ثقافات

فنون الفضة الإسلامية: وصية.. وبراءة ذمة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نظرة عامة د. سعد الجادر: الفن تعبير ابداعي وجمالي لموهبة وأحاسيس وخيال ومعارف وتدريب الفنان. والفنان أحد أهم وأندر أعضاء المجتمع ومن أرفع صور الوعي الانساني فيه؛ فكم من فنان حقيقي في كل مليون نسمة من السكان؟. وللفن مضامين وأساليب وطرق في التعبير بلغة وأسلوب وثقافة الفنان الخاصة. والابداع الفني الجميل هو من حاجات الانسان الاساسية، كالحق في الحياة والغذاء و العمل المنتج والسكن والحب والمعرفة. وفي المنتوج الفني المفيد والجميل قوى وطاقات من شانها تطوير المجتمع وتنمية الفكر وتوسيع وتعميق المعارف والسمو بالاذواق والسعادة بالاحاسيس الجمالية؛ فالفن الجميل متعة للعيون وبهجة للنفوس.
والفنون مرايا الثقافات، التي تركت تراثا متنوعا ومتمايزا يمثل المثمنات الروحية لكل ثقافة منها. وبالنسبة للمسلمين فقد انتشرت الفنون بين كل
للمزيد من المعلومات والاطلاع على الكتالوغ
انقر
هـنـاأعراقهم و في كل بيئاتهم الجغرافية: المدن والعمار ومختلف صنوف المصنوعات الفنية، التي قدمت لمستخدميها كلا من الفائدة والجمال. كما افرزت الثقافة الاسلامية طرازا فنيا فريدا يكوّن اطارا عاما و موحدا تتنوع ضمنه اللغة الزخرفية والتصويرية تبعا لخصوصية الاقاليم: ففكرة الوحدة في الفن الاسلامي والسمات المميزة لها لم تتعارض مع تراث وخصوصيات الشعوب و الامم المنضوية تحت لواء الاسلام، بل ان الاسلام ألهمها ومكّنها من التطور ضمن اهدافه وتعاليمه السامية؛ اذ قدّم الاسلام للانسان، ولاول مرة في تاريخه الحضاري، مبدأ حق جميع الاقوام والشعوب المحافظة على معتقداتها الدينية وتراثها الثقافي والمساواة والتشارك في المواطنية. وهكذا ابدع المسلمون وغيرهم من اهل الفن المتساكنين معهم في تخطيط المدن والعمارة والفنون الزخرفية والتصوير والنحت، مهتدين بهدي الصورة الفنية الاسلامية ومستظلين بظلال وحدة اطارها الجامع والموحد لانتاجهم الفني؛ مما جعل ثقافة المسلمين تحتل مكانة بارزة بين ثقافات الامم الاخرى وتؤثر فيها، وبالذات في أوربا.وقد تواصل تراكم صناعة الفن و الجمال في عالم المسلمين مئات السنين حتى سيطرة الاستعمار الذي خرّب ونهب كثيرا من تراث المسلمين وأدخلهم في مرحلة من التخلف والتبعية والركود. ومن ذلك اهمال المسلمين لتراثهم الذي كانت له نتائج سلبية متعددة على رأسها عدم توظيف الفنون في خدمة التنمية، ولا في تطوير الذوق والحس الجمالي، ولا في نشر الدعوة الاسلامية، ولا في تصحيح اراء الغرب المجحفة عن ثقافة المسلمين التي ينشرها الاعلام الاستعماري المشحون بالكذب والتضليل والاحتيال، والذي يواصل تعبئة مجتمعات الغرب بالعنصرية والكراهية والتحريض على مقت الاسلام وقهر المسلمين. كما اضحى كثيرا مما ينشر عن الفنون الاسلامية من وضع باحثين غربيين لايعرفون العربية او الفارسية مثلا للنهل من المصادر والينابيع والخلفيات الحقيقية والاساسية. علما بان من هذه الدراسات والبحوث ماهو موظف لخدمة المصالح الغربية الاستعمارية الهادفة الى ابعاد علاقة الفن بالفكر الاسلامي والنيل من الصورة الفنية الاسلامية الساطعة و الفريدة التي قدّمها المسلمون الى تاريخ الفنون والحضارة الانسانية.
هذا اضافة الى ادعاء باحثين غربيين بان المسلمين اقوام جفاة لافنون متطورة لديهم، بل فنونهم ساذجة، لان دينهم يحرم الفن والزينة والجمال. وهي الاكذوبة المهينة للاسلام ولثقافة المسلمين، والتي لايزال يرددها عدد من رجال الدين المسلمين المتحجرين المتزمتين الذين يعادون الفن والجمال والذين يحلو لهم العيش في النص المنسوب والعبارة المعلبة ولا يستندون لا الى القرآن ولا الى عقل الانسان ولا الى تطور الزمان، لكنهم يحيطون أنفسهم بقداسة باطلة ويتبعهم جهلا وخوفا ملايين المسلمين. ولا يزال رجال الدين هؤلاء، حماة الاستبداد الفني، الذين تتوافق مصالحهم مع مصالح النخب الاستعمارية راعية الاستبداد الشامل وتكريسس التخلف، يفتون بتحريم التصوير فيخشى فتواهم حتى من منّ الله عليهم بمواهب فنية متنوعة فيضطرون متحسرين الى تجميدها ووأدها، فيتعطل حاصلها ونفعها لخدمة ومسرّة الاخرين. بينما الانسان مفطور على تصور وصنع الجمال والتمتع باستخدامه والنظر اليه والتبصر فيه.
و يذهب بعض الباحثين الغربيين بعيدا في المبالغة والافتراء كالقول مثلا بان الصياغة الاسلامية هي بالاساس من عمل اليهود، حتى دون ذكر غيرهم. وهذا ليس من الحقيقة التاريخية ولا الموضوعية العلمية بشىء؛ اذ انّ منتجات المصاغ الاسلامي هي من عمل المسلمين اساسا ا لذين ابتكروا الصورة الفنية الاسلامية بوحي من الفكر الاسلامي؛ لكن لاتخفى مساهمة أهل الفن الذين تساكنوا وتعايشوا مع المسلمين في ديارهم من يهود وصابئة ومسيحيين وهندوس وبوذيين وغيرهم من الذين كان الوطن الاسلامي دارهم قبل الاسلام والذين انتجوا في الصياغة ضمن اطار الصورة الفنية الاسلامية بعد الاسلام. لقد ساهم الجميع في تطوير الحياة الثقافية في بلاد المسلمين منذ فجر الاسلام وحتى اليوم؛ وانه لمن المقزز الحديث عن مواطن أصيل وآخر غريب ودخيل.
كما ان فرض اسقاطات أنماط الفنون الغربية كمعايير على فنون المسلمين هو عبث وفوضى؛ اذ لا يمكن فهم الصورة الفنية الاسلامية الا من منظور اسلامي- ايماني؛ والا مالذي يوحد حس المتلقي وهو في رحاب اي مسجد أو أمام اي تحفة اسلامية غير روح الاسلام، التي تجمع المسلمين وفنانيهم عبر ركيزتي المسلمين المؤثرتين في العقول والقلوب و النفوس: القران الكريم بحكمته وموسيقى لغته العربية، وثقافة المسلمين بفرادة صورتها الفنية؟ وحتى في حالة تعاظم مساحة الجهل و الامية في مجتمعات المسلمين فهناك الاذن التي تسمع بيان القرآن وسحره والعين التي تبصر جماليات تحفه.
وفي الوقت الحاضر يعاني الفن المعاصر، سواء في بلاد المسلمين أم في مختلف بلدان العالم، من ضعف وأزمة متواصلة ناجمة عن فوضى ثقافية. فهناك قطاعا كبيرا مما يقدم من"فنون" عبارة عن قشور هشة غير مفيدة ولا جميلة، بل منه ما هو شديد القبح، يعكس فساد عالم الرأسمالية المتوحشة و يمثل أحد فروعها الهدامة والمعطلة للتطور المتوازن، والذي يصل حد العبث واللامسؤلية التاريخية والفنية والاخلاقية. لذلك يعزف الجمهور عن منتجات "فنون الحداثة" لانه لايفهم منها شيئا: فاذا كان الفلاح يزرع لنأكل ونلتذ ونصح ونسعد، والعامل ينتج شتى المواد لاستخدامنا ويقوم بمختلف الاعمال لراحتنا، والطبيب يعالج المرضى، والمهندس يشيد العمار، والمدرس يعلم الاجيال، والمثقف ينشر المعرفة، الخ..، ترى لمن ينتج "فنانوا الحداثة" اذا كان الاخصائيون، ومنهم بالفنون، والمثقفون والمتعلمون والجماهير لايفهمون ولا يستفيدون ممايعرضه وينشره هؤلاء "الفنانين" المزورين شيئا، والذين ياحبذا لو نورونا بما ينتجون ان كانوا هم يفهمون مايقدّمون؟ لكن ذلك لايظهر أبدا من خلال ماينشرونه من مقالات وكتب ويقيمونه من ندوات ؛ فكلامهم مبهم وتعابيرهم غامضة وضبابية وتائهة و معلبة ومكررة؛ وأطروحاتهم فارغة كلوحاتهم، والادهى والامرّ من ذلك ان ليس هناك مايربط بين ماينتجون وما يتحدثون عنه، بالضبط كالساسة المحتالين واعلامهم الكاذب الذي يتحدث عن أشياء بعيدة كل البعد عما يجري على أرض الواقع.
فباسم "الثورة على الماضي" و"التمرد على التقاليد" دخل "فنانوا الحداثة" في مغامرات " تجريب" الجديد التي تتواصل منذ بداية القرن العشرين، ولا يزالون يجربون! فهم في حرز حريز، وكل التسهيلات مشرّعة أمامهم: قاعات فخمة للعرض وحفلات للافتتاح ونقّاد مدّاحون و منافقون وصحافة مضللة وأثرياء أغلبهم من النفط والحروب والمال السحت الحرام الذين يقتنون مالايعرفون ولا يفهمون. فاستشرى " فن الحداثة" في العالم و هبط بالفن الى ادنى مستوياته عبر التاريخ، لانه لايحمل موضوعا ولا يقدم فائدة وانتفت منه المعايير الفنية والاقتدار التقني وتجردت منتجاته من الامتاع والادهاش والابهار التي أفرزتها الفنون الوظيفية الراقية.
وقد ظهرت عدة كتب و مطبوعات تفضح زيف "فنون الحداثة وما بعد الحداثة" وصلاتها المشبوهة وتمويلها السياسي، منها على سبيل المثال:
- د. زينب عبد العزيز، لعبة الفن الحديث بين الصهيونية- الماسونية وأمريكا، القاهرة، 1990؛
- د. عز الدين شموط، نقد الفن التجريدي، دار كنعان للدراسات والنشر، 1998؛
-Сynthia Freeland, But is it art, Oxford University Press, 2002 ;
-Julian Spalding, The Eclipse of Art, Tackling the Crisis in Art Today, Prestel, 2003;
-Frances Stonor Saunders, Who paid the Piper, London, 199.0
والذي عبّر عنه أدوارد سعيد "بالعمل الضخم في تاريخ البحث".
فالفن ليس من الالعاب السياسية البهلوانية، ولا هو نرجسية وتقوقع وزيف، بل رسالة ثقافة وأمانة في وجدان الموهوبين المبدعين ومسؤلية أمام شعوبهم، لان الفن الحقيقي ليس للفن ولا للتجارة بل من أجل فائدة وسعادة الانسان. ترى ماذا سيبقى من "فن الحداثة" للتاريخ؟ أم ان التاريخ لايهم هؤلاء "الفنانين" الذين يذكّرون ب"الحكمة" التي عبر عنها رئيس الولايات المتحدة الامريكية جورج دبليو بوش عندما سأله أحد الصحفيين في نهاية حكمه: كيف سيقيّم التاريخ فترتكم الرآسية؟ فاجاب الرئيس: لا اعرف لاننا سنكون من الاموات! وهكذا فقد أخفق "فن الحداثة" في تقديم تيّار متميز يمهد الطريق لابتكار صورة فنية اسلامية و / أو عالمية معاصرة مفيدة وجميلة. الفرق بين القطيعة والتواصل كما كان احداث القطيعة بين الشعوب وتراثها الثقافي، ولا يزال، من أكبر جرائم الاستعمار والعولمة؛ اذ يمتد الجانب البربري الدموي من العولمة الى الهيمنة على العالم وفرض تبعية الشعوب ومواردها للامبراطورية الامريكية؛ ومن ذلك "خلق" انسان نمطي عالمي بالقوة والمال بجعل ثقافة الغرب مجالا أوحدا في التعليم والاستهلاك والسلوك والغذاء والشهرة والنجومية والموضة والفن على حساب حقوق وسعادة المظلومين وأنظمة تراث الثقافات التاريخية المتنوعة وصورها الفنية المتمايزة لشعوب المستعمرات والعالم. فالانسان وتراثه عند ساسة أمريكا وأوربا سلع تباع وتشترى وتهمّش وتباد كما أبيدت شعوب وثقافات أمريكا الشمالية وأستراليا وغيرها. ويوضّح هذا الاهمية الفائقة للتراث الاسلامي واتخاذه اساسا لوصل الحاضر بالماضي،نحو مستقبل افضل لدور فاعل للفنون يفيد الناس ويسمو باذواقهم الفنية وامتاعهم الجمالي.
التراث هو ثقافة الشعب الراسخة في كيانه وعمقه الروحي و التي تنتقل داخله من جيل الى آخر، فيوجه سلوك الناس وأنماط حياتهم. والتراث هو محصلة البيئة والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية والاحداث التاريخية في شتى ميادين المعرفة، الشفوية والمكتوبة، والعمار والتحف المنقولة. ويتمثل التراث الفني بما سلم من فترات مختلفة من التاريخ الثقافي الاسلامي من أفكار وتصاميم أجيال الامة في كل فن مما يعكس عصارة مواهب وعقول مبدعة بخيالها، وقلوب نيّرة بما تحمله من حب، وأيادي مقتدرة، ومعارف متنوعة، وخبرات متواصلة، وحكمة عميقة هي محصلة مستوى تطور الامة وابداعاتها وابتكاراتها ومساهمتها كرافد في الحضارة الكونية. فتراث الشعوب رسائل عالمية يفهمها كل الناس فتقرّب بينهم للتعارف والتعاون والبناء الانساني المشترك.
والتراث الحي هو الذي يتواصل مع الزمن فلا ينقطع ولا يتوقف، وذلك عبر اعادة اكتشاف لانهائية: فالانسان في تطور والمعرفة في تقدم والمحيط الاجتماعي والعالمي العام في تغير مستمر والقيم الجمالية والذوقية في تنوع وتجدّد. فالتراث علم واستيحاؤه ليس موضة ولا نزوة، بل ضرورة حياتية للاستفادة من الحي منه، مما تراكم روحيا وماديا. لذلك فان مايطرأ من ضغوط خارجية على التراث نتيجة تواصل الارهاب الاستعماري لن يقض على طاقة وقوة التيار الجارف للتراث، الذي مهما حصل فلن ينال من اعتزاز أهله به ولن يفصل الانسان عن معتقده وأصالته ولا عن ارتباطه بأرضه وبيئته. فالتراث رمز باعث ومحفز لابداع الشعب، وذلك لتجذره في أعماق المجتمع و في نفوس الناس الذين يحملونه بالوراثة؛ اضافة الى ماوصلنا من مواقع وتحف اسلامية، سواء تلك التي في المتاحف و المجاميع الخاصة أم في البيئة. ومن الامثلة المجيدة مدينة فاس المغربية، حيث يعيش الناس منذ مئات السنين في أجواء جمالياتها الاسلامية، سواء في حياتهم اليومية داخل مساكن وظيفية، مريحة ومزخرفة، أم خارجها في تخطيط المدينة وبناء عمارها بمقياس انساني.
وبذلك فان مستقبل الامة يمر عبر الحي من تراثها، فهو الجزء المنير للتطور: أولا، لاحياء ثقافة هجرها أهلها تحت ضغوط تواصل الظلم الاستعماري الطويل وتكريس الغرب لتخلف المسلمين، ومنعهم من بناء قاعدة معرفية علمية وتقنية لصنع حاضر قوي من ماض مجيد. وثانيا، للتصدي للارهاب الاستعماري الدموي والبشع عبر لغة الثقافة والفن والجمال خاصة في ظل الهجوم الكاسح للعولمة الوحشية، كما حصل بشكل صارخ ومدوي في كارثة العراق ومحرقة غزة. وثالثا، لرفع غشاوة الجهل والعنصرية عن مجتمعات الغرب وتعريف العالم بثقافة المسلمين بلا كلمة تقال ولا مقالة تكتب، فالفن الاسلامي هو من رسالة الاسلام، التي هي للناس جميعا.ان الشعب الذي يعيش تراثه ويتمسك به كمرجعية ثقافية وتاريخية للتطور لن تهزمه معركة ولا حرب، لان التراث روح الامة وحصنها الذي يربط الانسان بحب الوطن ويعزز ثقافة الدفاع عنه والحفاظ عليه وتطويره. ومن هنا فان تراث المسلمين مقدّس في الواقع المادي الملموس والمعاش، ومقدّس في مخيلة الامة وبنائها النفسي، ومقدّس في صورته الفنية الحية الواقعية الحقيقية الصادقة التي تمثل الرمز المعبر عن الهوية الاسلامية، ومقدّس يعكس روحانية منتجيه، فهوجزء من العاطفة الدينية والفكر الاسلامي، ومقدّس لانه منجم وكنز قديم لمرحلة قادمة. وهكذا ألهم التراث الفنانين والصناع لاستمرارية الصورة الفنية الاسلامية والتي احترمها المسلمون وتمسكوا بها ومنحوها الحرية لتتواصل وتتجدد لتقدم نموذجا للاممية الاسلامية التي تقر التفاعل بين الثقافات عبر تعارف وتساكن وتعايش "التنوع البشري الخلاق" ( عنوان تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية باشراف وتقديم: جابر عصفور، 1997 ) ضمن اطار الوحدة الاسلامية والمشترك الانساني.
وذلك على الضد تماما من الجوانب الشريرة للعولمة الامريكية- الاوربية الداعية لنشر "الفوضى الخلاقة" التي صاحبت الظلم والارهاب الاستعماري في كل مراحله، لكنها اشتدت في العقود الاخيرة فلم يبق الا اعلانها بغية العمل العلني للتخريب في الاقتصاد والسياسة والمجتمع كما في الثقافة والفن والذوق، والاجهاز على ما تبقى من التراث الاسلامي والغاء الدور الوظيفي الذي قدمه للناس مئات السنين، وذلك لاحداث فراغ تملاه نمطية الثقافة الاستعمارية الامريكية- الاوربية المهيمنة باسلوبها الحداثي- التجريدي الذي يطلقون عليه اسم " التراث العالمي" على انه الوحيد "المتحضر" و "الاصيل" " ذو الافكار السامية" الذي يجب أن يشكل البنية الثقافية لكوكبنا. فثقافات سومر وأكد وبابل وآشور والاسلام عندهم ليست أصيلة ولا متحضرة، لكن الثقافة هبة اختص بها "المحافظون الجدد" الذين ان كانوا قد ورثوا القوة فقد غابت عنهم الحكمة وطغت عليهم لوثة الهيمنة على العالم، فتحولوا الى حمقى خطرين خلّفوا كيانا ضاريا وطاغيا وظالما وجشعا انطلق في العالم يرتكب الجرائم ضد الانسانية بكل المقاييس؛ ومن ذلك عملية "تحرير العراق" بواسطة "الصدمة والترويع" وتجريب أسلحة دمار شامل محرمة دوليا على العراقيين وحصارهم بالجوع والعطش والظلام والمرض، مما أسفر عن قتل وجرح وتهجير وتيتم وترمل مايزيد على نصف الشعب العراقي، البالغ تعداده 28 مليون نسمة، وتفكيك نسيجه الاجتماعي واشاعة الفساد فيه، وتدمير البنية التخطيطية- المعمارية، وسرقة النفط بلا حساب، ونهب الاثار والتحف، وتلويث كل بيئة العراق: الماء والتربة والهواء لقرون قادمة والتي ستترك آثارها المدمرة على مدى أجيال لاحقة. وقائمة " التحضر" الغربي في فلسطين وأفغانستان والصومال ولبنان وغيرها من بلدان تعكس حجم شرورهم وبربريتهم السافرة. وهذا هو" تراثهم العالمي" الذي يبشرون به بني الانسان. ترى هل سبق ان قادت فوضى، وبالذات تلك المخطط لها مسبقا ان تكون " خلاقة" الى خير وتطور وازدهار واخاء انساني؟ جعل الحراك العالمي الذي خلفته هذه الغزوة الامبراطورية الاميركية الفاشلة مجتمعات العالم، وخاصة الغربية منها، متعطشة للتعرف بشكل أفضل وحقيقي وصادق على الثقافة الإسلامية. لذلك فان من أقدس واجبات المثقفين المبدعين الوطنيين تنظيم حركة احياء شعبية شاملة للثقافة الاسلامية لتزدهر مجددا، وتقديم وشرح ثقافتنا للعالم بالصورة والكلمة، خاصة وان المنظومة الثرية والمتنوعة للفنون الاسلامية ذات شخصية مستقلة ولغة بصرية مؤثرة بقواها الجذابة الحاضرة من العالم الملايوي الى الاطلسي ومن الفخار والخشب الى الفضة والذهب. والتحف الصياغية من العناصر المتعددة في ثقافة المسلمين التي توفر جانباً معرفياً متنوعاً وجميلا يمكن ان يخدم قطاعات كبيرة من السكان ويقدم لها المعارف الخاصة بالثقافة الإسلامية؛ فليس هناك أفضل من الفنون كمدخل جذاب ومشوق يوفر شعورا لذيذا بالحياة ويصل بيسر الى قلب وعقل المتلقي.
وصية.. وبراءة ذمة يتميز الصائغ عن أقرانه في الفنون الاخرى؛ اذ تعتبر الصياغة أحد الفنون الرئيسية والنادرة التي تتطلب تدريبا مكثفا يشمل معرفة بكل التقنيات الصياغية والسيطرة عليها، ومرانا يستغرق سنوات طويلة من العمل المتواصل، ومنذ الصغر، وجهدا فائقا وتركيزا وتأملا، وصبرا شاقا وجميلا في آن واحد؛ اضافة الى قوة البصر وصفاء الذهن، و كذلك الظروف الصعبة للتعامل مع المعدن والنار، والمسؤولية المالية للتعاطي بالمعادن النفيسة والاحجار الثمينة. كما يدرس المتعلم الدقة الهندسية وحذق التنفيذ وبراعة التوازن. فيرصف الصائغ كل ملليمتر من جسم المصوغة ليحوّل سطوحها الى تحفة جميلة بألق خاص ومتميز، تحفة أصيلة مدهشة ومبهرة يسعد بها الصائغ قبل غيره فتنسيه قساوة كده ومدة عمله. فالصياغة ادق الفنون، وليس غريبا اتخاذها مقياسا لافضل المنتجات الفنية على أنها(مصيوغة صياغة)، حتى الشعر صياغة ووضع الدستور صياغة الخ...وليس كالمصوغات مقدرة على الانتشار، خاصة الحلي منها، سواء المستخدمة يوميا ام في الاعياد والمناسبات الاجتماعية. فالمصوغات حلية الثقافات وأحد أدلة تطورها ورقيها. والمصوغة رمز صغير - كبيرلاصالة الثقافة، وأحد الشواهد الرفيعة على عراقتها وابداعها لما تعكسه من وظائف متنوعة وما لها من مكانة خاصة وصورة ثقافية متميزة وما تكشفه من معارف وأذواق لروح العصر في الزمان والمكان.
وللاسف تختفي التحف الصياغية الاسلامية من بيئة المسلمين سواء بتقلص صياغة الفضة الحديثة أم تدني جودتها، اضافة الى اختفاء اخر أجيال الصاغة "المعلمين/ الاسطوات"، وكذلك بفعل مسح السواح الاجانب لاسواق العالم الاسلامي، واتخاذ تجار العنتيك في اوربا وامريكا من "فضض" المسلمين مادة تجارية مربحة. وما يزيد الوضع تعقيدا هو فقدان نماذج كثيرة من الاسواق والمجاميع الخاصة وخزين الاسر التقليدية؛ بالاضافة الى غزو المنتجات الصياغية الاجنبية لعالم المسلمين. وبذلك تتقلص فنون الصياغة الاسلامية وتتشتت تحفها، وتنقرض نماذجها، ويبقى وجودها في أحسن الحالات على شكل صورة او وصف في الكتب المتخصصة.
ولكي لايصل بنا الامر الى مستوى الكارثة التي عبّر عنها آلان غودونو، مدير معهد التراث الافريقي في بنين، مثلا، "الى ان 95% من التراث الفني العائد الى أفريقيا جنوب الصحراء موجود خارج القارة، مما يحرم الافارقة الشباب من الاحساس بهويتهم"، (" رسالة اليونسكو"، العدد الثالث-2007 / المقال الاول )، فانه يجب الحفاظ على ماتبقى من تراثنا وتسجيله واحياءه.
أكثر من 11 ألف تحفةتمثّل "مجموعة سعد الجادر لتحف الصياغة الاسلامية" ( أكثر من أحد عشر ألف تحفة ) قطّاعا فريدا من تراث المسلمين الفني والثقافي، وهي لم تدرس بعد بشكل واسع، وليس هناك ثبتا بمكوناتها، وفيها ثروة من المعلومات مثل اهمية التحف الصياغية الاقتصادية والاجتماعية في حياة المسلمين، ومعرفة عادات وأذواق وموضات الصياغة في مجتمعاتهم، وتقصي تأثير مفاهيم تحريم التصوير والتزين بالذهب، وفك الاشتباك بين رجال الدين والفنون الاسلامية فيما يتعلق بالمصاغ، وتتبع المصادر الثقافية والفنية للزخارف والرموز و اصولها السابقة للاسلام وتطورها وانتشارها لاحقا، ودراسة لغة التجريد في تكوينات الحلي الاسلامية، والقاء الضوء على الاشكال والمفردات والوحدات الزخرفية غير المعروفة في النماذج المنشورة عن التحف الاسلامية، وتبيان المؤثرات الصياغية المتبادلة داخل العالم الاسلامي، وبين المسلمين والثقافات الاخرى خاصة بين الثقافتين الاسلامية والغربية، وتثبيت أسماء المصوغات بالعربية الفصحى وبلغات المسلمين الاخرى وباللهجات المحلية، ووضع ثبت بأسماء الصاغة ونبذة عن كل منهم وأوضاعهم في مختلف مجتمعات المسلمين، وكذلك بالنسبةلاماكن الصياغة، وعلامات الوسم، وأنواع عيار الفضة والذهب المستخدمة في الصياغة، ومتابعة تطور علوم التعدين، وتحديد أثمان المعادن النفيسة، وأجرة الصائغ نسبة لاجرة العمل اليومية في مختلف الازمان والمجتمعات، وتحديد دور المسكوكات في الصياغة الخ..
لذلك فانه اذا فقدت أو تفتّت هذه المجموعة ستفقد معها كل المعلومات المتصلة بها؛ وسيضيع منّا قاموس مهم وثبت صياغي لايعوّض. أما اذا حفظت وصورت وعرضت فستقدم معارف جديدة ورؤية اضافية لابداعات فنوننا تساعد على نهضة نوعية في دراسة الفنون الاسلامية وسبل بعثها على اسس معاصرة، وكذلك لتقديمها الى العالم كرسالة مادية وملموسة للروح الابداعية للمسلمين وأحاسيسهم الفنية وأذواقهم الجمالية ومعارفهم العلمية واقتدارهم التقني. رسالة فن وتعارف مع ثقافات الامم الاخرى.
بدأت بناء هذه المجموعة عام 1958م باقتناء أول قطعة في بغداد وكان دبوساً معاصراً من الفضة يحمل صورة الراحل عبد الكريم قاسم، قائد ثورة 14 تموز، وواصلت جمع التحف الفضية بموازاة دراستي وعملي في تخطيط المدن. وخلال هذه الفترة المبكرة لاحظت ان موضوع فنون الصياغة الإسلامية مهمل في كل من كتب تاريخ الفن وفي المتاحف العالمية، وان كميات ضخمة من "فضض" المسلمين تذوَّب وتحوَّل إلى سبائك صامتة. لذلك كان الهدف الأساسي من بناء هذه المجموعة هو انقاذ مايمكن انقاذه من الإذابة والحفاظ على تراث الصياغة الإسلامية لأجيال المستقبل كتعبير فني انساني وأدلة تاريخية وثقافية ثمينة ومفيدة وجميلة تعكس جانبا من طبيعة المجتمعات التي استخدمتها، وعلى ان الاسلام لايحرم الزينة والفن والجمال ضمن حدود الاعتدال.
وقد كانت المبادرة الأُولى لتقديم هذا الموضوع من خلال نشر كتابي ( الفضة العربية والإسلامية، لندن 1981). وبعد سلسلة من الفعاليات الثقافية المتواصلة أصبحت هذه المجموعة معروفة عالمياً بعد أن كُتب عنها الكثير وبعد أن حظت بستة معارض دولية في كل من لشبونة والخرطوم والرياض واستوكهولم وكوالالمبور ولندن. وانا باني هذه المجموعة، قطعة قطعة، اذ جمعت ماتفرق وتشتت وأهمل وتسرب، وعنيت بكل ماجمعت تنظيما ودراسة وتخزينا وتأمينا، وبذلت في سبيل ذلك أموالي ووقتي وطاقتي وشبابي، وأنا صاحبها وحارسها ومؤلف عدة كتب ومقالات متخصصة عن فنون الصياغة الإسلامية. والمجموعة محفوظة في المنطقة الحرّة بمدينة زيورخ السويسرية منذ عام 1979. تكمن القيمة الرئيسية لهذه المجموعة في تكاملها وفرادتها، ومن أهم خصائصها:

- تزيد قطع المجموعة على أحد عشر ألف تحفة متنوعة مصنوعة من الفضة، والفضة المعشقة بالذهب والأحجار الكريمة و الثمينة واللؤلؤ والمرجان والعنبر والعاج والمينا الملونة والسوداء؛ منها ما يقرب من سبعة آلآف حلية، وألفي نموذج للإستخدام البيئي "كالمباخر والمحابر ومرشات ماء الورد والشمعدانات والعلب والزهريات والأباريق والطاسات والاواني المتنوعة..."، وألفي مسكوكة ( من العصر العربي قبل الإسلام وفي فجره وعبر مختلف الأُسر الإسلامية الحاكمة )، ومائة وخمسون سيفاً وخنجراً وسكيناً، وثلاثمائة ختم ووسام وميدالية ؛
- تغطّي المجموعة جميع الأقاليم الإسلامية من الفلبين شرقاً مروراً بالعالم الملايوي وشبه القارّة الهندية ووسط آسيا والبلقان والقوقاز وإيران وتركيا والعراق وسوريا وفلسطين ومصر وشبه جزيرة العرب وانتهاء ببلاد المغرب وغرب أفريقيا ووسطها وشرقها ؛
- يمتد تاريخ المجموعة إلى اكثر من ألف وأربعمئة عام؛ وبينما ترجع معظم تحفها إلى القرون الثلاثة الماضية، فإنها تتضمن تحفاً مدموغة من قرون سابقة. وربما هناك نماذج أُخرى تعود إلى فترات مبكرة لأن كثيراً من قطع المجموعة غير مدروس ولا موثّق تاريخياً؛ كما أن تحف الصياغة الإسلامية نادراً ما كانت توسم. وبذلك تعكس هذه المجموعة مشهداً فريداً لصياغة المسلمين منذ فجر الإسلام وحتى النصف الاول من القرن العشرين. كما تمثل قطاعاً مهماً من تاريخ صناعة المعادن الإسلامية ؛
- تعكس المجموعة اللغة الزخرفية والتصويرية المعروفة في الفنون الإسلامية من كتابية وهندسية ونباتية وحيوانية وآدمية وتجريدية ؛
- نُفذت تحف المجموعة بمختلف التقنيات الصياغية وذلك من عمل آلآف الصاغة غير المعروفين والذين لم يثبّتوا أسماءهم على التحف التي أنتجوها، بل عكسوا احترافيتهم وبثوا فيها الروحانية الاسلامية والجمال الذي يحكي قصة هذا الجانب المغمور من الثقافة الاسلامية الاكثر دقة واتقانا وتميزا في لغته الزخرفية المنفذة على مساحات صغيرة من المعدن النفيس؛
- تعتبر مكوّنات المجموعة بمثابة وثائق ذات الأهمية الأكاديمية والتقنية والجمالية، والوظائف الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، التي تعبّر عن مثمنات المجتمع وتقاليده وأذواقه الفنية؛
- ان احد اهم وأثمن المزايا في هذه المجموعة انها خلافاً لطرز الفنون الإسلامية المنفذة على مواد كالطين والخشب والورق والزجاج والنحاس وغيرها، فإن فنون المسلمين في هذه المجموعة منفذة على الفضة، المعدن النفيس الذي يحتفظ بذاته بثمنٍ عالٍ يتصاعد عبر الزمن في أسواق البورصة العالمية ولدى الصاغة؛ يضاف الى ذلك اننا لو قارنا أسعار التحف الصياغية بأثمان زمانها، ونضيف اليها أجرة ساعات العمل لفنانين موهوبين وتقنيين ماهرين سنجد بأن الثمن الحقيقي ل"عنتيك" المصاغ عال جدا؛
- ان الفضة معدن نفيس نظرا لندرته في الطبيعة وصعوبة استخراجه والطريق الطويل والمكلف و الجهود المضنية اللازمة لتحويل الفضة من معدن في منجم الى تحفة فنية. وللاسف فقد تم تذويب،ربما، الاف الاطنان من التحف الصياغية دون الاهتمام بما تختزنه هذه التحف من معارف متنوعة وتقنيات فذة وابداعات جمالية مدهشة. فمأساة التحف الصياغية من المعادن النفيسة انها الوحيدة بين المصنوعات المنفذة على مواد اخرى كالفخار والخشب والزجاج والعاج والاحجار الثمينة وغيرها التي اذا تكسرت وتهشمت فانه يبقى في بقاياها وشظاياها ادلّة تقنية وزخرفية وفنية وجمالية؛ اما اذا ذوبت فانه لن يبق منها شيئا على الاطلاق، بل تتحول التحفة الصياغية والتاريخية الى مجرد سبيكة صمّاء وجرداء. كما ان تحف هذه المجموعة أصيلة، صنعت بالات وادوات يدوية من قبل اجيال من الصاغة الذين توارثوا فنونها وأشكالها وزخارفها، وحافظوا على طرازها وطوروا وجددوا وابتكروا وأبدعوا حتى وصلت الى زماننا سالمة من شتى مدن وقرى المسلمين.
وبذلك يتضح جلياً بأن الشمولية والإتساع والتكامل الذي تتميز به هذه المجموعة تجعلها فريدة عالمياً، إضافة إلى أنها مرجع تراثي وثقافًي وفني، إسلامي وإنساني، مهم ومتميز. معين ممتاز لمختلف الدراسات
وهكذا فان في " مجموعة سعد الجادر لتحف الصياغة الاسلامية" معين ممتاز لمختلف الدراسات، خاصة اذا عرضت كجزء من متحف للفنون الاسلامية أو أقيم لها متحف منفرد، اذ لايوجد متحف في العالم لفنون الصياغة الاسلامية، مما يحقق فوائد للصائغ والفنان والمؤرخ والمثقف والمجتمع. انها ثروة فنية وجمالية وثقافية وتاريخية عربية واسلامية وانسانية؛ علما بان قاموس الصياغة الاسلامية هو أساسا ما نفذ بالفضة لان ما صنع بالفضة يفوق كثيرا ماانتج بالذهب، كما ان ماوصلنا من تراث المصاغ الذهبي الاسلامي قليل ونادر وفريد. لذلك فان هذه المجموعة كنز لايقدر بثمن لاحياء تراث الصياغة الاسلامية التي هجرت ويهددها الانقراض، بينما يمكن بعثها لتنتشر في العالم حتى بافضل وأوسع مما انتشرت به زرابي وسجاد المسلمين، التي اصبحت تحفا عالمية مفيدة وجميلة تستخدم في البيوت و تعرض في المتاحف؛ خاصة وأن المصوغات صغيرة ويسهل نقلها، كما ان سعر الفضة في متناول مختلف فئات المجتع.
ولا أحد يأمن على سلامة هذه المجموعة ووحدة كيانها من شرور ونكبات زماننا الردىء والمعقّد والخطير مالم تنقذ وتحفظ وتنظم وتدرس وتعرض.
ان مجموعة كهذه لاتعتبر ملكا شخصيا، ولم أصنع قطعة واحدة منها، وتحفها ليست بضاعة موجودة ومتوفرة في كل زمان واي مكان، بل يجب ان تكون ملكية اسلامية وانسانية مشاعة، ومن واجب المسؤولين عن التراث المادي الاسلامي ضمها الى الممتلكات الثقافية الاسلامية ووضعها في خدمة المهتمين من كل العالم؛ اذ يجب على الدول والاجهزة العالمية المعنية تحمل مسؤلياتها التاريخية والثقافية وفي مقدمتها الحفاظ على تراث الشعوب بكل فروعه وبكل الوسائل المتاحة وتطوير الثقافة الفنية في البلاد وتوجيه أجيال المبدعين لاستقاء الحاضر من استلهام الحي من أصالة تراث الماضي، وذلك بالاستفادة من التطور العلمي والتقني والثقافي والفني المعاصر بعد أن أصبحت كل ثقافات وفنون العالم في متناول من يريد النهل من الاصيل من تجارب الشعوب ليستفيد منها ويتواصل معها بالتأثير والتأثر والاثراء والتكامل بعيدا عن الظلم والهيمنة والاستغلال. وبذلك يكتسب تراكم التراث هوية معاصرة وأصيلة تربط التراث بالفن المعاصر وتنتج حداثة واعية وحقيقية تولد فنونا مفيدة وجميلة لزماننا وللمستقبل.
لقد كان كدّي وطموحي وحرصي عقودا بعزم قويّ وارادة لاتنثني لتمويل تخزين هذه المجموعة و التأمين عليها بغية ان اجدها في متحف انظمه وانا على قيد الحياة، لكن المحزن ان الحال بعيد عن هذه الامنية الواقعية التي لايكلف تنفيذها وتعميم فائدتها الكثير من المال. وأحمد الله وأشكره الذي مكّنني من الوصول الى هذه المرحلة المتقدمة من الحفاظ على هذه المجموعة، ولا ازال بامل ان اجد الجهة التي تتعاون على رعايتها: دولة او مؤسسة مسلمة من المسؤولين الحريصين على تراث امتنا من الضياع والتفتت.
واجب ومسؤولية تجاه ثروة مهمة
من هذا المنطلق ومن ايماني العميق أولا، بأن جمع وحماية تراثنا واجب كل المسلمين القادرين، وثانيا، بان المستقبل يمر عبر الحي من التراث؛ فانه يقع على عاتق الجهات العربية والاسلامية المعنية مسؤلية تاريخية وثقافية في دعم جهود المواطنين والمثقفين لانقاذ تراثنا من الدمار والضياع؛ واشراك الشعب بتراثه والاستفادة منه والتمتع به، وعلى رأس ذلك فهرسة تراث الامة كجزء وركيزة اساسية للتطور، لان تاريخ المسلمين يبقى ناقصا بدون صيانة ثقافتهم وتسجيل وحفظ تراثهم، اضافة الى كونه واجبا مهما نحو الاجيال القادمة. ومن هذه الاسس ارسلت الرسائل ونشرت المقالات داعيا الى فك الحصار عن هذه المجموعة. فمنذ عام 1981 ولحد الآن اتصلت بمختلف الحكومات والمؤسسات والهيئات الفنية والثقافية العربية والاسلامية والعالمية المسؤولة والتي يهمها أمر التراث الفني العربي والاسلامي والانساني للحفاظ على هذا الكنز الثمين مؤكدا بأن تشتّته وتفتّته وفقدانه لوحدته وضياع تكامله الفريد أمر حتمي.
لكن للاسف فان المؤسسات والمنظمات العربية والاسلامية وغيرها المعنية تعقد المؤتمرات وتخرج بخطط وتوصيات لحفظ التراث والنهوض بالصناعات التقليدية، ومتابعة تراثنا خارج الوطن الاسلامي؛ لكني عندما أتوجه اليهم لدعم هذه المجموعة الجاهزة، فهم يجدون الحجج لاهمال المشروع. والاكثر غرابة ان المسؤولين ينادون الهيئات والمنظمات العالمية مطالبين باسترجاع تراثنا الذي تسرّب الى الخارج بطرق غير شرعية على رأسها النهب الاستعماري؛ وفي الوقت الذي لم يستردوا من تراثنا الغالي شيئا يذكر فان المؤسسات التي يديرها هؤلاء المعنيين لاتزال تفقد آلاف التحف الاخرى مما ينهبه الاجانب ويهربه التجار دون حسيب ولا رقيب. فمسؤلينا هؤلاء يبكون على الماضي ويضيعون الحاضر ولا يشيدون للمستقبل!
لقد تجمّعت لديّ ثروة صياغية هامّة، لكن حراستي لهذا الكنز الثقافي والتاريخي لاتعني شيئا اذا استمر حجب هذه الثروة عقودا أخرى في سجن تحت الارض وفي بلاد أجنبية؛ اذ ان تقديم المجموعة للناس واشراكهم بتراثهم هو الاعتزاز الحقيقي بهذا التراث والمبرّر الانساني لحراستي له.
وهكذا ناديت ولم أجد من يسمع النداء، عدا استجابات قليلة لكنها ثمينة وكريمة من مؤسسات اسلامية واخرى غربية عكست الوجه المشرق للاستشراق والتقريب الصادق بين الثقافات والتعارف والحوار الحقيقي بين شعوب الغرب والمسلمين؛ فشكرا لهم لدعم هذه المجموعة ومساهمتهم في تقديم موضوع الصياغة العربية والاسلامية للعالم وتوسيع دائرة التعريف بالمصاغ الاسلامي باشراك المسلمين وغيرهم بهذا الجانب من التراث الثقافي للمسلمين؛ وتحية احترام واكبار لكل من ساند المجموعة بطباعة كتاب أو/و اقامة معرض لمنتخبات منها والذين سيجدون اسماءهم وشروحا لما قدموه في كتابي القادم، ان شاء الله، " قاموس الصياغة الاسلامية"، مدوّنة بحروف من نور.
تبرئة ذمة..
و الان، ولتبرئة ذمتي فنيا وثقافيا وتاريخيا واسلاميا، وبعد ان استنفذت كل مافي استطاعتي من سبل، أعلن بأني في آخر مراحل التفاوض مع جهة من خارج العالم الاسلامي قدّمت استعدادها لتصوير كامل المجموعة وطباعة ثبت شامل بجميع تحفها واقتنائها بكليتها عدا التحف الصياغية العراقية التي ارغب بجعلها نواة مؤسسة فنية عراقية عامة بالاموال التي ساتسلمها من بيع المجموعة.
و في الوقت الذي يسعدني فهرسة المجموعة، فان الامر ليس كذلك بالنسبة لهجرتها خارج العالم الاسلامي، لكني مضطر بحكم قساوة الظروف وتقصير المسؤولين، وكيد الكائدين، وضغوط المتربصين وممتهني صناعة المشاكل. ومع ذلك فانه لا يزال هناك سعة من الوقت امام الهيئات العربية والاسلامية، خاصة المسؤولة، للحفاظ على هذه المجموعة داخل عالم المسلمين. اللهم اشهد أني بلّغت.
.. ووصية
كما أود الاضافة لهذا الاعلام وصيتي المعلنة هذه جهارا، و التي ارجو من كل من المتحف العراقي ببغداد ومنظمة اليونسكو، ان وافقت، التعاون على تنفيذها؛ فقط، واؤكد فقط في حالة وفاتي او استشهادي. ويتم تنفيذ هذه الوصية في وقت امني ملائم للعراق. وبنود الوصية هي على النحو التالي:
ـ نقل كامل مجموعتي من المنطقة الحرة في زيوريخ الى المتحف العراقي ببغداد. والمجموعة محفوظة في عشرين صندوقا خشبيا تزن اكثر من طنين من التحف الصياغية الاسلامية؛
-نقل كافة لوحات وتخطيطات أخي خالد الجادر المحفوظة مع مجموعتي في صندوقين منفصلين الى المتحف العراقي ببغداد؛
-نقل مكتبتيّ في كل من لندن وبغداد، اضافة الى مكتبة أخي خالد الجادر ببغداد الى المتحف العراقي ببغداد.
وجعل كل ماتقدم وقفا يُحفظ، لايوهب ولا يورّث ولا يفتّت؛ وقف ثقافة و فن وجمال لفائدة الجميع، كمصدر ومنبع للمنفعة والخير يفيض على مختلف جهات المعرفة المتواصلة؛ لما لهذا التراث من دور متجدد في تطوير الانسان والمجتمع والثقافة الاسلامية والحضارة الانسانية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف