تتكفل بالطهي وتحسن إعداد أطباق شهية بشهادة زوجها. أما عندما تستبد بها تلك الحالة الرهيبة التي يسببها تأزمها العميق فإنها تصمت طويلا، وتظل واجمة. غير أن صمتها يخفي فورانا داخليا مرعبا. يصف زوجها ذلك مشبها حالها بالنظر إلى سطح ماء حيث تفترس أسماك نصف أربيان مضطرب يسعى إلى الانفلات منها!
كانت قد أجهضت في بداية حملها، ثم عمدت إلى عملية عقم، ما لم يكن في علم زوجها. ظلت مضطربة لا تخرج من البيت، حتى مكنتها جارة جديدة من الخروج وعرفتها على شخص ظلت تتردد عليه رفقتها في فندق بالضاحية. هناك وجدها زوجها، حسب تعليمات الجارة، ذات يوم لما لم تعد إلى البيت في وقت متأخر من الليل. كانت نائمة وعارية. بعد أيام كانت جنب زوجها في السيارة في إتجاه مشفى نفساني.
قال زوجها: "كان من الواضح أن الصناديق التي كانت تحسن أن تتخلص بداخلها بعدد من الأشياء لم تكن لتصونها من مداهمة أفكار حزينة لها".
يوميات الزوجة
يستيقظ في وقت متأخر حوالي منتصف النهار، ويشعر بالرغبة في شرب ماء. وفي الممر متجها إلى المطبخ لمح على طاولة دفترا، ظن في البداية أنه دفتر حسابات. تناوله فإذا به كراس يوميات زوجته. لم يدرك أبدا أن زوجته تسجل يومياتها ولم يخطر له على البال قط أن لها يوما علاقة بالكتابة. قرأ فيها أنها غير متزوجة ولكن لها عاشق، لكنها ليست مغرمة به. جعله هذا يعتقد في البدء أن الكراس ربما ملك لإحدى صديقاتها لغرابة حديثها عن عدم تزوجها وكونها اتخذت لها عاشقا. غير أنه تعرف على الخط، إنه بلا شك خط زوجته. على كل حال حسم الأمر، إنه المقصود بالعاشق. صحيح أنه يقضي أغلب وقته خارج البيت، يشرب مع أصدقائه بعد الانتهاء من العمل، ولا يعود أحيانا إلى البيت إلا قبيل الفجر. قالت له يوما أنه لا يحسن في حياته إلا أن يسكر وأن يفيق من السكر. كتبت أن أبناءها يشبهون أبناء بلا أب، لأنه لا يقضي معهم أدنى لحظة.
دخلت زوجته في عز انشغاله بقراءة يومياتها، فقطعت عليه حبل اكتشافاته. تحدثا قليلا عن ليلته التي قضاها مع أصدقاء بمناسبة دفن أب أحدهم. إنها تعرفهم جميعا لأنهم كانوا يلتقون معا قبيل زواجهما. أما اليوم فلم يعد يرافقها عندما يجتمعون للسكر. لأنه يرغب أن يشرب بارتياح، ويخشى أن تنغص عليه جلسته بتأنيبها المعتاد له في العلاقة مع الكحول.
تحدث لها عن أصدقائه وتبجح الناجحين في حياتهم المهنية والاجتماعية منهم بنجاحهم، ورغبة الآخرين في الهجرة إلى الخارج؛ كندا على وجه التحديد. تتدخل زوجته ملحة على تفضيلها العيش في وطنها، وأنها سوف تظل في البيت وسوف تخرج للبحث عن تلبية نزواتها متى دعاها داع إلى ذلك. صار حديثها غريبا عنه وبدت امرأة مخالفة تماما لتلك التي كان يعرفها في السابق، عندما كانا يتحدثان عن الأدب ويفترشان العشب، أو عندما يطلب من نادل مقصف قنينة خمر الأرز ويعمدان إلى انتقاد السياسة الحكومية المنتهجة في البلاد. قرر أن يقرأ يومياتها بأكملها، كي يقف على سر النزوات التي نبست بإمكان ورودها. قرأ: "أرغب أن أغازل. أود بشكل جدي أن أقول لهذا الشخص، بأن كل شيء قد انتهى بيننا، وأن أمضي لأشرب لوحدي. أود أن أمتحن الآخر، أرغب في رؤية دموعه كي أدرك إن كان يحبني حقيقة. أحس بالحاجة إلى تنغيص عيش أحد ما.
لقد صار وجودي بلا معنى. يرفضني الجميع. ينظر إلي حبيبي وكأن ما أستشعره يقرأ على محياي. أحيانا أرغب أن أقول لهم: لماذا ينازع بعضكم البعض الحسناوات، وما إن تتزوجون حتى تأنفون حتى من الالتفات إليهن؟
في تلك اللحظات أرغب أن ألصق على وجهي رقعة أكتب عليها: "أنا هي زوجتك."
لا يدرك حقيقة إن كانت تقصد برغبتها في مغازلة شخص آخر أم أنها تقصده هو. لم يستطع أن يحسم الأمر. يعترف بأنه غالبا ما يحرمها من حضوره ودفئه. لكنه لا يخونها. فهو ليس زوجا سيئا، إذ يمنح لها كل راتبه. ما عدا كونه يشرب، فهو حريص على راحة أسرته الصغيرة؛ زوجته وولديه.
لا تجد، مع ذلك، في عودة زوجها إلى البيت مبكرا، ما كتبته في يومياتها، أنه العلامة الكبرى بأنه يهتم بأسرته. كتبت: "أعتقد بأن على الرجل أن يتمكن من استغلال وقته، وإلا سوف يصير مثل ماء راكد ويتعفن. ومع ذلك فإنني أبلو عزلة لا تطاق!"
تتقاطع قراءته لليوميات وتذكره كيف استطاع استدراجها إليه ونيل حبها له ورضاها منذ سنوات الدراسة. ما يسوؤه لديها هو رائحة فمها الكريهة. لبث جنبها وهي نائمة، ثم خلع عنها سروالها الليلي، أفاقت، فأولج فيها دون أن يطلب منها رأيها.
اليوم الذي رجع فيه إلى البيت مبكرا، سارعت زوجته إلى غسل الأواني مباشرة بعد انتهائهما من الأكل، غير أن الهاتف رن من غير المتوقع، تعلق الأمر بصديق زوجها؛ أستاذ في الضاحية؛ عاد إلى المدينة في آخر الأسبوع ويطلب منه أن يراه. ما شكل خيبة أمل الزوجة لأنها على ما يبدو كانت مهتاجة وفرحة. ما أكده ما كتبته بعد ذلك في يومياتها.
خرجت تبحث عنه في الليل، ولما لم تجده حيث تعتقد أنه سوف يكون، ابتاعت قنينة كحول وشرعت في شربها. ذلك ما قرأه في يومياتها متسائلا متى كان عهدها بتناول الكحول؟
لدى عودته ذات مساء جابهته بهذا الاستنكار:
"_هل من اللازم إذن أن تشرب كل مساء؟
_نعم. لابد أن أشرب كل مساء. ماذا في ذلك؟
_لا تستطيع إذن أن تعيش حياة اجتماعية بدون شراب.
_لا.(...)"
بعد ذلك تبدل سلوكها معه، ولم تعد ترافقه عندما يغادر حتى الباب، صارت متقوقعة على نفسها. جاء ذات يوم متأخرا كالعادة. دق جرس الباب، ولا أحد يفتحه. أدار مفتاحه في القفل ودخل. كانت نائمة، ودفتر يومياتها مفتوح قربها. لم تكتب شيئا ماعدا تاريخ اليوم. لكن صفحة اليسار كانت تحمل هذه الفقرة التي قرأها بذهول: "أستغرب أحيانا عندما أرى برازي. يشق علي أن أسلم بأن هذه المادة الكريهة جدا تصدر عن جسمي. ولكنها حاصلة على كل حال. لا أستطيع أن أنفي هذه العلاقة الموجودة بينها وبيني. تأملتها طويلا، ولم أجدها وسخة بعد. إنها، بشكل ما، مثل فرد من عائلتي، قد أتم عملا جد شاق وغير مشوق.
أتأمل نفسي في المرآة. وبنوع من الشفافية عاودت رؤية تلك المادة. وأفضى بي الأمر أن أقبل نفسي كما أنا عليه."
عاشقان جميلان
يتعلق الأمر بفراق عاشقين قد بدا لهما في السابق أنهما يعيشان عواطف هائلة. لقد آن أوان القطيعة. وتأكدا بأن الحب لا يفضي إلى شيء وبأنه مجرد مضيعة للوقت. وأن اليوم الذي تحابا فيه من أول نظرة قد ولى. لقد حز في نفسيهما معا أن يفترقا مع ذلك.
اشتغل في أماكن أخرى، يستقيل منها كل مرة، مدعيا أنه يحتاج إلى الصفاء اللازم للإلهام الشعري. لم يعدّ بعد مجموعته الشعرية رغم اشتغاله على ذلك منذ زمن.
عندما حضرت إلى الموعد، كانت قد قطعت شعرها الطويل. تذكر أنه كان معارضا للفكرة لما أطلعته قبل أيام على نيتها في ذلك. قال لها أنه يحبها كما هي. لم يستحسن الأمر. هذا يعني إذن أن رأيه لا معنى له ولا تأثير له عليها. تذكر أن أحدا قد قال له يوما أن النساء يقطعن شعرهن غالبا عندما يغيرن محط أحاسيسهن.
الذي دفع بها إلى صالون الحلاقة هو خلاف ذلك اكتشافها لعدة شعرات بيضاء ضمن شعر رأسها. ما عكر عليها صفوها، وذكرها بمرحلة الشيب وزوال الشباب بالرغم من أنها ما تزال في بداية عقدها الثالث.
دفعهما قلقهما، الذي اختلفت بواعثه لديهما، إلى الباب المسدود. صارت منولوجاتها تغلي وترسم خطاطة فراق محدق.
شربا كثيرا وغادرا عند إغلاق البار، مترنحين ليتخذ كل منهما وجهة معاكسة.
"أما هو، من جهته، لم يسع لمعرفة كيف يمكن لهذا أن يحدث لهما، ولم يعن أكثر من ذلك بتجاوز كدره. المرأة التي يخبئ له المستقبل ما تزال نائية عن مهجته. إنه يفتقد بكل بساطة عاشقته. كل تحليل لفشلهما غير مجد. إنه أشد حساسية منها. بالنسبة إليه فإن حبهما قد بقي معلقا من عل فراغ هائل وذي حزن لانهائي."
لم نفكر في اللامتوقع
الذي جعله يقرر الزواج بها هو دموعها البلورية التي أرسلتها مدرارا، وعطفها الذي أبدته على مرأى أمه المشلولة. خبر فيما بعد بأن الدموع لديها نوع من السلوك المرتبط بشخصيتها. إذ سرعان ما أرغمته بأن يتخذا لهما سكنا مستقلا عن أهله. وصارت تسلط عليه نظرات مبهمة. تخاصمه لأنه لا يؤوب إلى البيت إلا في وقت متأخر، ثم أنه يفرط في الشرب. قال بأنه يشرب منذ عقده الثاني فما الداعي لأن أتوقف اليوم؟
صارت خصوماتهما، على كل حال، متواترة. عاد متأخرا، ذات يوم، ورفضت أن تفتح له الباب. توجه إلى ملاعب الأطفال واستلقى على كرسي. نطقت يوما بالكلمة الفظيعة: الطلاق. قالت في نفسها أنها ترغب فقط في تخويفه كي يرعوي.
كان مخمورا جدا وعاد في وقت متأخر إلى البيت، ولما لم تفتح له زوجته الباب عاد أدراجه، وسار في وسط الطريق العامة معرضا نفسه للخطر. أراد أن يعاقبها كي تندم إلى الأبد. أراد أن يمضي إلى مكان لن تستطع أن تعثر فيه عليه أبدا. صدمته سيارة ورطمته أخرى كي تأتي ثالثة على دهسه نهائيا.
"كل مرة تفكر فيه يبدو لها أن مرد موته يعود إلى خطئها، لأنها رفضت أن تفتح له الباب. أي باب؟ ليس باب قلبها بالتأكيد".
خلاصات
النصوص التي أحطنا بها، والتي جعلناها محط نظرنا قد أتت على موضوعات مشتركة، تتراوح بين زواج إشكالي، يكون فيه الزوج شخصا يداوم على معاقرة الكحول. وتتفاعل فيها عناصر كثيرة للزج بحياة الزوجين في المأزق، ما يفضي سريعا بعلاقتهما إلى انفجار بركاني.
لا تطلق الكاتبة، في الغالب، أسماء على شخوصها. لكن هناك عدة قواسم مشتركة بينهم. فهم يتسمون بالاضطراب النفسي والقلق. فبالرغم من انتمائهم كلهم إلى الطبقة المتوسطة فإنهم يعانون جميعا من وحدة نفسية عميقة، ومن انزواء مزمن. فلا نقف فيها جميعا على حقيقة وجود بذخ جنسي وإشباع عاطفي.
استطاعت الكاتبة، التي تعرف جيدا أسرار حياة الكوريين، من خلال أسلوبها الجميل واعتمادها الغالب على تقنية المنولوج كتابة مجموعة قصصية تشبه رواية وكأن كل قصة منها فصلا من الرواية. وكأني بها لم تسع إلى ذلك إلا لكي تمنح لشخوصها ترف عيش حيوات متعددة وابتلاء طرق موت مختلفة.
kermounfr@yahoo.fr