فصل روائي مهدى إلى الطيب صالح: الهجرة إلى الشمال
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"هل تتكلمين العربية؟ "، " Do you speak english ?"،" Parles- tu le franccedil;ais ? " ولا من مجيب سوى الابتسامات العذبة التي تذيب القلب وتحرق الوجدان. لمَ لمْ أتعلم اللغة الإسبانية. كم كنت غبيا؟ التجأت حين أعياني البحث المضني عن فتاة إلى صديقي مصطفى، وجدته، ضمن جماعة من المغاربة والتونسيين، يحتسون الكؤوس تباعا. حدثت الجميع عن خيبتي، فتطايرت الضحكات ذات اليمين حينا وذات الشمال حينا آخر، قال أحدهم:"لا عليك، ما أكثر النساء الجميلات في هذه البلاد. حين نصل إلى مدريد، سآخذك عندهن، فأنا أتكلم اللغة الإسبانية بطلاقة، كما أني خبير بالنساء الإسبانيات، فأنا كما ترى طنجاوي، وأهل طنجة أدرى بأهل مدريد من البيضاويين...!، قلت ضاحكا:"في هذه، أنا معك"، ثم جلست أتابع معهم بقايا السهرة، في انتظار قدوم القطار. وجاء القطار ليلا، وصعدنا نتسابق للولوج إلى المقصورات المليئة بالنساء، كنا شبانا في مقتبل العمر، وكانت النساء الأوربيات يمثلن لنا قمة الأنوثة المشتهاة، كنا ندعي الأدب والفن، وكانت المرأة الأوربية مثالا للصديقة المرغوبة، هكذا جلسنا في إحدى المقصورات المضاءة بنورهن، ألقينا التحية، فجاءنا الرد بأحسن منها، فبدأنا نتباهى بالحديث باللغة الفرنسية، حينا والحديث بالإنجليزية حينا آخر، لكنا انصرفنا حين بدأ المغاربة الشماليون، من طنجة وأصيلا والعرائش يتحدثون باللغة الإسبانية، لغة البلاد، إذ استطاعوا جلب أسماع حسناوات إسبانيا إليهن، في حين ظللنا نحن نتضاحك مدعين الفهم، ولا فهم، لكن ما أن اشتد الحديث وامتدت الطريق أمامنا، حتى بدأ الكل يتحدث، وبدأت الترجمة تباعا من العربية إلى الفرنسية إلى الإنجليزية إلى الإسبانية، ثم من الإسبانية إلى الإنجليزية إلى الفرنسية إلى العربية والكل منتشي، فرح مبهور، بهذا المجمع اللغوي الشبابي العالمي، ثم بدأت بعد ذلك لغة الموسيقى تتدفق، بوب مارلي، والبيتلز وناس الغيوان، والفيس بريسلي، وجاك بريل، وليو فيري، ويونس ميكَري ونجاة اعتابو. قالت فتاة مغربية:"تعجبني نجاة اعتابو كثيرا" إنها تصور العلاقة الإنسانية بين الذكر والأنثى، بشكل طبيعي وحين أثقل عليها أحد الفرنسيين بالأسئلة، أجابته ضاحكة، وهي تنظر صوبنا:"Jrsquo;en ai marre agrave; Lawlid!" فاهتززنا ضحكا، في حين ظل الشاب الفرنسي فاغرا فاه دون أن يدري أن هذه الجملة التي رَمي بها من لدن شابتنا هي جزء من أغنية شهيرة للفنانة نجاة اعتابو ذاتها، وحين شرحنا له ذلك، شاركنا في الضحك هو الآخر. كنت عازما على اصطياد أول أنثى أوربية، ولتكن من إسبانيا ومن مدريد تحديدا، ظلت عيوني تبحث وتحملق وتنظر وتحدق، وظلت عيون الفتيات اللواتي كن معنا، إما محايدة أو متسائلة أو مترددة، فجأة وبدون سابق إنذار نهضت مدعيا استنشاق الهواء في الخارج حين لمحت فتاة أمام النافذة. اقتربت منها وألقيت التحية بالفرنسية، فأجابتني بالإسبانية، فأكملت حديثي معها بالإشارات، عدت إلى اللغة الأولى، فالرجوع إلى الأصل أصل، أعجبتها اللعبة فسايرتني فيها، وشيئا فشيئا التقت شفتانا معلنة الحب في كامل الوضوح. كانت الشفاه تتكلم لغتها، في حين تعطلت لغة الكلام، وامتد الوقت جميلا، عبقا، متألفا كأحلى ما يكون. حين وصلنا إلى مدريد نزلت تاركة إياي غارقا في النشوة، بعد أن مدتني برقم هاتفها، ملحة علي بالإشارة بضرورة تعلم اللغة الإسبانية، وعدتها بذلك وعدت إلى أصحابي. كان الكل غارقا في النشوة. ارتميت فوق الكرسي الممتد وسرحت بعيدا، إلى أن غلبني النوم، كنت متيقنا بأن متاعي في أمان، فصديقي مصطفى تركته مستيقظا، كما أن علاقتي بالأصدقاء المغاربة الجدد، قد توطدت، في الساعات التي تحدثنا فيها، واشتركنا معا الطعام خلال مرورها. لم أر مدريد كما كان يجب أن أراها، خصوصا وقد عانقتها كثيرا في أشعار نزار قباني وعبد الوهاب البياتي. لم أر لعبة الكوريدا ولم أشاهد الثيران الهائجة وهي تجري بين الشوارع والأزقة، لم أر مدريد، حتى وإن قبلت إحدى أجمل بناتها، قبل أن تطأ قدمي أرضها. كان مروري هذا بها، مرورا خفيفا كمرور الكرام في المتخيل الشعبي العربي، لكني وعدت النفس بعودة قريبة إليها وأنا على دراية تامة بلغة أهلها، وصلنا إلى الحدود الإسبانية الفرنسية، كان الصف طويلا، حين جاء دوري تقدمت بهدوء، سلمت جواز سفري، فتم طبع تأشيرة الدخول عليه، انتظرت صديقي مصطفى، قليلا، ثم توجهنا معا إلى أقرب مقهى لننطلق منها إلى محطة القطار الذاهب إلى باريس. استقبلتنا باريس كأحسن ما يكون الاستقبال، فقد نزلنا من القطار إلى أرضها ونحن بصحبة أجمل نساء الدنيا، كانت فرانسواز تقبض على يدي، في حين كان مصطفى يعانق كريستين. لقد أحببت باريس كثيرا من خلال ما كنت أقرأ عنها سواء باللغة العربية أو اللغة الفرنسية، من ينسى كتاب "الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي، ومن ينسى "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، ثم من ينسى "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وهي كتب سردية،تحدثت بحب عن هذه المدينة الرائعة. مدينة الأنوار والحب والشعر. قالت لي فرانسواز وهي تنظر إلي في زهو:"طيلة حياتي كنت أحلم أن ألتقي بفتى عربي. فتى آت من ألف ليلة وليلة إلي، يحملني بين ذراعيه، ويرميني أرضا، ثم يدثرني بجسده القوي"، قلت لها مسايرا تخيلاتها العذبة هاته:"وأنا طيلة حياتي، كنت أحلم بفتاة آتية من بلد النور والمعرفة والحب، من بلد فولتير وجان جاك روسو وسارتر وألبير كامي، كي أسكن فيها وتسكن في". ظللنا في باريس ثلاثة أيام، متسكعين في شوارعها ومقاهيها ونواديها الليلية وبعض مكتباتها الشهيرة، وحين حان وقت الفراق، أخذنا صورة مجتمعة بالقرب من برج إيفيل. ودعت فوانسواز التي غلبها البكاء فانهالت علي تقبيلا كما ودعت كل من صديقي مصطفى وصاحبته كرستين، أخذت القطار الذاهب إلى ستراسبورغ وكلي خوف من المجهول الذي ينتظرني هناك. فأنا لا اعرف أي إنسان في هذه المدينة، كما أن مؤسسة "كروز" المكلفة بالأحياء الجامعية فيها قد أخبرتني في رسالة عاجلة بعدم وجود أي غرفة شاغرة في هذه الأيام، وما علي إلا البحث عنها بمفردي وحسب إمكانياتي الشخصية. هكذا وصلت إلى ستراسبورغ وحيدا. لم يكن معي إلا أمتعني. سكادو فوق الظهر، وكاسكيطة فوق الرأس، في حين كنت مرتديا لبدلة دجينز كاملة. كانت اتجاهي صوب المقهى مباشرة. وضعت أمتعتي وطلبت قهوة سوداء كالعادة، ثم لم ألبث أن أشعلت سيجارة من النوع الرفيع، وشربت دخانها بعمق، كانت المقهى قد بدأت تودع زبائنها، وكنت على وشك الذهاب نحو النادل لأسأله عن مكان الحي الجامعي الذي عمل اسم بول أبيل، حين شهدت صديقي خالد، يلج إلى المقهى، أية صدفة رائعة هي، بالنسبة إلي؟، قلت في نفسي:"والله إني مرضي الوالدين"، ناديت عليه، فقصدني فاتحا ذراعيه، تعانقنا أمام الملأ الفرنسي، وامتدت ضحكاتنا لتملأ المكان، قال لي:"لعلك قد وصلت الآن" ثم أردف:"لقد تأخرت كثيرا، فكل الطلبة المغاربة، أصدقائنا، قد تسجلوا في الجامعة، واكتروا شققا، أو حصلوا على بعض الغرف في الأحياء الجامعية"، "قلت: والآن، ما العمل؟"، قال لي:"دع الأمر لي، إنك محظوظ حين صادفتني، لو لم تكن كذلك، لقضيت هذه الليلة متسكعا في الشوارع، كما فعلنا نحن لدى قدومنا، لنذهب من هنا الآن، وبعد أن ترتاح قليلا عندي، سأفرجك على مدينة ستراسبورغ". أديت ثمن قهوتي، وانطلقت معه. ركبنا الحافلة رقم 23، التي أخذتنا إلى حي ليسبلاناد، حيث يقع شاطو بورطاليس. هذا القصر الأثري الذي ظل شاهدا على التاريخ. أعجبت بالقصر وبغرفه المتعددة التي تحولت إلى مأوى للطلبة الجامعيين، كانت غرفة صديقي خالد كبيرة جدا، فهي في الأصل كانت مخصصة للاجتماعات العامة، هناك مدفئة كبرى، غير مشغلة، وهناك كراسي مركونة في غير انتظام. استلقيت على السرير بعد أن تخلصت من أمتعتي، ولم أدر إلا وأنا أسبح في سابع نومة، بتعبير إخواننا المصريين، رأيتني هناك في مدرستي، وأنا أقوم بإلقاء عرضي حول رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، وإحدى صديقات الدراسة المجدات تسألني:"ألا ترى معي أن مصطفى سعيد، بطل الرواية، كان مصابا بداء العظمة؟" أجبتها وابتسامة هادئة ترتسم على شفتي:"بلى، ولكنه كان جديرا بهذا الداء، فهو قد كان مختلفا عن باقي زملائه. تنبيه: فصل مقتطف من رواية " غرب المتوسط ") قيد الطبع(، و هي رواية تنتمي إلى نوع الروايات الحضارية وما بعدها، التي تطرح علاقة الشرق بالغرب،من منظور إنساني تكاملي مبني على المحبة والتسامح والتآخي،عن طريق تتبع حياة شاب في علاقاته المتشعبة مع الحياة الثقافية هناك. إنها رواية تعيد التفكير من جديد في روايات عربية سابقة من أهمها،عصفور من الشرق،لتوفيق الحكيم،و، قنديل أم هاشم،ليحيى حقي،و،الحي اللاتيني،لسهيل إدريس، وموسم الهجرة إلى الشمال،للطيب صالح،وهي بشكل من الأشكال امتداد لرواية " وقت الرحيل" للكاتب، والتي سبق نشرها ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية 2007. المغرب
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الانتصار للانساني
حسن اليملاحي -أخي نور الدينهنيئا لك بهذا العمل الذي ينفتح على الإنساني ويقرب المسافات القائمة بينها وبين الحضارات بالمعنى العام، كما يفتح افقا رحبا نحو عرفة الاخر. وأعتقد أن السبيل الناجح للقيام بمثل هذه المهام يبقى الإبداع الحقيقي.أما بالنسبة للنماذج التي سقتها فهي تتلاقى معها في الفكرة والهدف أما التجربة الابداعية فإنها دوما تنتصر للخصوصية والاختلاف على مستوى الحياة والعلاقة بالعالم.محبتي
تمجيد المحبة
نور الدين محقق -شكرا صديقي حسن اليملاحي على هذا التعليق الرفيع ... الرواية تسير بالفعل في هذا المنحى الانساني الكبير ....تحياتي ...