ثقافات

دوارنا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بوشتى وطامو
- بوشتى. ماذا سنفعل الليلة؟
- لا أعرف..
- الليل طويل يابوشتى.. مقناط.. صخرة.. كيف سندفعه؟
كان بوشتى على وشك أن يقول شيئا ما.. حد ست طامو ذلك من اهتزاز شفتيه اليابستين... هبت ريح خفيفة فحركت الوريقات الأعلى لشجرة البطم المطلة على الدار. تخفي الشجرة فصول سنوات لا تحصى.. هي بالتأكيد غير مهتمة بكم العصافير التي فرخت فوقها.. كل أبناء القرية يقولون أنهم وجدوها هنا كما هي.. كثيرا ما قال بوشتى لطامو أن بيضه ما عاد يفقص وأن الشجرة أفيد منه بكثير.. وعندما تتحرك الوريقات التي في الأعلى لا يبقى لبوشتى في الرأس سوى أن ينفح. يبحث عما يملأ به ثقوب وقته..لا شيء. طامو، العاقر، تعرف هذا جيدا لذا فهي لا تلح عليه في الكلام..تأخذ مرودها المصنوع من شجر العرعار. تحرك جيدا ما بداخل جعبة الكحل. عيناها تراقبان حركة خيشومي زوجها حين تستعدان لشم سطر نفحة مرسوم على ظهر إبهامه الأيسر.. تكحل طامو عينيها. تمرر المرود بتوءدة على حافتي جفنيها. لا يعطس بوشتى. فقط يأخذ منديلا اسود من قب جلبابه البني. خررررررررررررط.
- الله يعفو عليك من هذ النفحة ، تقول طامو
- وعلاش، يرد بوشتى دون أن يرفع عينيه نحوها..
لا يقود الأنف اللسان دائما الى الوجهة المراد الوصول اليها. كثيرا ما شمت طامو رائحة غريبة في ملابس بوشتى.لا احد بإمكانه ايقاف اشتغال قاموسها البذيء حين تشرع في تعيير بوشتى. لا يرد. لايهتم بما تخرج من فوهة فمها.عندما تنقصه النفحة يشبه فمها بثقب بالوعة.
بوشتى يعتني فقط بمنخره جيدا. أٌقصد بما سيدخل اليه. يختار طابا أصيلة. بورية. يخرج الى حافة الراضي.يقطف وريقات الضرو. يقول ان ضرو سيدي عبسلام بقال لا يصلح للنفحة. ضرو السيد مقدس. لا يصلح الا للمقابر.رماد ضرو حافة الراضي أحسن من كل رماد. بعد الحك يختار وريقات صغيرة من شجرة الزنبوع. يقطفها بنفسه كما لو كان يقطف نهدين صغيرين. الشجرة مغروسة في فناء الدار. شبعانة ماء. خضراء على طول السنة. حين تكتمل النفحة يضيف اليها قليلا من ماء الوريقات. لذلك لا يحب ان يشتري النفحة من أحد. حتى نفحة الخمالي والحيس لا تروق له.
- ايوى الله يعفو علي أنا،تقول طامو.
- الراس بلا نشوة اقطيعو حلال يا طامو.
عينا طامو كبيرتان مثل عيني بقرة. مكحلتان كقطعتا غمام في وجه سماء صافية. تقول طامو أن الكحل سر العينين. العينان اللذان بلا كحل لا ينظر اليهما الله. بوشتى ينفح ويسرق نظرة الى عيني طامو. ترمقه. تبلل قليلا ببصاقها خرقة صغيرة. تمسح لطخة كحل علقت بطرفي جفنيها السفليتين.
خارج المنزل القرية تبدو هادئة.. ينظر بوشتى إلى ساعة الجيب. العقربان يشيران إلى التاسعة ليلا إلا ثواني معدودات. كم سطرا من النفحة سيحتاج لكي يصطاد النوم؟ يتذكر بوشتى تلك الليالي التي كانت القرية تقوم من مرقدها لتبحث عن الشيطان الذي سولت له نفسه رج سكينتها.. بوشتى كان أول من يحمل زبارته بفرح طفولي ويخرج مع رجال وشباب القرية. كان عزريا يكره الإستقرار.. لذلك كلما هدأت القرية أحس بالقـنط يضغط على صدره.. لم يكن يحس بثقل الليل كما الآن. لا يمكن لبوشتى أن يبقى في الدار والدوار حين يسمع الغياطة في اولاد بقال، النهير، غبالو،امالو، الطرفانية...
- هل لديك ما نفعله الليلة يا بوشتى؟
يعيد يوشتى المنديل الى قب الجلباب. يقترب من طامو. لا تتبرم. تدعه لنفسه الأمارة بأكل التفاح. حين تحس بارتخاء أعضائه تطلب منه أن يمدها بالفلوس كي تشتري سوتيانا و كحلا غدا. بالكحل تستطيع طامو ان تشعل النار في غابات بوشتى. بالسوتيان ستثقب عيني جارتها الحديثة الزواج.
-عقارب هذه الساعة تنكل بي.يوما ما سأكسرها، يقول بوشتى وهو يلهث.. الأقرع
صباح ذلك اليوم كانت الشمس تصارع الغيوم. خرج عبد السلام الأقرع من الدار صوب العين. إستوقفه طلاء غير طبيعي. كان الطلاء بنيا. غريبا. مجخمطا على باب المنزل.. اقترب منه.. أزكمته الرائحة.. تعجب.. لم يكن باب منزله الوحيد المطلي بذلك الطلاء الآدمي النتن. كانت كل أبواب دورالدوار مطلية.. لم يفكر بأحداث 84 ولا بالخطاب الرسمي الذي قيل. الأقرع لا هم له غير شيئان: العشبة والحقول. يستطيع أن يحاضر في أصل وفصل العشبة. من لم يذق عشبة الأقرع لن يعرف التمييز بين ما يباع في السوق ويبن تقصيصته. العشبة عالمه الرحب. تخصصه. يقصص و يدخن شقفين بعد صلاة الفجر. يبردع بغله ثم يخرج الى باب العنصر. أمامه بقرتيه وعنزاته الثلاث الرشيقات.
- باب العنصر حقل ليس مثله حقلا، يقول الأقرع.
ذلك الصباح وقع ما وقع. كان الأمر غريبا. كيف حصل ذلك؟ الأقرع بعيد عن الحسيمة والناظور وتطوان ومراكش ولا شأن له بما يقع هناك. ولولا الخطبة التي قيلت في التلفزيون واستمع اليها في منزل جاره المتقاعد ما كان له ليعرف ما وقع في تلك المدن.
يلمح بوشتى إلى أن المدن بحور لا يعرف حتى بوركعة العوم فيها. تتمنى طامو لو كان لها عيالا في المدينة.. لذلك كلما كان يعود أحد من الدوار من زيارة لمدينة إلا وتذهب عنده لتستخبره..عندما يتندر أطفال الدوار في الأمسيات الصيفية الصافية من أطفال المدينة حين يأتون مع أسرهم إلى القرية تعيرهم.. يتعجبون من اللون الحليبي لجلدهم وخوفهم المستمر من الحشرات والكلاب. يقولون لهم حين يخبرونهم بأن خبز المدينة أبيض:
-طز. خبز المدينة يكبر الكزيمة(1) وخبز جبالا يكبر البشوال(2)ا..
تعشق طامو اللون الحليبي للأطفال. بودها ترك الجمل وما حمل من أجل اللون الحليبي.بوركعة أيضا كان يقول لزوجته حين تخيره بين خبز السوق وخبز الدار:
- أ الشريفة أبنت أحمد الصغير. اعطيني الله يرحم والديك الخبز مصبنة. واش حتى نهار الأحد بغيتنا ناكلو الخبز كحال؟..
الأقرع سليل البوهلالي الذي كاجا في لاندوشين لا تروق له المدينة.
يحلقوا بها، قال لبوشتى ذات يوم غائم.
لا يهتم الأقرع بالخبز الأبيض. وحده الخبز الشعيري يستطيع جعله يحس بالشبع.حين يشبع يربط رأسه بمنديل. يقوم الى لوحه. يقصص. يحتسي شايا باردا. لون الشاي عادة لا يتغير. البارحة تغير. احمر أكثر من المعتاد. لا يسكت الأقرع حين يحدث شيء غريب في القرية. لذلك عندما شاهد بأم عينيه التي سيأكلهما الدود ذلك الشيء الغريب مطليا على الأبواب اسود الدوار في عينيه. رفض شرب الشاي. أرعد وأزبد. نادى على بوركعة واللبان. قرب العين تجمعوا.أفرغوا جام غضبهم على هذا الذي يستهزئ ء بهم.
-سنمسح به الأرض هذا الذي فعلها، قال اللبان.
-بيننا وبينه المخزن، قال الأقرع.
-سنرى ما سنفعل. المهم الآن هو أن نصل إلى الفاعل، قال بوركعة. البوركة يعرف اللبان كما الأقرع وبوركعة أن عديدا من أبناء الدوار ذاقوا ثمرتها. كانت لهم بمثابة المدرسة والمسيد..ما من أحد لم يحرثها. حتى الفقيه، يقول بعض الحشاشين، مر من هناك. لا يمكن للمرء أن يجزم.
تذكروا بلاغة إسمها.. البوركة.. في مشيتها كانت تشبه بطة. تعشق الماء. كل نازل الى العين لا بد وأن يجدها هناك.
يقول الأقرع:
-أردت أن أتأكد من الأمر. ذات وغرة(3) نزلت إلى العين. كانت الشمس في كبد السماء. لا طير يطير ولا بشر يسير. وجدتها هناك. كانت تحك أسفل قدميها على حافة الجفنة. طرفت عيني حين رفعت البلوزة عن ساقيها البضتين. بدت وكأنها تريد إطعامي ساقيها. حشت قدمها في جفنة الماء ثم استمرت في الحك. اقتربت من البواش(4). ملأت القرعة. كان يبدو أنها تريد أن تتخلص من شيء علق بقدميها المشققتين. لا أعرف لم كانت تقرب يدها اليمنى من انفها بين الفينة والأخرى. تشم. ينقبض أنفها قليلا.
لذلك حين لم يشاهدها في العين ذلك اليوم استغرب. خشي أن يسأل حتى لا يظن به أحد الظنون. غير أن اللبان قال لبوركعة أنه شاهد في الليلة الماضية شخصا ما بهيئة امرأة يحمل البوركة إلى ضريح الولي الصالح سيدي عبسلام بقال. كانت تئن وتردد كلاما غير مفهوم. يشبه اللبان الوطواط. قدامه يتعرى الليل. ينكشف. البوركة تدرك هذا.. تهرب منه كما تهرب الجرذان من الوطاويط. عندما كان بوجمعة يملأ قب جلبابه بالتفاح المسروق من عرصة ولد الحمرية ويأتيها تسأله:
-هل رآك اللبان؟
-لا. يقول بوجمعة.
تتنفس البوركة الصعداء. ترفع بلوزتها الى الأعلى. تأخذ تفاحة من قب جلباب بوجمعة. تقضم. يهتز بوجمعة..يرتخي.
تقول نساء من القرية أن الولي الصالح وقف على رأس البوركة في النوم وطلب منها أن تزور الضريح.. ولا يعلم أحد بما في ذلك الفقيه وبوركعة ما إذا كان بإمكان الأولياء أن يظفروا بغير الحوريات في انتظار قيام الساعة..
- يكفي أنها علمت كل أولادنا الركوب. دعوها وشأنها، يصرح جازما بوركعة. السماء تمطر حجرا. - إيوى أش بان ليك أبوشتى - هذ النفحة ديالك ما بينت لك والو.؟
- غدا يفتح ويصبح ، يرد بوشتى
وفي الغد تعجبت طامو من تلك الكومة من الحجر في فناء الدار. لكن عجبها زال حين عسعس الليل وتلكأ صبح الناس في التنفس. بدا الحجر ينزل على المنازل بالتقسيط وبالتساوي.. هذه الحجرة للبوحزيط.. هذه لرحيمو و ابنتها.. هذه للحمرية.. هذه للفراوية..
ضحك بوشتى وانتشت طامو وناما تلك الليلة كطفلين. ولا احد يعلم ما إذا كانا قد قرصا بعضهما البعض. أحس بوشتى بأن صدره غير مقبوض.. صاح ديك البوحزيط بشكل غريب وقوقأت دجاجة الحمرية على غير عادتها.. أخرج بوشتى زبارته من '' بيت العولة '' ونفض عنها الغبار وفي المساء خرج مع أهل القرية للبحث عن الفاعل الغريب.. كان يقول لهم وهم يتقدمون والزراويط في أيديهم:
- من هنا كان الحجر يأتي.. لقد سمعت البارحة هرولة في الليل. تقدموا.. فتشوا في كل مكان... في ضريح سيدي عبد السلام بقال.. في النواذر.. على أشجار الخروب و البري.. لم يكن هناك أحد.. وفي الطريق إلى العين عثر الأقرع على قنفذ.. لم يأخدوه معهم كما فعلوا دوما.. قال البوحزيط:
- سنأخذه عندما نتعرف على من يرمي ديورنا بالحجر.
وفي الليلة السابعة وبينما كانت رحيمو مفزوعة من عودة تساقط الحجر على منزلها، استطاع البوحزيط معرفة الفاعل.. كانت شجرة البطم هادئة هذه المرة.. لم تتحرك أوراقها.. اقترب جيدا من منزل بوشتى استجابة لشك ساوره مند الليلة الأولى لسقوط الأحجار على بيته... كان بوشتى يضحك وطامو تلقمه الحجر.. تسلق شجرة البطم المطلة على الدار بخفة عتروس.. كان بوشتى يلتقط الحجرة تلو الأخرى من يد طامو.. يبوس الحجرة.. وبين الحين الآخرينزل من الشجرة. يضرب بيده على مؤخرة طامو.. يتسلق الشجرة. يلوح بقطعة الحجر. ينزل الحجر على القصدير فتنزعج الدجاجات التي في الخم أو على الأشجار.. تقوقىء ببلادة. كلما انتهى من رمي سبع قطع يتوقف.. يسطر النفحة على سطح إبهامه.. ينفح...يأخد منديله..خررررررررررررط. يمسح ما علق من نفحة بخيشوميه ثم ينزل ليطبطب بيده اليمنى مرة أخرى على مؤخرة طامو..
-إبوى أبو شتى راك طيبت لي مصاصطي بالضرب.. إيوى كاين شي معقول اوللا...؟
حين تمشي طامو ينهق حمار اللبان. ليس في الدوار حمارا مثل حماره. يقول الناس ان اصل الحمار نصري. بوجمعة لا يعرف ماذا تعني كلمة نصري. يعرف فقط انه طويل وعريض وقوي مثل بغل.
قال بوركعة حين شاع الخبر في القرية:
- اليد المجدامة منا.. خليوهم عليكم.. لا داعي لإيصال الأمر للمخزن.. تعرفون المخزن جيدا.
وفي الليل أقاموا قصارى قرب عين الشراطين.. كانت البوركة، كما قيل، لا تزال راقدة في الضريح. بدأ الغياط في المشالية.(5) نقر الباكاج طبله. الطرح يسخن على ايقاعات مزمار المعلم ادرسي. تعجب بوشتى والأقرع واللبان حين قبل المعلم إدريس دعوة بوركعة له بالقصارى في الدوار. كانت تلك أول وآخر مرة يقبل فيها أن يزمر في الدوار.ارتفع صوت المزمار عاليا يثقب صمت الليل. بدأت الحركة تسري في الجموع الحاضرة. دخلت راضية إلى الكاعة.(6) حركت ردفيها المكتنزتين. راضية مهبلة الرجال لا ترقص إلا على إيقاعات المعلم ادريس.تأوه الرجال. زغردت النسوة. رقص الكل.. وحين اقتحمت البوركة الكاعة عارية الشعر صفر بعض الشبان..لا أحد يدري كيف جاءت الى الكاعة. حركت مؤخرتها المكتنزة على إيقاع المزمار.ربما كانت تظهر لبوجمعة أنها لازالت قادرة على إشعال النار.. أن تلك المؤخرة لها مآرب عديدة. لكن بوجمعة كانت عيناه على راضية. وراضية عينها على السحاب. راضية ترقص لنفسها. لجني يسكنها...
قال الأقرع لللبان:
- يبدو أن الولي الصالح قد حرر البوركة.
انتفخت أوداج المعلم ادريس. لا بد أن صوت المزمار والطبل قد أوصلته الريح إلى دار بوشتى وطامو.
ودت طامو لو كانت في المدينة لكي لا تسمع. لذلك قامت وطلبت النوم. لم يأتها كما أرادت. تقدم إليها بوشتى. أراد أن يلمسها لكنها نظرت إلى شجرة البطم وقالت:
- الله يعفو عليك من النفحة ويعفو علي من هاذ الدوار..؟
ولم يجبها بوشتى.. تمنى فقط لو ينفخ المعلم إدريس الغياط في المزمار أعلى مما يفعل ثم كما لو أنه يخاطب شخصا آخر قال:
-دارها المعلم ادريس ولد الذين... ودون ان يحرك عينيه قال في شبه عتاب:
- طامو،هذا النفحة ما طلعت مليحة هاذ المرة.؟!
هوامش:
1.المؤخرة.
2.القضيب.
3.الفترة التي تقع بين 12:00 و14:00 زوالا صيف حين تكون الحرارة شديدة.
4.صنبور بدون سدادة.
5.التقديمات التي يقوم بها الزمارون قبل الانطلاق في تأدية حفلاتهم. انها تشيه الاستعدادت حيث يجرب فيها الزمارون مزاميرهم في انتظار "اكتمال نصاب الحفل".
6.تحيل الكاعة الى القاعة. الكاعة تطلق على البيدر. للبيدر طقوس خاصة. لا يدخل اليه الناس منتعلين احذيتهم. في مكان ما من البيدر تجد صفيحة. البيدر مكان مقدس بامتياز. الكاعة ايضا تطلق على أي مكان يكون مسيجا بأناس مستعدين للرقص والفرح. لا يمكن أن ترتبط الكاعة بطقس آخر غير طقس الفرح. وارتباطها بالقاعة له علاقة بالقاع. الرقص تعبير عن قاع الإنسان. اثناء الرقص يطفو قاع الإنسان الى السطح. يحتاج الأمر الى بحث.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف