ماء وتراب
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كان التراب هباء اعمى في الريح
حتى خلقت الالهة الماء.
هبط الماء على التراب
تعانقنا لثلاثة ايام
في لحظة مطر فوُلد الحقلسمى ابن الرافدين القديم الارض " نن- تو " السيدة الوالدة، او الإلهة الأم، منبع الحياة والخصب التي تلدُ على الارض في كل عام فاكهة وقمحا وفي المياه طيورا واسماكا، ومن اسمائها الاخرى" نغ- زي عال- دم- مي" ومعناه في العربية "صانعة كل ما فيه نسمة حياة". تـُصور الارضُ في المنحوتات العراقية القديمة على هيئة إمرأة ترضع توأمين في حضنها، ويلتف حولها حشد من الاطفال يتشبثون بثيابها الخضر، او يندسون تحت وسائدها المنسوجة من قمح ورز. اجنـّة كثيرة أخرى ترقد في رحمها. ولأنها منبع التناسل او" امّ الاطفال اجمعين" ففي يدها اذا شاءت انْ تحرم فاعلَ الشر من ان تكون له ذرية، او تحرم البلاد كلها من التوالد والخير والسلام اذا اقترفت الاثام. ولأنها المبدأ الاساس للولادة ونمو الحقول وحفظ الجنس البشري فقد اتخذتْ عرشها كقوة عليا عن جدارة وحق الى جانب إله العواصف، إله السماء أنليل الذي يترأس حكومة الكون. إنها " ننماخ" " الملكة الموقرة" او " ملكة الآلهة اجمعين" او " ملكة الملوك الاسياد" التي تقرر المصائر وتتخذ بنفسها القرارات بشأن الارض في حين ينفرد انليل بشؤون السماء. ولأنها الامّ الوالدة للماء والتراب والنبات، وحيث ان الآلهة لا تلد الا آلهة، كان الماء الهً والتراب الهً والنبات اله، وكل شيء حي آخر هو إله. احيانا تتسمى إلهة الارض باسماء ابنائها مثل أن- كي إله المياه الذي نعرفه من ليونته وذكائه وحِيـَله التي تجعله قادرا على النجاة من سيوف اعدائه والبقاء حيا ابدَ الدهر. وكيف يموت مَن هو اصل الحياة وواهبها. يتسرّب من بين شقوق الارض وتعرجاتها ومن بين فروج الاصابع ويتخذ شكل الاناء الذي يستقر فيه، وهو في الوقت ذاته عميق وغائر يتمتع بالحكمة والمعرفة والصفاء. وهو يتفوق في سعة حكمته حتى على سيدة الارض، ننماخ المبجلة. وفي مناظرة لطيفة بينها وبينه توصيف دقيق لمدى قدرة الاخير وبراعته في الخلق، حيث تطرح عليه السيدة العظيمة تحديّا لمسائل عويصة فتخلق ستة انواع من البشر المعاقين جسديا وحسيا فيتمكن إله المياه بذكائه الخارق من انْ يجد شفاء وادوارا لهذه الكائنات. ومن ثم يطرح عليها هو مسائله بخلق نوع واحد من البشر مصاب بالشيخوخة والهرم ويسميه " يو- مو - اول" ومعناه ( يومي بعيد) فتقف السيدة العظيمة ننماخ مذهولة وحائرة في ان تجد شفاءً او حلا لهذا الكائن البائس الذي بلغ اهونَ العمرِ فتعترف بعجزها قائلة بتذمر" ان هذا ليس بالكائن الحي". وهو رغم مكره وغضبه المتوقد لاسباب غامضة فله جوهر ضارب في الرقة ودماثة الخلق والهدوء والسكينة. هو عنصر الخلق في الكون واساس الوجود وهو من يمنح الحكمة والفطنة والعقل للحكام ويفتح باب الفهم. وهو حاضر دوما في الصلوات والادعية والنذور وفي الرقى التي تطرد الارواح الشريرة وتبطل السحر.اما ولادة النبات والخضرة فهي ثمرة زواجه بالإلهة ننهور ساغا، إلهة التربة، وهو زواج رغم عدم انفراط عقده الا انّ مراسيمه تـُعاد مرة كل عام. يتعانق الزوجان بعد اقامة المراسيم ويمتزجان حتى يصيرا جسدا واحدا. وكما تلوذ الاعشاب بالنهر في فصل الربيع، تأوي إلهة العشب "ننسار" مستفيئة برحمة برودة ابيها إله المياه الودود الشفيف والمتوقد العنيف في خصوبته والممتلئ بالحياة المتدفقة الذي لا تعرف حدود لشهوته للحياة والتناسل. وبشهوة كونية يختار انْ - كي اكثر من زوجة واكثر من عشيقة. وكلما اضطجع الى جانب امرأة وانْ كانت يائسا او عقيما، انجبتْ له آلهة اخرى بمجرد انْ يمر ظله عليها، حتى دون انْ يلامسها، انفاسه وحدها كفيلة بأنْ تجعل النساء يحبلن ويتوحمن ويلدن غلمانا وبناتا وانواعا جديدة من الثمار التي لم يعرفها احد من قبل. يقوم بهذا كله دون ان يهجر زوجته الوحيدة ننهور ساغا، فهو يغادرها بعد انْ يُرويها ويعود اليها حين تظمأ اليه مرة اخرى دون ان يوجع قلبها او يثير غضبها، لان غضبها كفيل باضطراب الآلهة الراقدة في نومها العميق منذ الازل. ولانّ استيقاظها يعني كوارث كبرى ولعنات لا تبرح تهبط ليلا ونهارا ليس على من يزعج نومها ويُربك مضجعها بل على الخلق اجمعين.ورغم أنّ الزوج الماكر يوقد الغيرة َ في قلب زوجته الوحيدة المخلصة، لكنّ الغيرة لا تزيدها الا بهاءً وانوثة وجمالا. تحرص إلهة التراب ننهور ساغا على انْ توالف بين حبها لزوجها وغضبها الذي يسببه طيشه ونزقه الذي بلا حدود، حتى لا تنزل لعنات الآلهة المستيقظة توّا من نومها الابدي بإله المياه وحبسه في ظلمات الارض، ليس خوفا عليه ورفقا به فحسب، بل لأنّ نفيه في اعماق الارض يعني جفافا في الحقول وموتا في الحياة كلها. حينها لا تجدي نفعا صلوات الفلاحين والرعاة ولا ابتهالاتهم في اصلاح الامور إنْ لم تكن هي ذاتها، إلهة التراب الرخوة الوديعة، مَن يمنع الكارثة قبل حلولها. سدني- بغداد fadelkhay@hotmail.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف