ثقافات

أوفيليا.. وحفار القبور

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صلاح نيازي:يختلف النقاد المعنيّون بمسرحية هاملت: هل أوفيليا انتحرت أمْ غرِقتْ؟ المسألة ليستْ هينة كما تبدو لأوّل مرّة، لأن الدِّين أحد أطرافها. الرواية الرسمية كما روتها الملكة، هي أنّ أوفيليا صعدت على شجرة صفصاف لتعلّق على أغصانها المتدلية باقتها العشبية، إلاّ أنّ "غصناً مؤذياً" انكسر تحت قدمها فسقطت في النهر، وغرقت وهي ما تزال تغني.
حاولت الرواية الرسمية أن تحقق أن موت أوفيليا عفوي. وقع قضاء وقدراً. فوصْف الغصن بالمؤذي إنّما أصبح هو المسؤول الأوّل والأخير. قد نقرأ في: "أغصانها المتدلية"، انحناء أو إطراقاً، كإطراق المشيعين أثناء الدفن. تسمّى شجرة الصفصاف باللغة الإنكليزية أيضاً الشجرة الباكية.
أُرِيد للرواية الرسمية، لا سيّما انها جاءت على لسان الملكة، ثاني أعلى سلطة في البلد، قطْع دابر كل إشاعة أخرى. غير أنّ الإشاعة لم تنقطعْ. انتقلت من المدينة ووصلت إلى حفار القبور، فأخذت طابعاً عملياً، أيْ هل تُدفن أوفيليا حسب الطقوس المسيحية أم لا؟
يُفتَتَح المشهد الأوّل من الفصل الخامس، على حفار القبور، وهو يتحدّث إلى رفيقه :

حفار القبور: أيجوز أنْ تُدفَنَ حسب الطقوس المسيحية
بعد أنْ نشدتْ اللعنة عليها
الآخر: بلى، لذا فاحفر القبر حالاً
قرّر المحقّق أنْ تُدفن
حسب الطقوس المسيحية
الحفار: كيف يكون ذلك، ما لم تكنْ قد أغرقتْ نفسَها
دفاعاً عن النفس.
اللعنة التي ذكرها حفار القبور في السطر الثاني، إنّما هو توكيد على أنّ المنتحرين، في نظر الكنيسة، خارجون عن مسيحيّتهم، لذا تُحَرَّم عليهم طقوس الدفن.
نفهم من الحوار أعلاه أنّ المحقّق هو الذي أمر بدفنها دفناً مسيحيّاً. مع ذلك يتساءل رفيق حفار القبور:
الآخر: أتريد الحقيقة؟ لو لم تكنْ هذه سيّدة نبيلة،
لدفنت بدون طقوس دينية.
حفار القبور: ما تقوله صحيح. ومما هو أكثر حيْفاً أنّ كثيراً
من عِلْية القوم يُسْمَح لهم في هذه الدنيا بأن ينتحروا
غرقاً أو أنْ يشنقوا أنفسهم أكثر مما يُسمح
به للناس العاديين.
***
كان حفار القبور يغنّي لنفسه، حينما دخل هاملت وهوراشيو. استغرب هاملت كيف يتسنى للحفار أن يغني لاهياً وهو أمام رهبة الموت.
هاملت: اليس لهذا الرجل إحساس بعمله فيغنّي
وهو يحفر القبر؟
هوراشيو: إنها العادة، جعلته يقوم بعمله بدون مشاعر مؤلمة
هاملت: صحيح ما تقول، ففي اليد التي تعمل قليلاً، حسّ رقيق أكثر.

حين يقذف الحفار بجمجمة خارج القبر يبدأ أخطر مشهد في تأريخ الأدب، بين هاملت وحفار القبور وهوراشيو. لنتذكر أن هاملت عاد للتوّ من موت محقق، وكأن هاملت هنا بُعث حيّا، وها هو يرى بأمّ عينه كيف يشقّ حفارالقبور ركام التراب، وكيف سيُطوّح بجمجمته خارج القبر في المستقبل. لم يعد هاملت متفرجاً. إنّه متلاحم الآن مع رفش الحفار. مع غنائه. مع ترابه. فهل سيدخل القبر حيّاً؟...
سأل هاملت، حفارَ القبور:

هاملت: لأيّ رجل تحفر هذا القبر؟
الحفار: ليس لأيّ رجل يا سيّدي.
هاملت: لأية آمرأة إذن؟
الحفار: ليس لأية آمرأةٍ كذلك
هاملت: من الذي سيُدفَن فيه؟
الحفار: واحد كان آمرأة يا سيّدي، الرحمة
على روحها، إنها ميتة.
هاملت: يا لَدقّة هذا الشخص. ينبغي أن نتكلّم
بلغة مضبوطة، وإلاّ دمّرنا التباس
كلماته المبطّنة.
يطول الحوار بين الثلاثة فيأخذ أبعاداً فلسفية موجعة. ثمّ يدخل حاملو الجنازة، وكاهن، والملك والملكة، ولرتيس- شقيق أوفيليا، ولوردات. اختبأ هاملت وهوراشيو وراحا يراقبان. لم يعرفا أنها جنازة أوفيليا. كما أن الكاهن لم يكنْ يعرف أن لرتيس هو شقيق أوفيليا، فقال له:
الكاهن: لقد توسعنا في طقوس جنازتها، لأننا خُوّلنا بذلك
كان موتها مشكوكاً فيه
إنّ أمْرَ جلالة الملك أبطل التعليمات المرعية في الكنيسة
بأن تُدفن في أرض غير مقدّسة إلى أن
يُنفخ في الصور:
وبدلاً من إقامة صلاة الرحمة عليها
كان يجب أن ترمى عليها كسر الفخار
والصوان والحصى(...)
لرتيس: أنزلوها في القبر
عسى أن يطلع البنفسج من شعرها ومن جسدها الطاهر
أقول لك أيّها الكاهن الفظّ
ستكون أختي ملاكاً في الجنّة رحيماً
بينما أنت تعول في جهنم"

في هذه اللحظة فقط يعرف هاملت أن المتوفاة هي أوفيليا. ثمّ يرى الملكة وهي تنثر الأرهار على أوفيليا:
"الأزهار الجميلة للروح المباركة، وداعاً
كنتُ آمَلُ أن تكوني زوجة آبني هاملت
توقعتُ أنْ سيُزخرف فراشك بالورود يا فتاتي الجميلة
لا أنْ تُنثر على قبرك..."

سرالملكة في رغبتها في زواج هاملت من أوفيليا لم يعرفْه أحدٌ من قبل، وهو سرّ خطير. رغم أنها لمّحت أنها ستوافق على زواجهما. (الفصل الثالث- المشهد الأوّل).
حينما أُنزلت أُوفيليا في القبر، صاح شقيقها لرتيس:

"لا تُهيلوا التراب عليها
أمهلوني لبرهة، إلى أن أضمّها مرّة أخرى
بين ذراعيّ (يقفز إلى القبر)
الآن أهيلوا التراب على الحي والميت
إلى أنْ تجعلوا من هذه الأرض المستوية جبلاً..."

يدخل هاملت معه إلى القبر ويتصارعان، في هذه الأثناء يعلن هاملت: "لقد أحببتُ أوفيليا" لأوّل مرّة في المسرحية. على أية حال يتنافس لرتيس وهاملت ويتبجحان في حبهما لأوفيليا، لدرجة يقول معها هاملت: "هل جئت لتبزّني بالقفز إلى قبرها، لتدفن حيّاً معها، وكذا سأفعل أنا". وهنا تقول الملكة:
هذا جنون مطبق
وهكذا يكون لفترة حين تتمكن منه النوبة
ولكنْ بعد ذلك سيستكنّ مثل يمامة
حين يفقس فرخاها الزغبيان،
ثمّ بعد ذلك يجلس بصمت مسبل الجفنيْن".
الغريب؛ تترافق مع أوفيليا الصفات النباتية حيّةً وميّتة، وكأنها مصنوعة ، من لحم نباتي. حتى شقيقها لرتيس يسميها: زهرة مايو، وقال عنها أعلاه: "إنزِلوها إلى القبر،عسى أن يطلع البنفسج من شعرها ومن جسدها الطاهر"، وكأنها بذرة دُفنت تحت التراب.
يقول الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في ترجمته الماهرة لقصيدة الأرض اليباب، معلقاً على قول تي. أسْ. اليوت: "أعطيتني زنابق أوّل الأمر قبل سنة": هكذا قالت فتاة الزنابق لعاشقها، (وهي ترتبط بشخصية أوفيليا التي لم تبلغ هدف الحب ، وكانت تجمع الزهور قبل أنْ تسقط في جدول ماء وتموت غرقاً) (ص109).
يقول كذلك في تعليق تالٍ حينما يرجع العاشق، وصاحبته فتاة الزنابق من طقوس الحب، في حديقة الزنابق: "وهذه الأزهار تحمل معنى الحبّ الحسّي، كما أنها ترمز للموت، في أساطير عديدة"(110)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف