ثقافات

الذات الشاعرة في قصيدة النثر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1-
تتحرك الذات الشاعرة في قصيدة النثر بوعي شعري مفارق، إنها لا تبدو ذاتا إيجابية وفق المفهوم المعهود للشخصية الشاعرة التي قد تتحلى بقدر من المثالية، أو بالوعي العاطفي السنتمنتالي Sentimental أو بتلبس السمات الشاعرية المنبثقة من الوحي والإلهام، والطاقة التخيليية والرؤيوية والنبوءية الكامنة التي يتسم بها الشعراء عادة خاصة في المراحل الشعرية السابقة، بل هي - على الأغلب- ذات محبطة دائما، منكسرة، قلقة، لا واعية، ساخرة إلى حد مأساوي.. فيما يبدو من نصوص قصيدة النثر التي عرضنا لها في الفصول السابقة.
ولا يعود مفهوم "الذات الشاعرة" إلى "منشىء النص" بالضرورة، بل يمكن أن تمثل ذات النص أو ذوات النص، أو " لضمير الشعري" داخل النص، هذه الذات، وحين نفكر في "الأنا" الشعرية، فنحن حيال هذه الذوات الأخرى في النص، التي قد تتجاور مع منشىء النص نفسه. Egocentric) فردي معني بالفرد لا بالمجتمع.) - Egoism الأنوية أو المذهب القائل بأن الفرد ومصالحه الذاتية أساس السلوك كله.
ويرى عبدالواسع الحميري أن "ذات الشاعر هي حقيقة الشاعر، هويته الشخصية، ما به يكون الشاعر ذاته أي شاعرا بعينه، وليس أي شاعر، أي مقومات وجوده الواقعي أو الموضوعي، بوصفه (إنسانا + متميزا) أو (موهوبا) أو بوصفه (كائنا اجتماعيا تنهض فيه إمكانية التفرد " (1)

والقصد هنا من هذا التبيان تحديد المعنيّ الأول بالنص، وهو الشاعر، دون الإشارة إلى الذوات الأخرى الكامنة بالنص التي يبتدعها الشاعر، سواء عبر الضمير أم عبر القناع.
ويحدد الحميري جملة من السمات التي يتسم بها شاعر الحداثة، حيث يقول:
-إن ذات الشاعر الحداثي " هي أنا الشاعر، الماهوية، أي الحقيقية أو الموضوعية بوصفه كائنا مزدوج الهوية أو الشخصية:
-واقعيا ويرفض الواقع، أو تاريخيا ويرفض التاريخ.
-جمعيا ويرفض الجماعة، أو الاجتماع (الوجود - مع) أو (بالاشتراك).
-مخلوقا ويمتلك إمكانية الخلق.
-ملتزما، ويرفض الالتزام أو:
-خاضعا ويتمرد على الخضوع.
-وارثا ويرفض الإرث يعني أنه:
-الجزء (الذي يستمد مقومات وجوده الماهوي من الكل) ولكنه المنشق عن (الكل) أي الخارج عن الكل الاجتماعي، المتطلع دوما، إلى تجاوز وضعه في إطار الجماعة.
-أو (الابن) المتمرد على (الأب)، والمتطلع، دوما، إلى لحظة قتل الأب لتجاوز أبوته - سلطته. " (2)
ويضيف الحميري واصفا الشاعر الحداثي بأنه " هذا الإنسان المتناقض، المتوتر، القلق، اللامتوازن الممزق بين واقع يحياه، وممكن يتطلع إليه ". (3)
إن أبرز ما في هذه السمات، والتي تحدد إلى حد بعيد توجهات الشاعر الحداثي هو ما يتمثل في الانشقاق والخروج والتمرد، وهي سمات لا تتمثل في الشاعر منشىء النص فحسب، بل تتمثل أيضا في توجه الشكل الشعري نفسه الذي تقدمه قصيدة النثر. فهي قصيدة منشقة وخارجة ومتمردة على السياق الشعري العام، وهي لا تقدم القبول قدر ما تحتفي بالاحتجاج والرفض، وتنفر من اليقين وتنحاز إلى السؤال، وهي في حالة قتل دائم للأب الشعري، حتى لو كان هذا الأب من الفصيل الشعر - نثري ذاته.
ويذهب أنسي الحاج في مقدمة ديوانه:" لن " إلى أن هذه القصيدة تمارس الهدم والنسف، والانتفاضة الفنية، حيث يرى أن " في كل قصيدة تلتقي معا دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضا على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رمبو حين أراد العثور على لغة... تختصر كل شيء العطور، الأصوات، والألوان،وبودلير عندما قال إنه من الضروري استعمال شكل مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان؟ إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع والغل، انتفاضة فنية ووجدانية معا، أو إذا صح فيزيقية وميتافيزيقية معا. لكن هذه الفوضوية كانت لتبقى بجناح واحد عند رمبو لو لم يعطها الجناح الآخر: الهيكل. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة ". (4)
وهو يؤكد على أن " قصيدة النثر عمل شاعر ملعون... حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة النثر بنت هذه العائلة... نحن في زمن السرطان: نثرا وشعرا وكل شيء، قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره" (5)
من جملة هذه المحددات ينطلق الشاعر الحداثي للتعبير عن عالمه الشعري الذاتي، إننا حيال شعر ذاتي محض في أفق قصيدة النثر، لكن الذات هنا ذات مشبعة بمختلف التجارب والمواقف، ولا يأتي التعبير عن الواقع بشكل خطابي مباشر، أو حتى بشكل يستخدم آليات الرمز والقناع وتوظيف الشخصيات الموروثة للتعبير عن الواقع الحاضر، كما كانت تفعل شعريات قصيدة التفعيلة، إن التعبير يأتي مبطنا عبر المفارقة، أو عبر الكلام عن الذات المحبطة في مشاهد مونولوجية. صورة الذات المحبطة هذه هي صورة للواقع، بانكساراته وهزائمه. وشاعر قصيدة النثر لا يهجو ولا يمدح، لكنه يرصد، ويفارق، ويتألم.. وهذا ما يتبدى في تجربة ما بعد الحداثة التي تمثلها على الأخص قصيدة النثر. (6)
ثمة فوارق بين (ذات الشاعر الحداثي) و (الذات الشاعرة الحداثية) حيث يرى الحميري أن " ذات الشاعر الحداثي... ذات ماهوية حقيقية، أو مرجعية، تمثل وضع الشاعر الحداثي خارج الشعر (أي قبل أن يصبح في حالة الوجود الشعري)، وينطوي عليها وضع الشاعر في الشعر: قد ينطوي عليها محرقا أو دافعا للقول الشعري، وقد ينطوي عليها خلفية أيديولوجية: عقيدة أو رؤية أو إطارا فنيا ينتظم بنية القول، وينظم مسار نموه، وقد ينطوي عليها عالما للقول، أو جزءا من عالم مركب، أو خلفية مرجعية لعالم مركب. ولذلك فهي (أنا) أو (ذات) لا يمكن إدراكها، أو التعرف على هويتها إلا من خلال أقوال الشاعر غير الشعرية، أي النقدية، أو التنظيرية، أو التي يصرح من خلالها بهويته، أو من خلال سيرته الذاتية، أو من خلال أعماله الشعرية الكاملة. ولذلك فهي من ثم تتطابق - إلى حد ما، مع أنا الشاعر، أو مع أنا الكاتب أو المؤلف الواقعي، في مقابل (أنا الكاتب) أو المؤلف الضمني ". أما (الذات الشاعرة الحداثية) فهي (ذات وجودية)، عرضية حادثة، أو آنية، تمثل وضع الشاعر الآني (الآن - هنا) في فضاء الشعر أي وقد أخذ، الآن - هنا في التجربة يواجه بإمكاناته الشعرية وضعه خارج الشعر، يفكك بإمكانات اللغة - الإبداع الأنطولوجي، في العالم الواقعي أو الموضوعي، يعيد صياغة العالم، وصياغة علاقته بالعالم على نحو يحقق الولادة الممكنة له وللعالم. ولذلك فهذه الذات تتطابق إلى حد ما مع (الأنا) الشعرية، أو مع أنا الكاتب الضمني ".(7)
في ظل هذا الأفق فإن الذات الشاعرة تتحرك وفق حدثين: الحدث الواقعي الحقيقي - قبل كتابة النص-، والحدث الشعري، عند كتابة النص، وكل حدث مرتبط بزمكان معين، فإذا كان الشاعر في لحظة الواقع ومكانه فإنه يعبر عن سيرته الذاتية، عن أيديولوجيته أو رؤيته الحقيقية للأشياء، وعن موقفه حيال العالم، وفي لحظة الشعر هو ذات أخرى، ملتبسة، لا واعية وواعية في الآن ذاته، تتلبسها أشواق أخرى، ورؤى مختلفة هي بالضرورة تمثل وعي النص الشعري لحظة الكتابة، وهو وعي ذو طبيعة تخييلية لا يمكن قياسه أو تحديده بشكل قاطع لأنه يغامر في وجهات مختلفة تبدأ من حرية الرؤيا/ الرؤية، ولا تنتهي بالفوضى والمروق عن الأعراف.. وهو ماتبديه قصيدة النثر في جل تجاربها وأصواتها. (8)
2-
حملت قصيدة النثر تحولات الذات الشاعرة وانبثاقاتها، فقد كانت هذه الذات تطل من رؤية كونية، تهدم الكون وتسعى لتغييره شعريا عبر اللغة، وهذا الهاجس الرسولي والنبوئي لم يتخل عنه رواد هذه القصيدة في أعمالهم الشعرية الأولى وحتى أعمالهم الصادرة نهايات القرن العشرين.
إن صيغة " الشاعر / الرائي" ظلت صيغة مهيمنة على بنى النصوص الشعرية المنتجة في أفق الحداثة الشعرية العربية، بوصفها أسا جوهريا في مكونات الوعي الشعري الحداثي، ولعل أبرز من وطد لهذه الصيغة حضورها في سياق الشعرية العربية الحديثة، الشاعر أدونيس، فمن هذه الرؤيا تنبثق تجربة كل شاعر حداثي، وتتشكل ذاته الشاعرة، ويلفت أدونيس إلى ذلك حيث يقول:
" لم يعد الشاعر العربي الحديث ينطلق من أفكار مسبقة، ولم يعد يصدر عن معان جاهزة، وإنما أصبح يسأل ويبحث، محاولا أن يخلق معنى جديدا لعالمه الجديد، وهكذا لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارىء أفكارا ومعاني، شأن القصيدة القديمة، وإنما أصبحت تقدم له حالة، أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد ينطلق من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز، وإنما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي، نسميه: تجربة أو رؤيا " (9)
بيد أن هذه الرؤيا الأدونيسية تعرضت للانهيار مع أواخر القرن العشرين، خاصة في مرحلة التسعينيات، والتوجه الشعري من الرؤيا إلى الرؤية، ومن شعرية البصيرة إلى شعر البصر، كما تبدى من آليات الرصد والمشهدية التي ألمحنا إليها في الفصل السابق.
إن الذات الشاعرة في قصيدة النثر، غدت ذاتا مقهورة، وقد حملها هذا القهر إلى السخرية، والبحث عن الدعابة، وكسر التابو، واللعب بالقيم، والتخلي عن أية قضايا كبرى، وممارسة الصعلكة الأدبية والفنية حتى على نطاق الممارسة اللغوية للنص الشعري.
وفي بعض نصوص أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وفي نصوص سركون بولص، وسليم بركات، وعبدالقادر الجنابي، وحلمي سالم، ورفعت سلام، وخالد المعالي، وأمجد ناصر، وسيف الرحبي، ونوري الجراح، وقاسم حداد، ويحيى جابر، وفتحي عبدالله، وفاطمة قنديل، وظبية خميس، وإيمان مرسال، وجرجس شكري، وعماد أبو صالح، وعبدالوهاب داود، وعزمي عبدالوهاب، ومحمود قرني، وعبدالعزيز جاسم، ومحمد المزروعي، وعابد إسماعيل.. تتجلى قيم مختلفة لهذه الذات التي ترى حريتها في الفوضى، المنظمة أو العبثية، وترى العالم من منظورات سوريالية، تتكىء على المفارقات، والسخرية، وشعرية الكوابيس، وجماليات التشويه والقبح، وإعادة بعثرة الواقع بمسلماته، والاحتفاء بالنقيض، والضدي والمختلف (10)
ويمكن أن نتمثل طبيعة هذه الذات في النقاط التالية:
-الإحساس العميق بالخيبة حيال العالم، والشعور الدائم بالانكسار، والتهميش.
-الشعور بالاغتراب والحزن، والتماهي فيما هو بوهيمي، عدمي.
-سريلة الواقع، وشيئنته.
-الإعلاء من قيم، الرفض، والجنون، والعزلة.
-استثمار اللغة التداولية، لغة الشارع، البنى التحتية للكلام.
-التعبير عن الوقائع الصغيرة، والتفاصيل اليومية.
-تجنب المناسبة، والسخرية الوطنية.
-الاحتفاء بقيم الصغير، ومعاداة الأيديولوجيا والقضايا الكبرى.
-الاحتفاء بالجسد الإنساني، وبشكل إيروسي طاغ.
إن هذه النقاط هي أبرز ما يسم الذات الشاعرة في قصيدة النثر، ويسميها، وهذه القيم نابعة من التحولات التاريخية والسسيوثقافية والسياسية التي طرأت على المجتمع العربي منذ هزيمة العام 1967، و"سقوط المشروع القومي" وصعود قيم "الاستهلاك" حتى نهاية القرن العشرين، وتجلي الهيمنة الأمريكية، وثقافة العولمة بوجهها الرأسمالي الشديد الوطأة على العالم النامي.
3-:
عبر قراءة بعض المشاهد - كنماذج على حركة الذات الشاعرة وقراءتها للعالم - يتسنى لنا أن نحدد جملة من الذوات المتجلية في أفق قصيدة النثر، حيث تتعدد أنماط هذه الذوات، وتتمثل في:
1-الذات المتعالية
من طبيعة الذات الشاعرة في القصيدة العربية بمختلف أشكالها، وفي قصيدة النثر على وجه الخصوص - أن تكون ذاتا متعالية، تتعالى على الواقع لا لتحقره أو تغيبه بل لتصنعه من جديد، واقعا مثاليا جميلا ينهض على القيم الإنسانية العليا، لكن لكل توجه شعري رؤيته في قراءة هذا الواقع وتقديمه شعريا، ففيما يحتفي الكلاسيكيون بالواقع بوصفه ملحمة، عبر محاكاته وتصوير طبيعته الجميلة المقدسة، وفيما يلوذ به الرومانتيكيون بشكل خيالي حالم، وفيما ينقله شعراء الحداثة عبر الرؤيا التي قد تمتزج بما هو ميتافيزيقي، فإن شعراء قصيدة النثر، يريدون هدم هذا العالم وتأسيسه من جديد، كما يشير أنسي الحاج في مقدمة ديوانه:" لن ":" الهدم، الهدم، الهدم... أول الواجبات التدمير. الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لابد. حتى يستريح المتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيّع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس" (11) إن الذات الشاعرة هنا تمتلك - في القصيدة - حق هدم هذا العالم، لا تغييره فحسب، بل إعادة صياغته من جديد ما بين مساحتي: الحرية والفوضى، ولهذا يصبح عالما جديدا لا بقيمه المعهودة بل بقيم تنطلق وتصل إلى غاية الإنسان ذاته بحريته، وفوضاه، وعبثيته أيضا.. يقول أنسي الحاج:
أريد أن أتوقف عن الرثاء، وكالأم
أركع
فاتحا خزائني مالكا
مَلِكًا
باسطًا
مشعلًا بشعري روح الأرض
قاطعًا
رابحًا
رائجًا فالتًا جميلًا وحيدًا متدخلًا في كل شيء رافضا
قابلًا
ملعونًا لا يبقى حجر إلا يطير لصوتي. (12)
إن صيغ الحال المتكررة تبين صورة الذات المتعالية هنا، التي تشعل روح الأرض، وفي شكل متوال يبرز الحال كمحرك لدلالة النص، مشيرا إلى هذه الذات المتغيرة المتوترة المتناقضة التي تتدخل في كل شيء.
إن صورة الذات هنا، صورة مفارقة للواقع، إن الذات تقدم واقعا آخر سلطويا، تمارسه فحسب مع أحلامها أو كوابيسها أو تناقضاتها، وهي لذلك ذات ترفض الآخر، وتنشغل بهمومها فحسب، ولذلك فإن تقديم هذه الذات في قصيدة النثر قد يوحي بالقطيعة مع الآخر الاجتماعي، لكنها في الرؤية الأبعد هي قطيعة مع الواقع لا مع الإنسان، مع القيم السطحية لا مع ما يمكن تصوره من قيم مغايرة، لأن تقديم هذه الصور المتناقضة إنما هو تقديم للمسكوت عنه إنسانيا واجتماعيا، وتقديم للحياة الداخلية للإنسان، بكل عنفوانه، وأحلامه، ورؤاه.
2-الذات المحبطة - المهمشة
تتجلى في قصيدة النثر قيم هذه الذات المحبطة في نصوص كثيرة، فالواقع العربي المتسارع في تغيراته الدرامية أفضى إلى انهيار القيم، وإلى تغييب ما هو إنساني نبيل وإبراز ما هو استهلاكي عابر قبيح، هذا التغير أفضى إلى أن تصاب هذه الذات الشاعرة بالإحباط الشديد، سواء على مستوى الواقع الصغير أم الواقع الكبير الذي هيمنت فيه قيم العولمة، وثقافة الاستهلاك، ولذا فقد انكفأت هذه الذات على نفسها، تلملم انكساراتها وأحلامها الصغيرة، ووقائعها البسيطة اليومية، فيما نرى في هذه النماذج:
يحيى جابر: كما أنا
ما زلت كما أنا
غراب بلا إخوة
أخفي نظرة مواربة إلى السماء
ولم تمر عليّ ليلة القدر
أحب الحسين وتشي جيفارا
وميريل ستريب
ما زلت كما أنا
أقلم أظافري بأسناني
ألتذ بقهوة الصباح
والقراءة في المرحاض
أرفع شعري إلى الوراء
أحلق ذقني مرة في الأسبوع
وأدخن كقطار
كما أنا
موتر بأعصاب المعدة في آخر الليل
أنام
وأحلم بمئة ألف دولار
لأحبك بطريقة لائقة. (13)
عبدالعزيز جاسم: من: لا لزوم لي
نعم
ليكن في البال أي أحد
الأشباح
والحيوانات
والمديح
لتكن الطبيعة بخوذتها والضيوف بثرثراتهم
إلا سواي
لتنط بلادي من قميصي
لتنأَ الفراشاتُ بعيدا حيث الخرائب واسعة
لينسَ النائم جمرته بين أصابعه
لتهنأ الاشجار بالصلع
لتلبس اللغة جواربها تفاديا للرمضاء
ليهطل المطر إلى أعلى
لتُنقل المقابر على غيوم ضائعة
ليلم النسيان أمتعته ويهجر الحارات
ليشحن الله الكون ويفرّ
ليحدث كل هذا
وأبقَ أنا
حيث اللا مكان مكاني. (14)
يوسف بزي: ابن هذه الفوضى
أنا رجل نحيل مثل سلم، أو طفيليّ
كقملةٍ على رقبة سجين. ضاعت أمي مع قافلة مهجرين، ورحل أبي
إلى حديقة، فيها ملاك، وثلاثة شياطين
أنا رجلٌ وحيدٌ
مثل هواء محبوس في خوذة
أنمو بفعل التنفس
انتظر امرأة أحبتني منذ الولادة
تصنع لي أحصنة تخب في الثلجأحصنة في طريقها إلى ماضي قرية
ردمت بالحجارة. (15)
في النصوص الثلاثة السابقة نحن حيال ذات همشت من قبل الواقع، ذات دفعها الواقع برتابته وضجره ومأساويته إلى أن تعبر داخليا، ذات لا دور لها سوى هذه الكلمات التي تجرح الواقع وتعريه.
في نص يحيى جابر نجد أن أفعال هذه الذات متكررة، مازالت تمارس حدثها اليومي العادي، لا دخل لها حيال ما يجري بالواقع الخارجي:" ما زلت كما أنا... " وهنا ينسحب هذا الزمن إلى لحظته الثلاثية: الماضي، " مازلت " والحاضر " الاستمرارية " والمستقبل " كما أنا " ولن أتغير، وتظل الممارسات اليومية كما هي في الحاضر، كما هي في المستقبل.
وفي نص عبدالعزيز جاسم يُعنونُ ديوانه عنونـة ملفتة:" لا لزوم لي " نحن حيال ذات منكسرة على حالها، محبطة من الواقع الخارجي، وهذا الإحباط يقودها إلى رصد تفاصيل الأشياء، وإلى أن يصبح لكل شيء هويته إلا الذات الشاعرة، فللأشباح، والحيوانات، والفراشات والأشجار هويتها وانشغالاتها، إلا الذات الشاعرة التي تحدد هويتها بشكل مفارق وأنها موجودة فحسب في " اللا مكان".
إن الذات الشاعرة هنا لا تتضامن مع الواقع العام، بل مع واقعها الخاص، المتفلت الهارب من مسؤولية اللحظة، وأحداثها الدرامية.
وهو ما نجده كذلك في نص يوسف بزي:" ابن هذه الفوضى " وفيه يشبه الشاعر نفسه، أو تشبه الذات الشاعرة داخل النص نفسها بأنها " قملة على رقبة سجين ". إن هذا التشبيه القبيح دليل على إحباط كامل من قبل هذه الذات، وعلى كآبة لا متناهية تتسم بها هذه الذات، فهل الواقع هو الذي أنتج هذه الذات وهذا التشبيه؟
إن يوسف بزي يمضي في تقديم هذه الصورة عبر تعبيرات أخرى، مصورا الوحدة، وساردا نصه حتى الوصول إلى قرية ردمت بالحجارة. إن الذات المقهورة المحبطة المهمشة لا تصل إلى شيء حالم، ولا هي تدعو إلى أمل ما، أو شوق يعتري الذات الإنسانية، وهذا موقف شعري من العالم، ينبغي تحليله وقراءته وتأمله.
3- الذات الرائية
تتقارب سياقات هذه الذات والسياقات الناجمة عن الذات المتعالية، فلكي يرى الشاعر شعريا أن يكون متعاليا عن الواقع، ثمة مساحة بينه وبين سطوح الأشياء كي يرى عمقها.. هذا ما تقوله تجربة قصيدة الحداثة هنا.. وتمزج هذه الذات بين الرؤيا والرؤية، في نماذجها الأولية لدى أدونيس ورواد قصيدة النثر مثل: جبرا إبراهيم جبرا، ومحمد الماغوط، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وفي مرحلة السبعينيات والثمانينيات لدى شعراء مثل: بول شاؤول، عباس بيضون،سركون بولص، قاسم حداد، سليم بركات، نزيه أبو عفش، وسيف الرحبي، وميسون صقر، وظبية خميس، وحمدة خميس، وأمجد ناصر، لكنها تتحول فحسب إلى الرؤية المباشرة عند شعراء مرحلة التسعينيات مثل: يحيى جابر أو عماد أبو صالح أو بسام حجار أو أحمد الملا، وإبراهيم الحسين، ومحمد متولي، وأحمد يماني، وكريم عبدالسلام. حيث تحولت قصيدة النثر من قصيدة " رؤيا " تبعا لشعرية الحداثة، خاصة لدى أدونيس، إلى قصيدة " رؤية " تحتفي بالمشاهد اليومية المحسوسة.
وفي هذا النص لأمجد ناصر نلحظ هذه الرؤيا التي يتداخل فيها البدائي بالتكنولوجي وتختلط الأمكنة في لحظة زمنية واحدة هي لحظة الرؤيا:
أمجد ناصر: من: أحد عشر كوكبا لآسيا
... ولأنك قادمة من مساء التكنولوجيا
وأصناف المخلوقات الأهلية
فقد رأيت الثريا تتلألأ فوق سنام النوق،
والخناجر المستلة في ارتياب الذئب
تلمع كالوقيعة.
رأيت نجم الغواية يبرق في السواد المطبق
لعين الرجل الملثم،
ولأنك قادمة من بخار الأنهار الصالحة للملاحة،
ونصوص الجسد المهيأ للمعرفة
والملامسات الباهظة،
فقد وجدت في ظلال كتفين من أبنوس
ظلال قارة غارقة في الرمال والأسلحة
آسيا آسيا،
رمال، وأخماص بنادق،
وقبائل تنحر الجمال الجاثية على ركبة ونصف.
آسيا آسيا
أقمار تتدلى من قبة العرش
بحبال من قنّب، وتنوح في ليل المدن الهاذية. (16)
إنها رؤيا معاكسة، يقيمها النص هنا، فلأن المخاطبة قادمة من:" مساء التكنولوجيا " فإن الرؤيا هنا تشتهي البداوة، والصحراء، والقبائل، والجمال، والأقمار، وهنا يتحول الوعي النصي إلى وعي ضدي مارق، فبدلا من الاحتفاء بالتكنولوجيا والحضارة، ثمة احتفاء بالينابيع العربية بالصحراء، وما ينبجس عنها من قيم وأعراف موروثة.
هل إن العودة هنا للماضي لا تمثل عودة تناصية، بهذه الإشارات المكانية والزمانية في النص؟ بل تمثل عودة تجاورية، تزامنية تجاور بين الأصيل التليد وبين المعاصر الراهن؟ أم أن الوعي الشعري في استقصائه الجمالي والدلالي ينفر من الرتابة والانتظام حتى لو كانت هذه الرتابة تكنولوجية؟
إن جل الأعمال الصادرة في نطاق قصيدة النثر لا تخلو من هذه الرؤى، ومن النادر أن نعثر على رؤى مخالفة، تمجد الحب مثلا، أو القيم الإنسانية كالفرح بالوطن، أو التواصل الحميمي مع تفاصيله ومديح أشيائه.. قصيدة النثر هي تجربة " شاعر ملعون " كما وسمها الشاعر أنسي الحاج، قبلا، في مقدمة ديوانه:" لن " كما أشرنا سابقا.
وفي مشاهد كثيرة، نطل على خواص هذه الذات.. ففي ديوان:" إلى النهار الماضي " للشاعر رفعت سلام، نحن حيال ذات كونية، لكنها ذات متشظية، متكسرة، متضادة، وهي تدل على ذلك على امتداد نصوص الديوان، وهو حين يستهل ديوانه بالقول:
-" لي أن أقبض قبضة من طين الموافق 16 نوفمبر 1951، وأنفخ فيها من روحي المرفرفة على شفا العراء، فتستوي عرشا، وملكوتا من ذاكرة، يطفو على ماء ".
يكرر بعد ذلك:
-" أنا اليتيم في المأدبة الصاخبة".
-"أنا القاتل القادم، القتيل المؤجل". (17)
إن الذات الشاعرة عند رفعت سلام، ذات رائية أيضا، وهي على الرغم من إحباطات الواقع، وتشظيه الموحش، إلا أنها - برؤية إشراقية - تسعى إلى مجاوزة هذا الإحباط عبر صنع واقعها الخاص، وكونها الذاتي المتفرد.

4-الذات الواعية / اللا واعية
الكتابة الواعية (المقصودة) ترتبط بالمعرفة السابقة، وبالخبرة الذاتية للكاتب فيما ترتبط الكتابة الآلية اللا إرادية بالمعرفة القادمة المجهولة، التي لم تختبر بعد، ولم يمارسها الكاتب في واقعه. ومن هنا فإن هذه الكتابة تخضع لشروط المخيلة، فيما تندرج الكتابة الأولى لسلطة الفكر / العارف، وبالتالي لسلطة الواقع المهيمن باعتبار أن الفكر الخاص صدى لمعارف هذا الواقع.
إن الشاعر / الناصَّ حال كونه واقفا خلف الكلمات، رائيا إلى تعالقاتها وانفتاحاتها، لا يغمط تماما حق هذه الكلمات في أن تقف هي خلفه، وأن تدفعه وتحفزه إلى نتاجات أخرى وإلى علاقات جديدة، لم يكن يقصدها بالضرورة، لكنها تولدت حين تجلت الكلمات أمامه، وحين أقعت الحروف وتوطدت صوتًا ودلالةً، هنالك ترتعش حواس المخيلة الشاعرة، ويبقى الناصُّ في حال انذهال - أو انخطاف - تترامى أسئلته وتتدافع، وتكتسي صبغة اللذة بالحرف والكلمة والعبارة.
ما نعنيه تماما أن التداعي الجمالي في قصيدة النثر ليس مثلبة بالضرورة، يشار إليها من قبل القارىء المتعجل، التداعي الجمالي هو ذلك الاستقطار المتدفق الآتي من لا وعي الشاعر/الناصّ في ما ينصّ عليه من شعر، استقطار آلي يومىء إلى مقاصد لا واعية تبعث على تحريك السؤال، ومن أنماط الذوات الشاعرة هذا النمط الذي يمزج بين الوعي واللا وعي، أو بين الوعي الكامل بشقيه، كما في هذا النص للشاعر رفعت سلام:
"لا ينتابني الغناء ولا الرثاء، موعد مخاتل وساعة لا تسعني وسعي سدى. لا وقت لشيء فابتهجوا فهو وقت الخيانة والسرقة والمؤامرة والتسلق والكذب والكلام، ووقتي حين تنبض في القلب فقاقيع من الرمل وأشواك التعب، اتركوني وشأني أنقر قبة الوقت، وأجلو الذاكرة. كم الساعة الآن. اتركوني فوردة الرماد تطفو على الماء المناسب، فينكسر النعاس واحتمال أي شيء آسنا أمضي، وكل الظن إثم وحوريات الليل لا تواتيني للمرة الأخيرة، فلا تتركوني أشعث كالسيف ما لي حيلة غير لقط الحصى والخط في التراب فأخط وأمحو الخط ثم أخطه خطا جديدا فيهرب مني الكلام والمخاطبة إلا فرجة ضيقة ضيقة فأنفذ منها بغتة " (18)
إن السياق هو الذي يفرض مأثرته الباهظة المتمثلة في انفراط التكثيف، وتركيبات العبارة الشعرية من جهة، وفي حضور البعد السردي ذي المسحة الكنائية، وهيمنتها عليه، فهذا المشهد المجتزأ من سياق لا تنقطع دفقاته كما يبدو في نص "الإشراقات"، يشي بهذه السردية الجلية في هذا المشهد الذي يستهله الشاعر بالنفي " لا ينتابني الغناء ولا الرثاء ". والنفي ليس بالضرورة دليلا على عدم حضور، أو على غياب المنفي، بل إنه - بمعنى ما - دليل حضور. لا ينفي الشاعر بشكل مطلق الغناء أو الرثاء، بل يؤكد على حضورهما، لكنهما لا ينتابانه، وقد ينتابان شيئا آخر، وهنا ثمة تداع جمالي صغير يتمثل في التضاد بين الغناء والرثاء، فضلا عن إيقاعهما الصوتي إذا اعتبرنا الإيقاع لونا من ألوان التداعي، حيث إن التداعي يستجلب بالضرورة الكلمة ومرادفها من جهة أو ما يتضاد معها من جهة ثانية، هذا فضلا عن الحقول الدلالية القريبة: الليل مثلا يستدعي النهار والعتمة والظلام والسواد والمساء والصباح... إلخ
إن الشاعر بهذا الاختيار لآلية التداعي الجمالي إنما ينص على فعالية ما، ويقصد إليها ويذهب إلى غاياتها، ولننظر مليا إلى جمل المشهد لنلمح ذلك، ولنجد أن هذا الذهاب يتمثل في إيراده الكلمة ونقيضها، أو مرادفها، والعبارة وما يتساوق مع دلالتها مثلا " ما لي حيلة غير لقط الحصى والخط في التراب.... فأخط وأمحو الخط ثم أخطه خطا جديدا " وهنا يتركنا الشاعر عند سفوح دلالته ليصعد عبر الذاكرة هذا الأفق التناصي القادم من الشعر العربي القديم، ليحدث بذلك نوعا من الحوار الصامت بين نصه وبين القارىء، ولم يصل الشاعر إلى نهاية هذا المشهد التناصي إلا بعد أن مهد له بمقدمات دلالية / زمنية معا.
5-الذات الإيروسية
مثل الجنس محفزا كبيرا لإثراء التجربة الشعرية العربية، قديمها ومعاصرها، وحديثها، لكن الرؤية لهذا المجال تفاوتت بتفاوت المراحل والعصور.. وفي شعرية الحداثة وما بعدها بات المجال الجنسي والجسدي نوعا من الخلاص من مأزق الواقع، وتمثلا للذة محرمة أو غير محرمة هي بمثابة " التابو " في المجتمع العربي الذي يتم كسره عبر الشعر والقصيدة، لا عبر الواقع بالضرورة.(19)
وقد برزت آلية " كتابة الجسد " في شعرية قصيدة النثر. وينظر الدارسون إلى هذه الكتابة عبر منظورين "
-الأول: احتفائي، يرى فيها صدى لتفتت الواقع، ورؤية جديدة - قديمة لابتكار العالم، ويربط ذلك ببعض الأحداث والقيم التي طرأت على المجتمع العربي. (20)
-الثاني: أخلاقي، ينظر إلى هذه التجربة من منظور أخلاقي محض، وفي رأينا أن هذا المنظور لا يصلح لقراءة التجربة الإبداعية الإنسانية في هذا المجال، أو في أي مجال تعبيري آخر (21)
ومن المثير في هذه التجربة الإيروسية التي تقدمها قصيدة النثر أن الذوات الشعرية لا تطل عليها من فضاء بعيد، أو تدور حولها عبر محاذيرها الاجتماعية أو الأيديولوجية، لكنها تقدم التجربة بكل حسيتها، يقول يحيى جابر:
أبدو أحيانا
سكيرا غير مهذب
ربما لأنني رضعت ابنة الراعي
تحت العريشة. (22)
وللشاعر يحيى جابر عدة أعمال يركز فيها على اليومي، وعلى الدلالات المفارقة التي تصل إلى ما يسمى بالكوميديا السوداء، من خلال الأنا المراقبة الراصدة لأحداث الواقع الشخصي - إذا صح التعبير - ففي ديوانه:" بحيرة المصل " (23)
نعثر على هذه الحيوات الصغيرة المعيشة، وهموم الذات في المزج بين قبح الواقع، ورؤية الشعر، كما يتجلى ذلك في ديوانه:" الزعران " (24)
وفيه يتكىء على آليات الفن السينمائي في صنع المشهد، وتتحول الذات الشاعرة إلى ذات راصدة محايدة، غير منفعلة بالأحداث، متفرجة فحسب، كما في نص (مقبرة الفيلة) مثلا، الذي يصفه الشاعر بأنه عبارة عن (سيناريو - شعري).
وفي مشهد آخر لمحمود شرف نجد أن المفردات الإيروسية تذكر في النص دون تعفية ببلاغة استعارية أو كنائية، حيث ترد بشكل مباشر مشحونة بدلالتها الجنسية، كما في نص يحمل عنوان: A true Story (25)
وتنتشر المفردات الإيروسية في قصيدة النثر بشكل كثيف عند أغلب هؤلاء الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر من كافة الأجيال، ذلك لأن الموضوع الجنسي الذي يتشكل في علاقات حميمة وخاصة، يقود إلى المزج بين الجنسين، إلى التوحد في مواجهة العالم، حتى لو كان هذا التوحد عبر اللذة الإيروسية الشبقية.
إن الشعور بالعزلة، والإحباط، والفقد، والانكسار يدفع الذات الشاعرة بشكل تلقائي إلى البحث عن انتصار ما، عن اتحاد ما، عن عالم صغير حميمي، يفارق به إحباطات الواقع، ووجد شعراء هذه القصيدة ضالتهم الأثيرة في هذا الموضوع الجنسي.
وإذا كانت الرؤية الجنسية في بدايات قصيدة النثر، تتخذ عالمها بقدر من التعالي الرؤيوي، وبمزج بين المعنوي والحسي، بين الغياب والحضور، وبين المطلق والمتعين، فإنها في تسعينيات القرن العشرين أخذت بعدا حسيا صارخا، حيث تذكر المسميات الجنسية بشكل مباشر، مع وصف مباشر للوقائع الجنسية. (26)
ثمة ذوات أخرى تبرز بجلاء في أفق قصيدة النثر، تتمثل في الذات المغتربة، والذات المتشيئة المتشظية المتسائلة معا التي لا تدرك هدفها الوجودي، وهي ذات تنطوي - على الأغلب - على قدر من الرؤية السوريالية للعالم والأشياء، ولدى السوريالي تلتبس الرؤى، ويغمض اليقين، وتبوح الروح بمكنوناتها اللا إرادية.
" إن الفنان السريالي يدرك أن الحياة - خاصة الحياة العقلية - توجد عند مستويين: أحدهما مرئي ومحدد الإطار والتفاصيل، والآخر، وربما كان هو الجانب الأهم من الحياة، محجوب، غامض، غير محدد، والإنسان ينجرف خلال الزمن مثل جبل جليدي عائم يطفو بشكل جزئي فوق مستوى الوعي، وهدف السريالي سواء كان شاعرًا أو مصورًا أن يجرب ويدرك بعض أبعاد وخصائص العالم الخفي، وبفعله هذا فإنه يلجأ إلى أنواع مختلفة من الرموز " (27)
وقد أشرنا سابقا إلى أن من سمات الذات الشاعرة في قصيدة النثر " سريلة الواقع "، وهي سمة نعثر عليها في رؤية الشاعر إلى الواقع، حيث ينظر إليه دائما بشكل ساخر، مفارق، عبثي، يحول مقدسه إلى مدنس، ويقينه إلى سؤال، وشخوصه إلى نماذج كاريكاتورية.. هذه الرؤية تتجلى إلى حد كبير لدى أنسي الحاج خاصة في ديوانيه:" لن " و" الرأس المقطوع " (28)، كما لدى عباس بيضون، وعبدالقادر الجنابي.
ففي ديوانه:" مرح الغربة الشرقية" يقدم عبدالقادر الجنابي خليطا من الصور والمشاهد المترعة بالأحلام والكوابيس، والتشتت اللفظي في بنى متماسكة دلاليا، تحتاج إلى القراءات المتوالية لتأويلها.. " الأسئلة تبشبش لي. تنتقب المجهول. الأمل ينفث في الجو دخانه الداكن. ثمة أفكار وفيرة الكبرياء تسخر من الرؤوس المنحنية لارباب أذهانها. أقلام تدس رؤوسها في اللحم، تنفذ إلى الخارج. هكذا يكون البحر صفحة سرطان تشرطها الفواصل. لتثرثر الأصابع، في هذا الليل النائم. أنا لست ممن يجيدون الكتابة حتى أعلل نفسي بعسى وسوف. لقد وضعت أبي على الرف تاركا " أوديب " يناوم أمي. حذاقتي الشعرية رميتها في زقاق " (29)
فكما نلحظ في هذا المقطع فإن جمله تنكتب عبر الكتابة اللا إرادية، كتابة الوعي التي تشكل - كآلية - عنصرا جوهريا من عناصر السوريالية، حيث إننا لو قسنا علاقات الدوال ببعضها البعض، أو تساءلنا عن الهوية الدلالية لهذه الجمل، فإن سؤال التأويل سيكون أكثر سطوعا.
إن أكثر الجمل الشعرية لدى الجنابي، جمل غائصة في الخيال اللا منطقي، غير المنظم، الخيال الفوضوي - إذا صح التعبير -، وفي نص عنوانه:" ما الشعر إلا هفوات " (30)
نعثر على حزمة من الجمل الشعرية المسريلة:
-نسر مسافة إبهامية يعدو كالصهيل في حنجرتي.
-إنه صباح خفيف الجسم أنامله عارية.
-تطالبني بشجاعة الاستجابات الفارة، ونظرة الانطفاء وحلا على جثة الأجوبة.
-كغبطة الأنهار وهي تجرف حيضان النبوغ الذي لا يقصيه البصر.
-لغتي لم تعد أضراس رياض هذه الأدغال.
-يقين مباشر لاحتواء أركان المقبرة البائسة بأكوام الصياح.
هذه بعض الجمل الشعرية التي يحتويها نص الجنابي، وهي - على الرغم من عتمتها الدلالية، وعلى الرغم من أن سياق النص نفسه لن يضيئها تماما عند القراءة الكلية للنص، فهي من أيسر الجمل التي يمكن قراءتها عبر التأويل، إذ إن التجربة الشعرية التي يطرحها عبدالقادر الجنابي من أصعب التجارب الشعرية في أفق قصيدة النثر لأنها أوغلت تماما في الاستقصاءات البعيدة للسوريالية، على مستوى الشكل، واللعب باللغة، وعلى مستوى الدلالة الصعبة الاستيعاب.(31)
ولعل هذا ما ينتجه الوعي السوريالي كتابيا فإن " مصطلح السريالية يشير بشكل خاص إلى التعبير الفني الذي يتقدم من مستويات الوعي التي تكون غير مرتبطة عادة بالجوانب المنطقية المعقولة في الحياة اليومية، وقد اهتم السرياليون أكثر من غيرهم بالجوانب الخيالية اللامنطقية المضطربة الهائجة، وهم يشعرون أن الجمال الأصيل يكمن في التألق المعطى للحواس في الأعمال المنفذة بهذه الطريقة "(32)
ومن صور الذوات الشاعرة في قصيدة النثر: الذات المتسائلة، التي تتجاهل الوجود، لتسائله أو تسائل نفسها، في تهميش جلي لهذه الذات.. كأن الشاعر هنا وهو يدعي - داخل النص - عدم المعرفة أو اليقنية بشيء ما، يقدم لنا معارفه الجمالية عبر تخييل النص، وتشعيره لأفق حياتنا النثري، بهذا الشكل الموحد لطرفي اللغة: شعرا ونثرا. وفي نص حافل بالأسئلة والأجوبة أيضا، لكنها أجوبة ملتبسة لا تفضي إلى يقين ما قدر ما تفضي إلى شبكة من الأسئلة، يقول بسام حجار في نص بعنوان:" تعب "
أكلما اهتديت إلى شجرة
سبقتني الخضرة إليها؟
أكلما اهتديت إلى امرأة
تحتلها الأسماء؟
أكلما اهتديت إلى وجهي
سبقتني التجاعيد إليه؟
كيف تدخل الأرض
في دورتي الدموية
أطلق ضد الشعر كلاما يسقط
كلاما يصيب؟
أصابعي قليلة
وأحبك
شفتاي قليلتان
وأحبك...(33)
وإذا كان السؤال هو الأفق الذي يترى فيه نص بسام حجار، فإن الشعور بالضجر والسأم من الواقع، ومحاولة الهرب إلى الماضي عبر التقنع ب" الشنفرى " أو الاستباق إلى المستقبل المجهول عبر تجاوز لحظة " الآن " هو ما ينتج من قراءة نص زكريا محمد:" غربة "، وهو يركز في غربته هذه على تجاوز الأزمنة، إلى أفق مكاني، إلى " أرض لم تطأها قدم "، كأن الشاعر يقاوم الضجر بالبحث عن المجهول:
كلماتي أصبحت وحشية
يترك الحوشي من لفظ القواميس القواميس
ويجري في لساني
لكأني الشنفرى
يلعب في أرجوزتي
وتقتات اليرابيع
ويعوي الببر والذيب وعرفاء المساء
لم أعد آنس زهر البيت والبستان
لم أعد أعرف أشجاري
علّيق
وسوّيد
وأرطى
وأراك
وأثل
كلماتي أغربت واستوحشت
وتضاريسي نبت
وأنا أدخل، بعد الآن، أرضا لم تطأها قدم
منذ أن ضاعت طريق المسك والبخور
في الرمل وكثبان الأزل. (34)
وقد مثل شعر المهجر الجديد في قصيدة النثر، تجربة مهمة في سياق هذا الشكل، كما أوضحنا في الباب الثالث من البحث، ولعل من أجلى خواصها التعبيرية ما يتمثل في التعبير عن الاغتراب، والغربة. الاغتراب الذاتي، والغربة المكانية، ومن المثير أن مقاومة هذين الملمحين تتم عبر الكتابة بالعربية، على الرغم من الإقامة الدائمة في الغرب. (35)
إن الذات المغتربة المهاجرة، يعبر عنها خالد المعالي بقوله:
" كنت شبه ميت
أرنو بعين بيضاء إلى الحياة "
وهذه الذات تتساءل عن وجودها:
أنا يا أنا في هذا النهار
كيف لبست صوتا ومثقالا من الصبر
بعت ثم اشتريتُ
لم يبق لي ظلام فأمضي
لم يبق لي شبيه بهذا فأنسى
الدر قصير
والوهم طريح في فراش ينام.
إن الغربة والاغتراب يتجسدان في شعرية خالد المعالي، في الإشارات الدلالية إلى السفر، وإلى الأماكن، والطرق، والخطوات " ظلمات في الطريق "، " قدمت للصباح خطواتي "، " أضع لي قمرا في ركن بعيد، أهاجر " (36)
وتتبدى هذه الغربة في التعبير عن الضياع النفسي، حيث تظل الذات تبحث عن وجودها، إلى أن تجد الطريق في النفس.. وحين يكرر الشاعر عبارة:" في الطريق إلي " إنما يحول ذاته إلى مكان أو بقعة " أو إلى هاجس معنوي، إلى نقطة وصول، إلى جوهر للبحث، إلى سؤال.. وهو يصطدم في ذلك كله بجملة من الدلالات:" الليل، الذكريات، وجنازات كثيرة، ليل مقمر، ربيع كسول " إلى أن يرى نفسه في الليل " ليلا في الطريق رأيت نفسي ".. تصبح النفس ملاذا من هذه الغربة، فكأن الذات الشاعرة هنا تنتقل من الغربة إلى العزلة، إلى الفردية الموحشة.
يقول خالد المعالي في نص: في الطريق إليّ:
الليل على طريقي، تداعبني أذياله
حانيا عليّ بأيديه الكثيرة
هناك تتصادم الذكريات في الحفر
وعلى العشب أمل تحمله الحباحب.
في الطريق إلي
جنازات كثيرة
عيون تتابعني من بعيد
وكلبٌ وحيدٌ نابحٌ
يعوي في الليالي كروح جريح
في الطريق إليّ
مهدٌ مرقّعٌ
ليلٌ مقمرٌ، ضاعت فيه الأماني
ربيع كسول، يأس يباع، وصوت كسير
في الطريق إلي
وهمي على حمار أشهب
يرنو إلى شجر في أعال
ليلا في الطريق
رأيتُ نفسي. (37)
وفي تجارب شعرية كثيرة، لدى أجيال مختلفة من شعراء قصيدة النثر، نعثر على هذه الذات المحبطة، المنكسرة، التي تقابل العالم بروح المفارقة، والسخرية، وترى أن الانكسار والنكوص إلى ما هو شخصى هو الأمر الأكثر مكنة في مواجهة خراب العالم، وقبحه.
وتعتمد هذه المواجهة على شعرية التحول، ورصد الأشياء الصغيرة، والإيلاف إليها كبديل عن الموقف الأيديولوجي، كما في نص:" إلى الحالمين في ليلة ماطرة " - على سبيل المثال - للشاعر سركون بولص، وفيه يألف إلى الكلب، والعصفور، والقطة، والأشياء واللحظات الصغيرة في مواجهة الواقع. (38)
ولعل هذه الرغبة العارمة في العزلة، والوحشة الاختيارية، والخصام مع المجتمع هي سمة من سمات عصر الحداثة وما بعدها.
هذه الرغبة نجدها عند شاعر من رواد التأسيس في قصيدة النثر، وهو شوقي أبي شقرا، خاصة في ديوانه:"صلاة الاشتياق على سرير الوحدة "
وفي نص دال من هذا الديوان بعنوان:" صحنًا أدور في الفضاء " يقول أبي شقرا:
أنسحب من زماني
والعصفور من غصني
وأحفر عشا في الحائط
لأفكاري، لإخفاء الوصية
وأتكىء على مسندي القش
على نور القنديل
أتعلم التثاؤب والبطء
من الثلج أستاذ الرقص
صحنا أدور في الفضاء
وشحاذا واسع الكف
لأنال القمر عملة مستديرة
وربما المذنّب الذهبي
وربما قطعة من الدانتيل
ونفتح سوقًا
وتتدلى الأقمشة
من شرفة الفراغ
إلى نافذتي. (39)
ومن سمات الذات الشاعرة في أفق قصيدة النثر، الحزن الشديد إلى درجة الفجائعية والمأساوية، وتبرز هذه السمة على الأخص في تجربة محمد الماغوط، الذي عنون ديوانه الأول ب " حزن في ضوء القمر " وتتكرر لديه مفردة الحزن في جل قصائده، فضلا عن دلالاتها المختلفة (40)
ويحدد كمال أبو ديب بعض تجليات الذات في قصيدة النثر، حيث يجملها في: " الذات الداخلية في شرنقتها التي لا تنفتح إلا على خيوط العالم الملاصق الحميم... الذات من حيث هي ذاكرة شخصية أي مستنسجة خيوط ماض شخصي في ما يشبه الحنين الاسيان المحايد نسبيا، الذات المتلذذة بنفسها المنشغلة بها المكتنهة لأسرار قدرتها على منح اللذة لنفسها، ولمجاهل جسد الأنا أو لأدغال الأعماق التي لا يمكن لآخر أن يبصرها أو يتقراها بلمس، الذات المنشغلة بالمبصر الفردي المتعين محسوسا ملموسا... الذات الوالغة في الحسي والجسدي تعيينا، الوالجة فيه إيلاج الليل في الليل والنهار في النهار " (41)
وتتنوع هذه الذوات الشعرية والتعبير عن الذات الشاعرة تنوعا كثيفا، كذلك في تعبير الشاعرات عن ذواتهم الأنثوية والإنسانية، وهو ما نحدده في الفصل الخاص بانبثاق قصيدة النثر النسوية.
5 -
لا تتم الإشارة إلى الذات في قصيدة النثر عن طريق القناع اللغوي أو الأسطوري، أو عن طريق الرمز، بل تتم بشكل مباشر عبر جملة من الصيغ التي تتصدرها العناصر النحوية التي تدل على الأنا، مثل ضمير المتكلم، أو ياء الملكية، أو ضمير الجماعة المتكلم، أو من خلال الإشارة إلى الأسماء أو الألقاب والكنى، وفي قصيدة النثر تلعب الضمائر الثلاثة دورا بازغا في تأطير صورة الذات الشاعرة، ونكتفي هنا كنوع من الإيجاز بالإشارة إلى هذه الضمائر، فالتعبير يتأدى من خلال:
- التكلم، والخطاب، والغياب، وفي هذا النسق الثلاثي، تتولد الذات الشعرية متنقلة عبر بلاغة الالتفات إلى أوجه عدة من التقرير أو الوصف أو السرد الشعري.
وفي مشهد يعبر عن الذات عبر ضمير المخاطب يقول عزمي عبدالوهاب:
في كل مرة تعطي ظهرك للطريق الترابية
تقسم: لن أعود
لكنك بعد أسبوع على أكثر تقدير
تقطع الطريق نفسها
تطرق الباب نفسه
فتأخذ زاهية لصدرك
وتقاسمها التبغ والوحدة العارية. (42)
وفي قصيدة واحدة يجمع الشاعر عبدالوهاب داود الضمائر الثلاثة، حيث يتوجه الخطاب أولا للغائب " من: يخرج منديله - والجنون في انتظارها "، ثم للمخاطب (من: ماذا سترتكب الآن من حماقات؟ "، ثم للمتكلم من " أيها الأصدقاء إنني الآن أهذي "، يقول في قصيدة بعنوان:" الأب الصغير "
-يخرج منديله
من وهج البكاء في عيني امرأة يحبها
ويقول عن المساء، والوحشة، والأصدقاء
يقول عن أمه التي تسافر خلف خطواته المتعبة
ويحملها معه أينما يطير
يقول عن المقاهي والطرق
عن الحديقة العامة والميدان
عن المحطات والأرصفة ونومه الخفيف
عن المخابز والقطارات ومكاتب البريد
يقول عن حبيبته التي قابلها مرة وحيدة
وسافرت فلم تعد
ولم يجد في حضورها بديلا عن الغياب
والجنون في انتظارها
-ماذا سترتكب الآن من حماقات؟
أنت
أدركت أنه لا فائدة
قالت لك: إنها الآن في القاهرة
فكيف يظل الكورنيش كما هو؟
وكيف لم ينبت في مكانكما الورد؟
لم تكن عاشقا أبدا
وكنت في أعتابها قائما تصلي
فهل أدركتك سنة من النوم
فأمسكت أصابعها
وأقمت صلاتك؟
-أيها الأصدقاء
-إنني الآن أهذي
في انتظار القطار إلى طنطا
وقد سألتني سيدة
أن أدلها إلى الرصيف
لكنني للأسف
لم أكن
أنا. (43)
6-
إن قصيدة النثر الراهنة تحاول أن تمحو فكرة التلاقي المباشر بين الشاعر وبين القارىء، وأن تعفي على مسألة (الإرسال والتلقي) فالشاعر الآن لا يرسل شيئا، ولا يود سوى أن يحدو ذاته. إرسال شيء بالمعنى المضموني غير وارد على الأغلب لدى الشاعر الآن، فالشاعر تخلى عن هذا الدور الذي يصبح فيه مجرد ناقل لرأي، أو لخبر أو لحدث. فكرة الإرسال تتوخى أ

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ياريت تختصر
فيصل -

جميل . بس يا اخي ذبحتنا اختصر او خلها على حلقات ما أحد فاااااضيي