ثقافات

شكري: العالم العربي ما زال يبحث عن هويته الثقافية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع المفكّر والكاتب الجزائري "شرف الدين شكري"


كامل الشيرازي من الجزائر: يرى المفكر والأديب الحداثي الجزائري "شرف الدين شكري" أنّ العالم العربي ما زال يعيش مرحلة البحث عن هويته ثقافيا، ويبدي شكري في هذه المقابلة الخاصة بـ"إيلاف" تشاؤما بالمستقبل الثقافي في الجزائر، مبررا تصوره بكون البنية التجديدية محكومة بمسبقات ومصادر رجعية ومساند سوسيولوجية متخلّفة.
bull;دعوتم مؤخرا إلى تأسيس ما سميتموها "الطليعة الجزائرية الحرة"، وقلتم أنّ مشروعكم من شأنه معالجة الاحتباس الراهن في الجزائر، وتأسيس أنتلجانسيا جزائرية حرة، هل لكم أن تبرزوا لنا ملامح هذا التصور؟- برزت فكرة تأسيس" الطليعة الجزائرية الحرة" بعيد كوميديا المصادقة الشنيعة على التعديل الجزئي للدستور، والتي تمَّت بفضل تورُّط أعضاء البرلمان الجزائري في قضية رشوة علنية حدثت قبل وقت قصير من عملية التصويت، ولم يحرِّك المجتمع المدني ولا القضائي ساكنا لأجل الوقوف ضدَّها. طبعا، كانت تلك التعديلات تصبُّ في خانة جهة معينة، همُّها الأوحد هو خدمة مصالحها على حساب معاناة الشعب البائس الذي لا يقوى على سدّ رمق أفواه أبنائه ولا على تلبية متطلبات الحياة اليومية التي تقف الدولة عاجزة عنوة أمامها...تلك الدولة التي لم تتوان في توفير راتب لأعضاء ذلك البرلمان يفوق بثلاثين مرة راتب المواطن الجزائري!
ولأنني رأيت بأن الخطاب الحرّ، الليبرالي، لم يأخذ أبدا الطليعة في تسطير آفاق المشروع الاجتماعي الجزائري الذي تهيمن عليه القوى الراديكالية، من متأسلمة، إلى شبه ديمقراطية، إلى مصلحاتية خالصة، إلى شبه بشرية لا تعي من الحياة إلاّ أنها تتنفَّس كباقي الكائنات الزّاحفة، فقد آثرت أن أسعى أمام التاريخ الماكر والداهية - على حسب تعبير أنجلز- إلى وضع أسس تنشئة اجتماعية جديدة لهذا المجتمع الذي فقدَ البوصلة...أسس، نشارك فيها جميعا - بما في ذلك تلك الكائنات الزاحفة !-،ولا نُقصي فيها إلاَّ تلك الأصوات الغبية التي تحتكر التاريخ والأفعال البشرية المطلقة وتلك المقيَّدة.
المشروع التأسيسي الرسمي لم يبدأ بعد، ولكنه مفتوح على دعم الجهات المعنية التي يهمُّها فعلا العمل على استنهاض هذا الشعب من غفوته. الكُــرَة في ملعب الزّمن.
bull;كمثقف، ما مقاربتكم للمشهد الثقافي الحالي في الجزائر؟- لا أذكر أنني عايشت حركة على المستوى الثقافي أنشط من الحركة التي تعيشها الجزائر منذ اعتلت الوزيرة "خليدة تومي" مقاليد وزارة الثقافة. ولكن الحركة الثقافية نشأت كفعل، بفضل الصُّدفة غير المتوقَّعة التي حدثت إثر ارتفاع أسعار المحروقات،لا غير !. إذ لم يكن هناك أي مشروع ثقافي مميَّز، وهذه الحركة متماشية مع تنامي الذهنية المادية التي ارتقت بشكل مخيف في المجتمع الجزائري، وجعلت النشاط مفرغا من مضمونه الروحي والتربوي التثاقفي.bull;ما المسافة الفاصلة الآن بين الثقافة والشارع الجزائري، ما الذي يمكن للقصيدة والرواية والمسرحية واللوحة قوله؟ وهل هناك عودة أكيدة للفعل الثقافي أم هناك تبني مطلق ونهائي للمناسباتية والمهرجاناتية؟-سؤال وجيه جدا، يمكن من خلاله قياس الوزن والمكانة التي تحتلُّها الثقافة لدى/في المجتمع. والثقافة كما هو متداول في الأدبيات المعرفية، هي الممهِّدُ الرئيس لبناء الحضارة. ولا يمكنني أن أكون عدميا في هذا الميدان وأُنكر غياب الثقافة عن أي مجتمع، لأنه وبكل بساطة، لا يمكن أن يكون هناك مجتمعٌ في العالم يخلو من الثقافة على اختلاف درجات تنوُّعها. ولا يمكنني أن أكون متفائلا أو" شوفيني" إلى حدِّ بعيد.
يمكن لنا أن نعرف ما الذي يمكن للقصيدة أو الرواية أو أي نوع من الممارسة الفنية أن تقوله في راهن الثقافة الجزائرية المناسباتية بامتياز، والشوارعاتية تحديدا، وأن نحكم على البرنامج " الإنعاشي " المتين الذي سطّرته سلطة الخطاب الحاكم المُحاصَر بالمكتسبات العتيدة للعادة الثقافية البالية، لكنني لن أكون ساذجا في التهليل لألعاب الظلّ الصيني المؤدلجة التي تحاول وزارة ثقافة متخومة (مؤقَّتا!) ترجمتها أمام الجمهور.
bull;ماذا حول الكتب المنجَزَة خلال السنوات الأخيرة في الجزائر، وما مصيرها، وهل استطاعت أن تصنع قارئا جزائريا، بمعنى أصح، كيف تتصورون أفق المسألة الثقافيّة في الجزائر؟
- بالرغم من كارثية الوضع عربيا، إلاَّ أن الجزائر تمثِّلُ طفرة مميزة في هذا الميدان. مستوى المقروئية في تدنٍّ فضيع عندنا. الوضع ميدانيا كارثي بأتم معنى الكلمة. أتَعلَمون بأن الجزائري في المستوى الثانوي ليس ملزما بقراءة أي كتاب، وبأن نظيره في المدرسة الأمريكية مطالب بمطالعة وتلخيص 25 كتابا سنويا؟ وأمّا في الجامعة، تستطيع أن تقابل خلال مرحلة الدراسة، الآلاف من الطلبة الجامعيين الذين لم يطالعوا كتابا واحدا بشكل كامل طيلة تلك المرحلة! والأمر أيضا لا يختلف عن الأستاذ الجامعي، هذه عينة سوسيولوجية من المهازل الكبيرة التي يعيشها الوسط الذي من المفروض أن يُمثِّل نسبة عالية من المقروئية في المُجتمع.
bull;هل استطاعت الكتب أن تصنع قارئا جزائريا؟
- حبذا لو نستطلع نوعية القارئ ذاك الأهمّ، إضافة إلى مردودية القراءة، نوعية المادة المعروضة، سياسة الكتاب، درجة استهلاك المادة المُنتَجة، تغطية المنتَج وتسويقه، دعم الدولة لسعر الكتاب وتمكين الطبقات المحرومة منه (أكثر من 70 % من عامة الشعب)، هدف القراءة، مدّة المطالعة اليومية أو الأسبوعية، عدد القُرّاء الذين تجاوزوا مرحلة تعلُّم الكتابة واكتسبوا درجة لا بأس بها من العلم والمعرفة والذين بإمكانهم إفادة المجتمع.
bull;ما موقفكم من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، وما هي مقترحاتكم لحماية اجتماعية تشمل المثقف؟
-لقد فهِمَتْ الدول الغربية، بأن الاستعمار الحالي، وبغضِّ النظر عن الجانب الاقتصادي للأهداف الكلاسيكية له؛ والذي هو حتمية لا مفرّ منها، هو الاستعمار في مفهومه الثقافي. ولقد قامت العولمة ذاتها، على هذا الأساس. مما دفع بأغلب الأنظمة الغربية إلى أن تشتغل على تأكيد مكانتها الثقافية.
ربما لن نخرج عن ذلك التحليل التسعيني الذي أوضحه الجابري في نقده وتحليله للعقل السياسي العربي، والذي مفاده أنّ ثلاثية: القبيلة، والعقيدة، والغنيمة،هي المحدّدات اللاشعورية التي غذّت وتغذّي دينامو أي فعل مركزي عربي. ولذلك لا يمكننا الذهاب بعيدا في التبشير بمستقل ثقافي غني ومتنوع مادامت البنية التجديدية ذاتها محكومة إلى مسبقات ومصادر رجعية ومساند سوسيولوجية متخلّفة.
bull;ماذا عن مقاربتكم لمسألة الهوية في الجزائر التي لا تزال مثار جدل في الجزائر؟
-هناك الكثير من المغالطات التاريخية التي ترتبط ببعض المفاهيم، أرى شخصيا بأن مفهوم "الهوية" يعدُّ أحدها، بحجّة طمس الاستعمار للهوية الوطنية الجزائرية، خلال مرحلة جبروته واستنزاف الخيرات، وتغيير العقليات لأجل تدنيسها وضمان تبعيتها، ظللنا نعاتب التاريخ لسنين عديدة بعد الاستقلال، ونرُدُّ أي ضعف في الشخصية الجزائرية إلى ذلك. لقد احترفنا لعدة عقود خطاب معاتبة التاريخ، والنتيجة واضحة اليوم: وطن بلا تاريخ فعلي.
bull;تنطرح إشكالية إيصال ثقافتنا العربية إلى العالم الغربي وشروط التبادل معه، ما الكيفية لإيصال ثقافتنا نحن كعرب بتنوعها واختلافها إلى العالم الغربي؟
-لم تتوقف عجلة الثقافة في أي مكان، وفي أي زمن عن التلاقح مع الثقافات الأخرى، وهذا هو الشيء العظيم الذي تمتلكه الثقافة في جوهرها. فالثقافة موجودة دوما في تواصل رغم كل المعوقات التي تواجهها. وطبيعة الثقافة في حدّ ذاتها تقوم أصلا على الاكتساب الذي يتأتى من التبادل، وعلى مواجهة كل الضغوطات التي تعيقها عن طبيعتها. لذلك أجد بأن الفكر المتشدّد أو الاستئصالي المنغلق، هو فكر زائل حتما، بسبب قيامه ضدّ الطبيعة في حدّ ذاتها.
عربيا، لا يوجد هناك فرق كبير بين كل دولة وأُخرى، لأنّ الفعل المؤسساتي هو دوما فعل سياسي وحزبي تابع ورَقَابي، ولأن الثقافة بين تلك الدول تشترك في العديد من النقاط التي تجعل الاختلاف في الهوية العربية هينا...وحتما الاختلاف في الآلام سيكون أيضا هينا!.
bull;الإيصال الثقافي فيه من المعيارية، وفيه أيضا من المحيطية، بما تفسرون هذه المحيطية، إن كانت صحية أو كانت مؤشرا سلبيا على مستقبل الثقافة العربية؟
-فكرة محيطية الثقافة، ليست غريبة على أية ثقافة، ولا تعدُّ ميزة خاصة بالثقافة العربية وحدها، أضف إلى أن نسبة المحيطية تختلف من مجتمع إلى آخر، مما يجعل معايير انعكاس الصور الثقافية هي الأّخرى تختلف باختلاف المجتمعات.
لم يعد من المجدي اليوم، ونحن نعيش في ظل هيمنة العولمة بامتياز على جميع الثقافات بدرجات مختلفة الحديث عن مرجعية الثقافة، فقد فُصل في الأمر منذ ستينيات القرن المنصرم حين اقتنع العالم بأنه صار قرية صغيرة، وبأن الكلّ هو مجموعة من الأجزاء التي شاركت في تكوينه كبنية مكتملة، وصار الحديث يتمحور اليوم حول نوعية المحيطية (أفضّل مفهوم المحلية) التي يطرحها كل جزء في تلك البنية الكونية، بدل الحديث عن الكمّ المطروح.
bull;الكلمة العربية التي أصبحت مرتبطة بالحركات المتطرفة، كيف تتصورون الآلية الوقائية؟ وما تأثير الانسداد السياسي الذي يحاصر الوطن العربي حاليا على المنظومة الإبداعية؟
-فكرة "الإرهاب"، فكرة إسلامية غائرة في تراثنا: وأعدّوا لهم ما استطعتم....الخ. وتوظيفها تاريخيا، اختلف دوما حسب مكانة المسلمين. ففكرة الترهيب، في مرحلة الفتوحات، وبداية بناء الخلافات الإسلامية، وتأسيس القوّة العسكرية التي وجدت سندا معرفيا متطوّرا جدا بالموازاة من ذلك، هي غيرها في مرحلة الإمبراطورية العثمانية التي كان يغلب عليها الطابع العسكري، ويغيب عنها السند المعرفي، لأنها إمبراطورية قامت على أنقاض حضارة إسلامية منهارة، وضعف في البلاد العربية التي شكلت العصب العسكري في الجيش التركي، وهي غيرها أيضا في مرحلة الاستعمار أو الانتداب التي مسّت العديد من الدول العربية.
مفهوم " الإرهاب " اختزلت معناه أمريكا بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وأنشئ لأجل ذلك قاموس خاص، وبالرغم من كل هذه المقاربات المفهوماتية حول مفهوم "الإرهاب"، يبقى العالم أسيرا لأخطاء شائعة تمّ بذرها من قبل ثقافة العولمة لأجل إبعاده عن المصدر الصحيح للإرهاب، وبالتالي عن المعنى الصحيح له.
bull;كيف تقاربون القضايا ذات الصلة بالقومية الثقافية العربية؟
- بعد تفكيك أغلب المعتقدات الذهنية الشمولية عن الذات العربية، وسقوط حلم توحيد الصفّ العربي في 1967، والمناداة العارمة التي دعا من خلالها الفكر التجديدي إلى إعادة تقييم القيم في قاموس الأخلاقيات السياسية العربية، ودخول الصراع العربي الإسرائيلي في نقطة مواجهة الذات العربية الشعبية مع قيمة الممثل السياسي لها -أي مع سلطات بلدانها القائمة-ورضوخ مصر، والقبول شبه الشامل في الأخير للدول العربية بسياسة التطبيع مع إسرائيل، وبعد حرب تموز التي دمرت فيها إسرائيل قسما كبيرا من البنية التحتية اللبنانية، وخسرت فيها حربها ضدّ حزب الله، وبعد انضمام الشارع العربي لحلم تبديد الترسانة الإسرائيلية التي لا تُهزم، ثم اندلاع حرب ديسمبر على غزّة وإفشال خطة تدمير المقاومة الفلسطينية.
بعد كل هذه الأحداث التي طلّقت الشارع العربي رسميا من حكامه، باستطاعتنا أن نستخلص نوعية القومية العربية المطروحة اليوم أمام الإنسان العربي، وان نعرف قيمة الأقطاب اللاشرعية التي تمثِّلُها وقيمة الأقطاب الشرعية المُبعَدَة التي من المفروض أن تتولى مهمّة التمثيل، من هنا ينشأ الشرخ الكبير الذي تطرحه الأنظمة العربية القائمة.
bull;هل يمكن إثارة الوعي القومي عند المجتمعات العربية عبر فكرة العواصم الثقافية، أم أنّ الأمر لا يزال أسير "ترف ثقافي"؟
- ما دمنا لم نحرر الفعل الإبداعي من قبضة المؤسسة الرقيبة، لا يمكننا أن نذهب بعيدا في ميدان الإبداع. ورغم براءة بعض الأنشطة الثقافية العربية التي تقع تحت لواء حكومي، إلا أن الخلفية الرقابية تظلُّ قائمة، وحتى الأنشطة الكمية التي تحسب لها، فهي دوما أنشطة ذات مرجعية تبريرية إيديولوجية (تبرير الحكم القائم)، وأنشطة تسيرها المحسوبية أكثر من كونها أنشطة خاضعة إلى الغربلة/الانتقاء العلمي.
* هناك رأي قائل بأن الثقافة العربية منكفئة على ذاتها، وأنها فوتت فرصة الوصول إلى تحقيق مكانة مهمة عالميا، برأيكم هل الفرصة المتاحة حاليا لافتكاك موقع ريادي؟
- هذا سؤال ينكأ من صلب إشكالية الثقافة العربية في حدّ ذاتها. فهناك دوما قطبي صراع كلاسيكيين، توليا مهمّة الإشراف على حال تسيير الأمور الثقافية، ولم يفلحا إلاّ نادرا: وهما قطبي الاستئصال الذين يلغيان بعضهما بعض في تطرُفهما اليساري واليميني. وهناك بالموازاة قطب ثالث توافقي، قد يقال عنه بأنه قطب ازدواجي، ولكنه لم يجد نصيبه هو الآخر إلاّ نادرا في الثقافة العربية في الحالات التي وجد فيها الدعم السياسي. وقطب رابع لم تواته الفرصة أبدا للتعبير عن ذاته وإقامة خطاب مميّز وتجديدي وواسع بأنَسيته واحتكاكه مع القوّة العلمية الفعّاَلة والمفجّرة للطاقات.
هذه الأقطاب الأربعة هي التي تشكّلُ عموما وجه الثقافة العربية على اختلافها. والإجابات المحتملة لن تخرج لزاما عن هذه الأقطاب، ولن تأخذ معناها إلا منها. وبما أن أزمة الوعي التي يعيشها العالم العربي منذ زمن بعيد، لم تترك إلاّ للقطبين المتناحرين إمكانية للعيش بمبدأ الإلغاء، فإن القطب الثالث التوافقي، يعدُّ قطبا "حكيما" في أخذه من كلا القطبين، وصديقا متبادَلا بين أحضانهما: أي أنه قطب يعيش على مبدأ البغاء الفكري، أكثر من عيشه على مبدأ التخطيط الموضوعي والإلغاء الحكيم للشوائب التي تعفّن مستوى الثقافة الراقية، ولا تسمح لها بالبزوغ، مثلما هو الحال مع إستراتيجية عمل القطب الرابع الذي يحتكم إلى عامل دراسة الزمن، وحقيقة الطرح الموضوعي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف