ثقافات

ثمرة الطرح الفلسفي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يورغن هابرماس فهد سليمان الشقيران: الحديث عن ثمرة الفلسفة، يجرنا إلى الحديث عن "أثرها" المشاهَد، ويمكن اعتبار الحداثة من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل (يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة)، بمعنى أن الحداثة بموضوعاتها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت "التقنية" -ذاتها-موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع يأتي من كون كل نظرية فلسفية هامة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، حيث يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، لكنني هنا سأطرح أبرز المحاور التي أسهمت الفلسفة في ترسيخها مستنداً على الفلاسفة الذين كان لنظرياتهم طابع "التدشين" ومن زاويتي سأطرح أهم آثار الفلسفة على الواقع:1-الإنسان كموضوع للدراسة:إذا كان فوكو كتب عن كانط (ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية) فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خاصة إذا وافقنا هيغل بأن فلسفة كانط هي (بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط) ووفق هيدغر فإن كانط هو: (رائد الحداثة الفلسفية) أما فوكو فيصف فلسفة كانط بأنها (عتبة الحداثة).
صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى هيغل، لكن ما يميز فلسفة كانط-حسب فوكو- أنه وضع الإنسان (كموضوع للدراسة) كما أنه -وفق فوكو أيضاً- (أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير، لم يعد مهتماً باتخاذ موقف من التفكير السابق بالقبول، أو الرفض، ولم يعد يقتصر على التساؤل عما إذا كان القدماء أفضل من المحدثين أو العكس، بل طرح مسألة الراهنية)، في الفلسفة مشروع عمق، ومشروع سطح، في العمق عروق نظريات دقيقة تهمّ المختص، وعلى السطح يمكن رؤية الأهداف التي تمسّ العيش اليومي، ومستوى وعي الفرد بالعالم وبالحقوق، وبالمعنى الوجودي العميق كما هو وصف فوكو لهم كانط.
هيجل 2-ترسيخ مبدأ الذاتية: وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق هيغل الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية. ويمكن الرجوع مرة أخرى إلى مفهوم الذاتية عند هيغل عن طريق يورغن هابرماس الذي يوجز دلالتها إلى الآتي:
أ-الفردانية: الفرادة الخاصة جداً وهي التي لها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتها.
ب-الحق في النقد: ويعني أن مبدأ العالم الحديث يتطلب أن على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مقنعاً.
ج-استقلالية الفعل: فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له.
د-الفلسفة التأملية ذاتها فمن خصائص العصور الحديثة، كذلك عند هيغل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تحتاز وعياً بذاتها.
من السمات الأساسية الملازمة للذاتية، هي العقلانية، والتي تعني إخضاع كل شيء لقدرة العقل، عبر البحث عن الأسباب والعلل، وهذا المبدأ عبر عنه ليبنتز لأول مرة في الصيغة التي لا تقول شيئاً من دون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولاً أو عقلانياً بهذا -وفق ليبنتز- يصبح كل شيء مفهوماً ومحكوماً من طرف العقل، وعبره يسود الإنسان العالم بعد أن يخلو من الأسرار.
3-تدشين الفضاء العلماني: يرى لوك فيري أن كانط هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، وهو الفضاء الذي لا يزال سارياً وسائداً في أوربا والغرب عامة، ويجدد هابرماس توضيحه لظرف كانط كاتباً: (فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة (علم، أخلاق، فن) مما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد، هذا بالإضافة إلى تقديمها للأساس الابستمولوجي لمشروعية المعرفة العلمية، وتشخيصها لجوهر فكر الأنوار، من حيث أنه ثورة ضد التراث والتقليد، ونقدها للعديد من المعتقدات المسيحية). ميشيل فوكو 4-نزع السحر عن العالم: هذه هي عبارة "ماكس فيبر" عن ثمرة الفلسفة، وربما كان من أبرز إنجازات الفلسفة، طرحها للرؤى القديمة التي اعتمدها البشر وراثياً لتصوراتهم للعالم على أنها مشكلات فلسفية، وفي نظر هابرماس فإن هيغل (أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإيحاءات والإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها في صيغة مشكل فلسفي) وكتب هيغل مرة (القلق هو مصدر الحاجة إلى الفلسفة) كما أن الفلسفة هي الوسيلة لصياغة العنصر، أو لتدوين جماع التأملات ونتائج التنظير، فـ(هي المكان الذي يمكن أن يتجلى فيه العقل كقدرة مطلقة على التوحيد) إن الفلسفة هي "الراسم" لحدود دوائر الثقافة (العلم، التقنية، القانون، الأخلاق، الفن، النقد الجمالي) وبعد أن كانت تلك النشاطات المعرفية متقاربة الحدود، جاء حدث التمايز وذلك في القرن الثامن عشر عبر الاستقلال الذاتي بين تلك الأنشطة (أبستمولوجياً، ومؤسسياً) وأصبحت فروعاً تضم بين أفيائها مجالات تتوسع باستمرار، وهذا التمايز طرح موقع "الاعتقاد" من دائر المعرفة، وهو التمايز الذي يشير إليه هيغل في رسائله، خاصة رسالة "المعرفة، والإيمان". كما أن مجرد طرح اقتراح "المنهج" الذي جسده ديكارت يعني إمكانية فكّ لغز العالم، وهو ما ساهم في تحريك جمود العقل البشري الذي كبّله الطرح الغيبي الأسطوري على مدى قرون، حتى خرج العقل من قمقمه وربض على المشكلات وصاغها كأسئلة يمكن لمشارط الفلسفة أن تعالجها. وأخيراً:
فإن مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية وذلك بتغيّر العصر، كما أن "أثرها" لا يبدو واضحاً للعيان، ونحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الرياضي "فريجه" الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب، فكتب إلى ابنه يتوسله أن يحتفظ بهذه الوريقات فسيأتي يوماً ما من يرى فيها ما يفيد؛ وهو ماحصل فعلاً مع قراءة براتراند رسل لها. مفعول الفلسفة يختلف عن المفاعيل الأخرى كالجهود السياسية، أو الأعمال الشعبية الأدبية من ناحية سرعة التأثير،، وبرأيي فإن الفلسفة تشتغل على لغة "القرون" ولا تعرف لغة السنوات والأيام.shoqiran@gmail.comأصل هذه المقالة ورقة ألقيت في "حلقة الرياض الفلسفية" في ندوة خصصت للبحث في "ثمرة الفلسفة".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف