العمارة والاخر
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
اولى تينك المقاربتين هي المقاربة المستندة على محاولات فرض القيم المعمارية الخاصة بها والتى تستقي مرجعيتها التصميمية من ما يسمى "بالمركزية الاوربية" Eurocentric وقيمها ومبادئها على خصوصية فضاءات بيئية وثقافية مختلفة عنها ومغايرة لها.
ثمة ممارسة ممّيزة يمكن رصدها في بعض اعمال المعمارين الغربيين العاملين في المناطق الجنوبية. وتشغل الان تلك الممارسة حيزا ملموسا من النشاط المعماري الذي نتكلم عنه. كثيرا ما تنطوي سمات تلك الممارسة المعمارية على مبالغة في تأكيد عناصر تكوينية محددة، تكون عادة مستلة من مفردات لغة العمارة التقليدية وتوظيفها بصورة مغالية في الحلول التصميمية للمباني المشيدة في تلك المناطق، توخيا، كما يطمح مصمموها الى تأكيد خصوصية المكان، ونكهته و"روحه". بيد ان النتائج المعمارية المترتبة جراء تلك الممارسة، والمعتمدة اساسا على الفهم السريع والسطحي لثقافة الاخر، وعدم التمييز ماهو اصيل و "شعبوي"، يجعل من تلك الممارسة، التى يلجأ اليها العديد من المصممين والحائزة على تقبل محسوس من قبل بعض المستفيدين، يجعل منها نوعا من الاستطرادات التوليفية الحافلة بالعناصر "المَعَـارضَة" الباستيشية Pastiche الرخيصة. وسوف لا نعير اهتماما كثيرا لتلك الممارسة، نظرا لخواءها التكويني، وحصر اهتمام "منجزها" في الاعلاء من غرائبية الفعالية البنائية والالحاح في تمجيد شعبويتها. والتى في الحقيقة لم يقدر لها ان تثري المشهد المعماري بامثلة تصميمة رصينة تغري في الاحتذاء والمحاكاة.
يتطلع الجهد المعماري الذي نتكلم عنه الى ممارسة نوع من تغاضٍ، وحتى تنصل عن مساعي اقامة تراتب هرمي Hierarchy بين الثقافات، معترفا باهمية وقيمة منجز الثقافات "الاخرى"، بعيدا عن الحكم عليها او تقييمها بمنظور يعتمد على قيم جمالية خاصة. وهذا الجهد الثقافي هو الذي يدفع بالمعماريين على وجه الخصوص للتعاطي مع مفهوم العمارة خارج اقانيم Hypostasis علم الجمال الكلاسيكي الذي سادت سلطته في الخطاب الفلسفي الغربي لفترات طويلةً. وبالتالي اضحى من الضرورة بمكان التعاطي مع العمارة بوصفها منتجا ليس فقط متشكلا وفقا لاشتراطات علم الجمال الكلاسيكي، وانما بوصفها صنيعا مشغولا بالاضافة الى القنوات المعرفية المؤسساتية، فانه ناتج ايضا عن تظافرمجموعة عمل الاجناس الابداعية الاخرى مثل الفنون البصرية والموسيقى الشعبية والفن الشعبي وحتى الفن الشفاهي، التى تشترك جميعا بذائقتها الفنية وفطنتها المكتسبة عبر قرون من التجريب في ارساء وتحقيق ذلك الصنيع. بعبارة اخرى يتأسس صنيع العمارة المهجنة من حضور "فرشة" مفاهيم متنوعة، مفاهيم ما انفكت تتشكل بصورة دائمة طالما كانت هناك جماعات بشرية تبتغي التفاعل فيما بينها، وتغتني باضافات مهمة من ذلك الخزين الذي يرفد العمارة والثقافة بقيم معرفية جديدة. من هنا تتكشف وتتبلور خاصية تكوينية جديدة طبعت الناتج المعماري بطابع خاص. وهذه الخاصية معنية بجعل تشكيلات الناتج المعماري غير مشروطة بحضور القيم الجمالية والمتطلبات الوظيفية والقواعد الانشائية لوحدها فقط، كما كان الامر متعارفا عليه من قبل، وانما تجعل ذلك المنتج وليد اشتراطات معرفية عديدة ومتباينة في اختصاصاتها بضمنها المعارف البيئية والتاريخية والانثروبولوجية وعلوم الاجتماع والاقتصاد السياسي.
تنزع رؤى المعماريين المهتمين بالمقاربة الثقافية التى نحن بصددها، الى التعاطف ومن ثم القبول بنتائج فعالية التهجين المعماري، الفعالية المعنية بتراكب مرجعيات ثقافية مختلفة، لانتاج منجز معماري جديد غالبا ما تكون لغته التصميمية على ايدي المعماريين الجادين ذا حضور مميز في الخطاب المعماري، جراء انتماء عناصره التكوينية الى خصوصية اجواء الثقافات المشاركة في عملية التهجين؛ لكننا يتعين ان نشير بان بلوغ ذلك المنجزالمتفرد كان دائما رهنا ً بحضور حالتين، أولهما التحقق من عدم تسييد او أفضلية ثقافة على آخرى، وثانيا التسليم بظاهرة اوجه الاختلاف بين تلك الثقافات، ليتسنى بعد ذلك الدنو بسلاسة الى تخوم المشاركة الفعالة. ويعد حضور هاتين الحالتين، امرا ً لا مندوحة منه لجهة اتمام مهام عملية التثاقف بصيغتها الابداعية.
من جانب آخر، تغدو ظاهرة الانزياح المعماري نحو "الجنوب"، التى نرصد موجتها الواسعة الان والتى بدأت حركتها في العقود الاخيرة الماضية، وكأنها تؤسس لمنتج معماري بخصائص معينة تتجاوز المرجعيات التى شكلتها طبيعة الثقافات الوطنية والقومية. بمعنى آخر، ان المنتج المعماري الجديد وان انتمى الى خصوصيات ثقافية معينة ومختلفة، فانه في ذات الوقت يسعى الى تجـاوزها فـي آن واحد. وهذا المنهج المركب الجدلي الذي يعتمد على مفهوم "الانتماء والتجاوز"، هو الذي يسم الفعالية الابداعية الخاصة بسمة الفرادة والتميزّ. فمن جهة يحرص المعماريون الغربيون العاملون في مناطق غير غربية، (وكذلك المعماريون غير الغربيين العاملين في بلاد اخرى غير بلادهم) الى ان تكون قراراتهم التصميمية منسجمة مع تنظير مستقى من خزين معرفي وجمالي محدد. بيدان توظيف مثل تلك القرارات اياها في فضاءات آخرى، وفي مواقع مغايرة كان يتطلب في كثير من الاحيان تصويبا وتعديلا مستمرين لسنن ذلك التنظير واشتراطاته؛ اي ان ثمة حراك لجدلية دائمة تتجاذب نوعية القرارات المنتمية الى اصول معرفية معينة، من ناحية، ومن ناحية آخرى، هناك الرغبة في مواءمة تلك القرارات مع اشتراطات المكان الجديد والعمل على انسجامها مع طبيعة المناخ والبيئة الثقافية المغايرة، ويتم ذلك من خلال تجاوز "دوغماتية" التشبث النصي في ادراك مفهوم تلك القرارات وعدم التسليم بمصداقيتها المطلقة.
ويظل "التناص" كاحد المواضيع المطروحة بقوة على بساط البحث في ادبيات النقد المعماري الحداثي، وهو يستقي اهميتة المعمارية من جانبين، فهو يثري المرجعية الفكرية لمصممي تلك الابنية بقيم معمارية مختلفة من جانب، ومن جانب آخر، يقدم للمعمار المحلي تمرينا ملموسا لاهمية تلك القيم والمبادئ المألوفة لديه، ولكن من خلال قراءتها بنكهة خاصة، نكهة متأتية من تأويل الاخر وتفسيره لها ضمن معاييرثقافته المختلفة ومستوى معارفة المهنية.
وتعد فعالية "التناص" Intertextuality وآليات التأويل مع منجز الثقافات المغايرة والمختلفة اثنيا ً وجغرافيا ً في مفهومها الابداعي، كوسيلة ناجعة وهامة في تنوع مسارات "حوار الحضارات"، الحوار الذي طالما سعت اليه البشرية وتمثلته ميدانا فسيحا لتنوع خلاق من دون حواجز ومن دون اوهام، يمكن لها ان تعيق حدوثه او تعرقل تبعاته. فالعصر الحداثي المنطوي على الزمن المتسارع والمكان المفتوح الذي توفره الثورة العلمية الرقمية الراهنة وفتوحاتها الكونية واختراعاتها التقنية هي سمات لواقع ملموس وليس افتراضي، ومن الصعب بمكان الان تجاهل هذه الحقيقة او انكارها او تغييبها.
والعمارة بصفتها منتجا ً تقنيا ًٍ وثقافيا لايمكن لها باي حال من الاحوال ان تظل بمنأي عن تلك الحقيقة ومتغربة عن هذا الواقع الجديد. ولئن اعتبرت التقنية كونها ظاهرة عالمية مشاعة للجميع ومستنبطة من قبل الجميع وبالتالي فانها مفهومة وقريبة من الجميع؛ فان الجانب الاخر المشكل للعمارة، الجانب المعتمد على مرجعيات ثقافية مختلفة، هو المعني في اكساب المنتج المعماري ما يدعى الان بـظاهرة "التنوع الخلاق"؛ ويجعل من الفعل المعماري حدثا ً مرتبطا ً بمكانه وقريب جدا من بيئته الثقافية، ويعمل منه بالاخير حدثا مفهوما ومقبولا. بيد ان هذه الخصوصية للمنتج المعماري الدالة على فرادته المعمارية وتنوع لغته التصميمة، يتعين ان لا تكون موضوعا لتراتبات فكرية او مجالا لتمركزات ثقافية تهدف لان تؤسس لنفسها بما يسميه "جابر عصفور" بالثنائية الضدية> والتى تعمل على انشاء مواقع خاصة بـ"المركز" واخرى بـ "الاطراف" متضادة من منظور القيمة والاهمية.لكن عملية التناص المعماري، كما نفهمها، هي عملية ابداعية يلجأ اليها المعمار بمحض رغبته سعيا لاثراء منجزه التصميمي. فهي في هذا المفهوم ليست لاغية لشخصية المعمار. بل ربما العكس صحيح. اذ ان فعالية التناص تكرس من حضور المعمار في العملية الابداعية وتمنح منجزه نكهة خاصة تكون في اغلب الحالات نكهة فريدة واستثنائية الخصائص. فهي ما انفكت تشير الى قيمة الفعل الابداعي له وتؤكد على اجراءات الناتج التصميمي المتحصل كونه ناتجا متجاوزا لدلالات القيم المتناصة من خلال آليات التأويل التى يوظفها المبدع سعيا للحصول على قراءة اخرى لها.
سنتناول لاحقا بعضا من تلك الممارسات، التى نرى في تكويناتها التصميمية نزوعا واضحا لتجسيد الحدث المعماري الذي نحن بصدده. ليس في نيتنا بالطبع تسجيل كل ما تم ّ انجازه في هذا المقام وتقصي نماذج الظاهرة تصميما وراء تصميم، او مبنى وراء مبنى؛ لكننا سنتوقف مليا على بعض الامثلة التصميمية لمعمارين معروفين سعوا وراء اثراء الخطاب الثقافي بممارسة معمارية فريدة في قيمها، واستثنائية في لغتها التصميمية. مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنونمعمار وأكاديمي* المقال مستل من محاضرة القيت في جامعة دمشق/ كلية الهندسة المعمارية، في شباط 2009
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقال رائع وشكرا
ريبين رسول اسماعيل -بحق انه مقال رائع شكرا للدكتور السلطانى الذي يزودنا نحن قراءه بنقالات رائعة مليئة بالمعلومات والتحليل الفكري الله يطول من عمر الدكتور وشكرا لجهوده وتحية له من اقليم كردستان العراق.
مقال رائع وشكرا
ريبين رسول اسماعيل -بحق انه مقال رائع شكرا للدكتور السلطانى الذي يزودنا نحن قراءه بنقالات رائعة مليئة بالمعلومات والتحليل الفكري الله يطول من عمر الدكتور وشكرا لجهوده وتحية له من اقليم كردستان العراق.