ثقافات

إتْ it صحيفة الثقافة المضادة (مع فيلم)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالقادر الجنابي من باريس: في مساء الخامس عشر من اكتوبر 1966 وفي قاعة لندن راوندهاوس (قرب توتنهام كورت رود) تم حفل اطلاق العدد الأول من جريدة نصف شهرية بحجم التابلويد سيكون لها تأثير بالغ على الثقافة البريطانية: الانترناشنال تايمز International Times. ويقول أحد مؤسسي الجريدة هذه باري مايلز إن كلفة استئجار القاعة كلفت 400 باوند، ولم يكن راتب أي منهم يتجاوز 10

باوندات أسبوعيا، لكن لحسن حظهم، التذاكر كلها بيعت وحضر الحفل 2000 مشاهد. والى جانب مايلز الذي كان له مكتبة انديكا لترويج الشعر الحديث الأجنبيوبالأخص أدب جيل البِـيـتْBeat Generation، كان هناك شخصية فذة اسمها جون هوبي هوبكنز الذيلعب دورا كبيرا في اشاعة الثقافة الحرة. وقد تعاونا على مواصلة صدور الجريدة هذه رغم انه لم يكن لهما سماح رسميباصدارها، بل بقيت طوال ثلاثين عاما تعتبر في نظر القانون جريدة اندرغراوند Underground (أي نشرة قبوية غير مجازة رسميا)... ولم تحافظ على عنوانها هذا اكثر من 3 أعداد، ذلك أن عنوانها تغير من International Times إلى it بسبب تهديد من جريدة التايمز المشهورة يعلمهم: إنْ لم يحذفوا عبارة "انترناشونال تايمز"، ستقيم دعوى ضدهم. وهكذا اصبح عنوانهاit يدل على ضمير لغير العاقل. وقد لعبوا كثيرا عليه، فمثلا اصدروا مختارات من الصحيفة تحت عنوانSome of itأي "بعضها".غير أن الحفل الحقيقي الذي يعتبر اول إعلان،في بريطانيا، لثقافة الاندرغراوند المضادة (لغة وإيقاعا) للذهنية الفكتورية، هو حفل جمع التبرعات للجريدة الذي تم في 29 نيسان 1967 في قصر الكساندرا تحت يافطة "حلم مُلوّن"...تسيدته إيقاعات فرقة بينك فلويد وتخللته اسقاطات ضوئية متقاطعة بالألوان الزاهية، وقد حضر الحفلمعظم المثقفين الراديكاليين والمغنين المعروفين كجون لينون ومكارتني، والأسماء الصاعدة آنذاك. (انظر الفيلم).

كان مؤسسو "إتْ"واعين أن الصحافة الرسمية سواء كانت يمينية أو يسارية، لن تعطيهم مجالا للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم المتعارضة مع الواقع البريطاني المحتشم.... لذا فكروا بالأخذ على عاتقهم هم كأفراد، زمام التعبير عن رياح تغيير أخذت تهب على بريطانيا مزيحة الحُجُب الفكتورية عن جسد الحياة اليومية اللندنية بالأخص حيث كل شيء جديد ومختلف عن الخمسينات: الحان جديدة (أغاني البيتلز، الرولنغ ستون)، ممثلون لهم حضور مختلف (مايكل كين، تيرنس ستامب)، شوارع جديدة (كارنابي ستريت، كنغس رود) حيث آخر صرعات الموضة. ولا ننسى انتشار مخدر جديد اسمه LSD الذي كان يعبر عن حالاته بالألوان الزاهية والإيقاعات الموسيقية المخدرة المرهفة للحواس كأغاني فرقة الـDeep purpleمثلا، مما سميت سنوات الستينات Pshychedelic sixties ستينات الحواس المُرهفة... أما على صعيد السياسة: فكان موت تشرشل إشارة إلى نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة... فها هي قوانين التعليم البريطاني أخذت تتغير. وتمت الموافقة على قانون جديد يمنع التمييز العنصري؛ واي ممارسة له في الأماكن العامة تعتبر غير شرعية وجريمة. ونجح النائب العمالي سدني سيلفرمان، عام 1965، في إزالة حكم الموت على جرائم القتل. وكان على البريطانيين ان ينتظروا حتى 1969 ليتم زوال الشنق. وشخصيات جديدة أخذت تبهر الناس أكثر من السياسيين أبطال عملية سرقة القطار المشهورة. الحرب الفيتنامية أصبحت عامل ايقاظ للوعي السياسي لدى الطلاب والعمال البريطانيين... ووعيهم السياسي سيأخذ بالتجذر فعلا عندما دخل الجيش البريطاني اواخر الستينات شوارع ايرلندة الشمالية، زاجا بريطانيا في طور جديد وخطر من المعمعان الإيرلندي... ناهيك عن صعود حركة المثليين المنددة بقوانين الاحتشام الفكتوري، وايضا بروز ما سمي بمدرسة لندن الحرة.
من هنا كانت جريدة الانترناشنال تايمز ضرورة ثقافية لتلعب دور المجهر المساعد لعين الدماغ على رؤية السياقات / الخلفيات الحقيقية للحداثة الآخذة بالصعود في كل مرافق الحياة البريطانية. وقد حرضت الآخرين على اصدار جريدتهم هم، فصدرت مجلة "اوز" التي ركزت على الجوانب الجنسية واخبار الموسيقى، وجريدة أخرى شهرية عنوانها "القزم الأسود" لكن سرعان ما توقفت وعمل مؤسسوها في جريدة جديدة اسمها "الخلد الأحمر" التي كانت منبر المجموعة الماركسية الأممية (الفرع البريطاني للأممية الرابعة).
فالثورات الحقيقية تبدأ أولا من تغيير الذائقة، الأزياء، وتجديد الحواس الخمس وإعطائها ما يرهفها. من الموسيقى الى الجنس ومن الفن الى الموضة ومن الثقافي الى السياسي. وهذا ما كانت تكشف عنه صحيفة "إتْ" طوال الستينات ومطلع السبعينات. ونتائج هذه التغييرات والنضال من أجلها، واضح في كل معالم الحياة البريطانية اليوم. تجدر الاشارة هنا إلىأن جريدة الغارديان والاندبندنت تعتبران نفسيهما سليلي إت. بل يقال أن دليل بريطانيا الأسبوعيTime outأخذت فكرته من صفحات داخلية لصحيفة إت في أعدادها الأولى.
كانت "إتْ" الصحيفة الهيبية الأكثر راديكالية والأثرى ثقافيا في بريطانيا، بل عالميا إذا قارناها مع النشرات الراديكالية غير المسموح لها قانونيا، التي كانت تصدر في فرنسا وأميركا. فمن خلالها كان القارئ الانكليزي الجديد الباحث عن خلاص من الأدب الرسمي، يكتشف رؤيا أدبية جديدة متمردة لا تفصل بين الإنسان ككائن مهمته تأنيب ضمير الثقافة السائدة وبين الإبداع شعريا، موسيقيا، نحتا وفنا، كفعل حر لا تحده قوانين وشروط مرسومة، وعرفت "إتْ" كيف تمزج السياسي بالثقافي والثقافي بالسياسي دون الوقوع في فخ التحزب للأدب أو لحزب سياسي ما. فمن كتابها الدائمين كان شاعر حركة البِيتْ Beat الن عينزبرغ، والروائي وليام بوروز والاسكتلندي الكسندر تروكي، والمغني بوب ديلان، إضافة الى عدد من المناضلين السياسيين. وكان كل عدد منها يتميز بجرأة أسلوبية لا تضاهى.فمثلا، كانت الصفحة الأولى لأحد الأعداد سوداء فارغة إلا من كلمة واحدة بحجم كبير: "اصرخوا". ونشروا، عام 1967، إنذارا على صفحة كاملة يقول: "إن القانون حول الماريوانا مبدئيا غير اخلاقي وعمليا لا يمكن تطبيقه". وقد سادنهم الروائي غراهام غرين وفرقة البيتلز والمحلل النفساني الراديكالي لنغ وعدد من الأطباء والكتاب. وعام 1970 كتبوا: "في عالم اليوم، لا أحد بريء، أو حيادي. فالإنسان إما مُضطـَهَـد، أو مع الجلادين. ومن لا يهتم بالسياسة فأنه يبارك النظام السائد؛ نظام الطبقات الحاكمة وقوى الاستغلال". كان لهم أسلوب سوريالي صوري معبر يحرر اللغة من كل استخدام محتشم وبال. فمثلا لإعطاء فكرة عن الأحياء لا يختلفون عن الموتى، كتبوا بحرف كبير متسائلين: "هل ثمة حياة قبل الموت؟". أو هذه العبارة: "الحياة البشرية في المزاد". او العبارة التالية المشيرة الى المثقفين المليئة قلوبهم بالحسد والغيرة حد الانتقام والوشاية من كل مجدد: "في قلوبهم يعرفون أننا على حق". وفي كثير من الأحيان يستخدمون المعنى الشعبي الدارج للكلمات slang، مما تعود ترجمة كتاباتهم أمرا صعبا. فمثلا العبارة التالية الساخرة من الأطباء: "تقرير طبي: النيك يسبب سيلانا". فلم يكتبوا الكلمة الفصحى Gonorrhea وإنما الكلمة التي يستعملها العوام: Clap وعندما اشتدت الصراعات بين الشرطة ومحتلي البنايات الخالية الهيبيز، كتبوا مقالا تحت عنوان: "مخبر عسكري يتوقع حربا أهلية". أو ينشرون صورة شحاذ حامل لوحة كتب عليها: "نهاية العالم في متناول اليد". وكما في الصورة علىيمين الصفحة،لعبوا على مفردةCome togetherالتي تعني عادة تعالوا معا فأصبح معناهابفضل الصورة: "اقذفا معا". وعندما توفي ملك الروك الفيس بريسلي، نشروا صورة له مع رتوش على وجهه ووضعوا التاج فوق رأسه حتى يبدو وكأنه وجه ملكة بريطانيا وكتبوا بحرف كبير: "ماتت ملكة"... وغيرو اسمه في الخبر الى افليز بريسليز النجمة التي حكمت بريطانيا عشرين عاما!

كانت "إتْ" غالبا ما تعاني من الوضع المالي، فالمسؤولون عنها كلهم شبان عاطلون عن العمل، تركوا الجامعة، ويعملون في المطاعم أو محلات بيع الكتب من أجل لقمة العيش. وكانلهم ثقة كاملة بأي شخص عاطل يأتي الى مكتب الجريدة ويأخذ 50 نسخة لبيعها.. ومع هذا، فإن ما سيأتي به ذاك البائع أو هذا لن يكفي تسديد تكاليف الطبع. لذا تحدّث مايلز، ذات مرة، الى مغني البيتلز بول مكارتني ليساعد الجريدة، أجابه مكارتني: "اعمل حوارا معي والشركة التي تنتج اسطواناتنا ستعطيكم إعلانات"... وقد أجرى بالفعل حوارا معه، فحصل فيما بعد على إعلانات من شركة الاسطوانات. وهكذا أخذوا يكررون اللعبة هذه مع آخرين كميك جاغر مغني فرقة الرولنغ ستون فحصلوا على إعلانات أخرى. وعندما توقفت عام 1973 ستة اشهر بسبب الوضع المالي، أعطاهم مدير شركة "أبل للاسطوانات" صكا بالف باوند وقعه جون لينون، الذي استغرب غيابها ويعتبر نفسه مشتركا أبديا فيها.
بقي حجمها تابلويد إلى عام 1972 عندما بدأ ظهور جرائد تابلويد فضائحية، فتغيّر حجمها الى مجلة شهرية على امل ان تتخصص بالنقد الثقافي الراديكالي لكن سرعان ما عادت الى حجمها التابلويد.
أما مشاكلها مع القانون والشرطة فقصة طويلة (انظر الصورة الأخيرة في نهاية المقال: "أيها الكيميائيوناتحدوا من جديد، فنحنفي حاجة الى أسيد"). فمثلا، عام 1967، اقتحم مكتبها البوليس وصادر 8 آلاف نسخة بتهمة نشر مواضيع خلاعية. وبعد مدة سحبت عنهم التهمة. وعام 1970 قُدمت الى المحاكمة بتهمة افساد الأخلاق العامة بنشر اعلانات التواصل بين المثليين. فأغلقت عام 1972 لفترة قصيرة. وبسبب تدخلات الشرطة، كانت بعض المطابع ترفض المواصلة معهم، فيضطرون الى تغيير المطبعة كل عددين او ثلاثة. وحتى باعتها كانوا يتعرضون لمضايقات الشرطة، فمثلا اعتقل بائع لأنه كان يبيع العدد الذي على صفحته الأولى صورة رجل أسود يقبل امرأة بيضاء، بتهمة الاعتداء على الأخلاق.
استمرت "إتْ" وبصورة متقطعة حتى عام 1996. طبعا دائما بحجم التابلويد ولفترة قصيرة على شكل مجلة شهرية. والآن يستطيع أي قارئ الاطلاع على أعدادها كاملة بالنقر هنا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
كالعادة
معجب -

أستاذ جنابي نشكرك.. دائما تكتب موضوعا لم يطرق من قبل بالعربية... شكرا على تنويرنا وإلا سنبقى "غاوون" فقط.

كالعادة
معجب -

أستاذ جنابي نشكرك.. دائما تكتب موضوعا لم يطرق من قبل بالعربية... شكرا على تنويرنا وإلا سنبقى "غاوون" فقط.

صور عارية تماماً..!!
عبدالرحمن الخالدي -

هناك صور عارية تماماً ضمن الصور المرفقة لصفحات الجريدة ! هل هذه هي أخلاقيات صحيفة بحجم أيلاف !! الرجاء مراعاة الذوق العام والآداب العامة يا صحيفتنا التي نتابعها بشغف

صور عارية تماماً..!!
عبدالرحمن الخالدي -

هناك صور عارية تماماً ضمن الصور المرفقة لصفحات الجريدة ! هل هذه هي أخلاقيات صحيفة بحجم أيلاف !! الرجاء مراعاة الذوق العام والآداب العامة يا صحيفتنا التي نتابعها بشغف

nice
mona -

موضوع رائع .. شكراً

nice
mona -

موضوع رائع .. شكراً

سلامات
جليل حيدر -

حلو. حلو

سلامات
جليل حيدر -

حلو. حلو

شكر
كسر في آية -

مرة أخرى يثبت استاذنا عبد القادر الجنابي على أنه مبدع استثنائي بكل ما في الكلمة من معنى شكرا أستاذ عبد القادر على إبداعاتك و ترجماتك و بحوثك و تحياتنا لك دائما

شكر
كسر في آية -

مرة أخرى يثبت استاذنا عبد القادر الجنابي على أنه مبدع استثنائي بكل ما في الكلمة من معنى شكرا أستاذ عبد القادر على إبداعاتك و ترجماتك و بحوثك و تحياتنا لك دائما

عبدالقادر مبدعا
مازن -

من دون مجاملة للزميل الشاعر عبدالقادر جنابي ان هذا التحقيق من اجمل التحقيقات الثقافية التي قرأته منذ قرابة العقد من الزمان... اتصور اننا في العراق وفي ظل التحولات الكبيرة التي تجتاح حياتنا نحتاج لمثل تجربة هذه المجلة كي تعطي هذه التحولات دفعة وروح اكبر.. لا ادري هل يوافقني الجنابي على ذلك... بانتظار الرد

عبدالقادر مبدعا
مازن -

من دون مجاملة للزميل الشاعر عبدالقادر جنابي ان هذا التحقيق من اجمل التحقيقات الثقافية التي قرأته منذ قرابة العقد من الزمان... اتصور اننا في العراق وفي ظل التحولات الكبيرة التي تجتاح حياتنا نحتاج لمثل تجربة هذه المجلة كي تعطي هذه التحولات دفعة وروح اكبر.. لا ادري هل يوافقني الجنابي على ذلك... بانتظار الرد