ثقافات

ليلة أخرى مرعبة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بينما كان جنود كثيرون يحيطون بالمنزل كنت أنتفض من البرد، وكانت القطة تموء وتتسحب ببطء تحت الحائط. وكنت قد خفَّضت صوت التلفاز إلى لآخر درجة، وسحبت بطانية داكنة لففت بها جسدي، وجلست على سجادة الأرضية أتأمل القطة.. وتارة أخرى أتابع التلفاز.
كانوا كثيرون ـ فيما بدا من صوتهم.. لم يخبرنى أحد أنهم سيجيئون ولم أكن قد فعلت شيئاً يستوجب مجيئهم.. لكنهم يقيناً جاءوا لأجلي، وإلا فما معنى هذا الاحتشاد في الخارج؟.. كنت قد تسمَّعت وقع أحذيتهم وخشخشة السلاح أمام الباب، وها هى أصواتهم تحت النافذة تصل إلى أذني مختلطة غليظة.. ولكن ما الذي يمنعهم من طرق الباب أو كسره؟!.
آخر مرة جاءوا فيها إلى هنا كنتُ موجوداً بالبيت، ومع ذلك كسروا الباب ودخلوا إلى كل الحجرات، وأخذوا معهم كل كتبي وأوراقي والقطة.. يقيناً أنها شردت منهم إلى أكداس القمامة التي تعج بها الشوارع الخلفية لمركز البوليس.. ولكن لماذا أخذوها؟!.. لقد كان سؤالاً وجيهاً وقتها، لكنما وأمام استحالة الإجابة نصحني صديقي الوحيد الذي يأتيني أحياناً في المساء باقتناء قطة غيرها، وكان لابد أيضاً من شراء كتب أخرى، غير أن الصديق أهداني بعض المجلات والجرائد القديمة، وكوَّنت مكتبة أخرى، ولم يعد أمامي غير أن أعثر على قطة أخرى، إلى أن جاء صديقي ذات ليلة حاملاً كرتونة صغيرة.. فتحها أمامى فقفزت منها هذه القطة التي تندسُّ معي الآن تحت البطانية.. أليفة هادئة، وقد أعجبني لونها البني الفاتح المختلط بالبياض.. تعوَّدتْ على حياتى.. تنام إذ أنام، وتصحو إذ أصحو.. تموء عندما تجوع؛ فأعرف أنها بحاجة إلى طعام.. أفتح الثلاجة.. أحضر لها بعض شرائح اللانشون أو السردين، وفي الصباح عوَّدتها على الحليب لأني أيضاً أحبه في الصباح، ولم يكن غيرها تتحرك في البيت.. تقطع الهدوء والسكون، ولم أعتد على صوتٍ إلا من التلفاز وموائها.. لست أدري: ما الحكمة من القبض على القطة، ولماذا حملوها معهم في آخر مرة جاءوا فيها إلى هنا؟.
يومها كنت قادماً لوحدي، وكان الصقيع يستبد بالطقس، وكنت أحس بحركتهم خلفي في ظلام الدروب الرطبة، ولم أكن أدري كيف، ولا متى انشقت الأرض وأخرجتهم.. كانوا كثيرين، وكنت وحدي، كلما تلفت خلفي أراهم يستحثون بعضهم على المسير، وكانوا صامتين تماماً فيما كانت أصوات أقدامهم وأسلحتهم تصل إلى أذني حتى وصلت إلى الباب.. فتحته وأدخلت جسدي كله دون أن يطلبوا مني شيئاً.. لكنني ـ وقبل أن أغلق الباب ـ أخرجت رأسي ثانية ونظرت.. كان الظلام يحجبهم عني تماماً، ومن ثم أغلقت الباب واستلقيت على السجادة، حتى سمعت أصواتهم؛ فعرفت أنهم أحاطوا المنزل.. لم يخبط أحد على الباب.. أتذكر أنني ـ ليلتها ـ خفَّضت صوت التلفاز إلى آخر درجة، و جلست على السجادة بعد أن لففت جسدى بالبطانية، ودسست القطة معى، ونمت.
في الصباح كان كل شيء قد تمَّ لهم.. وجدتنى ممدداً ملفوفاً بالبطانية، وركبتي عند وجهي، ولم أجد القطة والكتب.. نهضت إلى الباب فوجدتُ الشُّرَّاعة مكسورة والكالون، ووجدت بعض علب سجائرى فارغة على الأرض، وعندما دخلتُ المطبخ اكتشفتُ أنهم استعملوا الأكواب، ومن ثمَّ توقعت أن يكونوا قد شربوا شايا أو قهوة أو.... إلى أن اكتشفت أنهم أجهزوا على كل ما لدي من طعام، وتركوا الموقد مشتعلا ومضوا.
لذلك ـ هذه المرة ـ نهضت.. تسحَّبتُ إلى المطبخ.. فصَلْتُ أنبوبة الغاز، وأحكمت غلقها، وأتيت بها إلى حيث أنام على السجادة.. وأطفأت الأضواء جميعها، والتلفاز، ثم احتضنت الأنبوبة بعد أن وضعت القطة بيني وبينها، وحاولت النوم.
وفيما كان الوقت مملاً ثقيلاً سمعتهم يصعدون السُّلم إلى السطح، وكان عليَّ أن أظل مستيقظاً بعدما تأكد لي أنهم صعدوا إلى أعلى؛ ربما لذلك أعدت تشغيل التلفاز، وفيما رحت أبحث عن قناة للموسيقى كانت أصواتهم قد انتقلت إلى داخل البيت، وفيما كنت أحاول أن أتفهم شيئاً وجدتهم يخطون بأرجلهم في الصالة ويستحثون بعضهم على لمِّ الحبال.. هنالك فهمت أنهم استخدموا المنور الداخلى وهبطوا من السطح بالحبال، وهنالك تصنَّعت اللامبالاة وانهمكت في سماع الموسيقى، واحتضنت القطة والأنبوبة تحت البطانية، وأغمضت عينىَّ تماماً، وتماماً كنت أدرك ما يفعلون: سحبوا الأنبوبة.. أعادوها إلى موضعها.. أكلوا وشربوا ودخَّنوا، واستلقوا حولي يشاهدون التلفاز.. بحثوا عن قنوات بعينها.. لم يكلمني أحد، ومن ثم لم أكلم أحداً.. فتحت عيني وشاهدت ما يشاهدون.. كانت أفلاماً للجنس والمصارعة، كانوا مغتبطين، وهم يتصايحون.. وتارة أخري يصمتون على شبق يتأججهم.. دخنوا كل سجائري وقاموا.. جمعوا الكتب والمجلات والجرائد.. حملوها إلى الخارج، غير أن واحداً منهم رفع البطانية عن جسدي والتقط القطة ومضى.
وفيما كانوا قد أعطوني ظهورهم لاحظت قطتي تلوي عنقها نحوي وتموء.. يا لك الله أيتها القطة.. حاولت أن أفعل شيئاً.. حاولت، ولكن ما الذي يمكنني فعله في تلك اللحظة غير أن أحبو خلفهم كواحدٍ من الجرابيع الشائخة؟.. حبوت إلى الصالة.. لاحظت أنهم كسروا المزلاج وخرجوا.. وفيما كنت أحاول أن أصنع شيئاً لاحظت أن حبالهم تنسحب بجواري إلى الخارج.. أمسكت بها.. حاولت أن أشدها للداخل؛ لعلي أمنعهم من المضيِّ، بيْدَ أنني وجدت جسدي يسير مع الحبال.. وجدتني بالخارج.. كان الصقيع والظلام يستأثران معاً بالشوارع، وفيما كنت أحسُّ بالأرض من تحتي رطبة وعفنة ومنخَّرة كنت أنسحب وأنسحب.. لم تكن عيناي تميِّزان شيئاً غير سواد الدروب، وفيما أحسست بثيابي تتمزق وجلدي بدأ يتسلخ ورأسي تتخبط في المطبات والحُفَر، حاولت المقاومة.. حاولت لكنني يئست.. لم يكن بمقدوري أن أغير شيئاً، غير أنني فكرت للحظة أن أترك الحبال وأعود إلى بيتي.. فكَّرت، لكن مواء القطة المتتابع كان دافعي للتشبث بالحبال.. حقيقة تشبثت كواحدٍ من النبلاء القدامى كان عليه أن يحارب حتى آخر نفسٍ قبل أن يستقبل موتته.. مواء القطة النبيل كان مبرراً وجيهاً للتحمل.. هكذا استسلمت للَّحظة، بينما كان مواء القطة يتخافت رويداً.. لست أدري: لماذا كان صوت القطة يتخافت، بينما كانت أصوات أقدامهم تعلو وتعلو، حتى لأنها في لحظة أخرى كانت كأصوات الطواحين.. أ من النبل أن نحارب أطوات الطواحين؟.. لست أدرى، فلم تكن رأسي لتفكر.. أحسستها تشرَّخت، وثمة دماء ساخنةُ كانت تنزف منها إلى الطين، وأن يديَّ ليستا في جسدي، وأنني إلى حدٍ ما مستلقٍ في حفرة رطبة وطرية باتساع جسدى؛ فانفرطت.. ( أتَّسِعُ الآن والوقت يضيق ).. ثمة ( أشياء منذورة للفرار المرير.. وحدي: منذور للرماديِّ الصفيق )... نعم ( قتلونى؛ فانفرطت: قطاراتٍ تعوي، قبائل مدججة، جرَّةٌ مقلوبة، وصمت يهوي على حَجَر، خنجرٌ معلَّقٌ في سماء الذاكرة، وليلٌ قرويٌّ، صبيٌّ يهرب من ليلة الخميس، طائر يلوح من نافذةٍ غامضةٍ، قاعدٌ على حافة وقتٍ من رماد، مرأة تمضي إلى قبرٍ، مرأة تجئ، طبولٌ تقرعها الريح من زمن قديم )، فارفعوا أرجلكم عن ظلي الخلفيِّ.. ثمة ليلة مرعبة تمضي، وليلة مرعبة أخرى تجيء.
( تمت )
أبو تشت في 8/ 2 / 2002م
ملحوظة: الأجزاء المقوسة من النص من ديوان الشاعر المصري رفعت سلام " هكذا قلت للهاوية".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف