جريمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حسبي الله ونعم الوكيل ولا إله إلا الله وإنا لله وإنا إليه راجعون، هكذا يمكن لمكلوم أن يقول لحظة حزن. سأقتصر الطريق على نفسي وأعلن عن قصدي مباشرة. وقعت جريمة في القرية وأود أن أكتب عنها. الآن وقد انتهى الجدارمية من عملهم ونزلت القضية إلى الدرك الأسفل من جحيم النسيان قلت لابأس في أن أدلو بدلوي . تسول لي نفسي أنني صرت أنتمي إلى قبيلة القصاصين وعليه إذا كتبت عن الجريمة فمن المؤكد أنني سأخلدها.
وفي الحقيقة أنا لا أثق في هذه النفس. كل ما في الأمر أن بعض الجاهلين بحقيقتي نشروا لي قصة في مجلتهم وأدرجوني ضمن خانة المبدعين.
-واهلي حتى كيي، (1) أقول لنفسي وأنا أقص شعر الموسطاش.
أقولها صراحة. لست مبدعا ولا هم يفرحون أو يحزنون.أنا مجرد ناقل لما وقع في القرية. وما وقع في هذه القرية بالذات عشر سنوات خلت يمكن إيجازه كما يلي:
"وقعت جريمة قتل ذهبت ضحيتها طفلة في عمر الزهور (تشبيه متجاوز). القاتلة زوجة شيخ القبيلة، توفي قبل سنوات، وأم أطفال. والسبب، الظاهر على الأقل، كسر ابن امرأة تاجر خروب وزيتون لإحدى قوائم نعجة المرأة الأولى." أنا المتهم بأنني قصاص أريد أن أتدخل هنا وأصرح أن الواقع والخيال يتنافسان على درجة الأهمية. ما علينا ما بنا." لم تسجن القاتلة بل تطوعت ابنتها ونسبت عملية القتل لنفسها وبعد سنوات سيتم الإفراج عنها" . المؤكد أن النفس اللوامة ستبين لي أن الحبكة تصلح أن تكون نواة لقصة طويلة. ولكن أنا لا أريد أن أكتب قصة طويلة ولا متوسطة ولا قصيرة. أنا أريد أن أكتب فقط.أريد أن أنفس عن نفسي فقط. وإذا شاء الجاهلون بحقيقتي إدراج ما أكتب ضمن خانة الإبداع القصصي فشغلهم هذاك. لست مسئولا عن تصنيفاتهم ولا اعتقد ما يعتقدون . ولا أنا معتقد فيما هم معتقدون. سطوب. إلى الجريمة. هيا.
البارحة كان الحر لا يطاق. خرج المعلم سلام إلى الغرصة هاربا من حر الدار. تمدد تحت شجرة تين وارفة الظلال. رأى بأم عينيه الصغيرتين كعيني نمس أن القليل من الثمار سيصل إلى مرحلة النضج هذه السنة. تقع الغرصة غير بعيد عن الطريق التي تخترق القرية. غفا قليلا من الوقت وخيل إليه أنه يراها نازلة من سيارة خطاف حمراء. كانت تحمل حقيبة سوداء. يتذكرها الآن. كانت تطل على العشرين. لم يكن قلب أحد من شباب القرية يميل إليها. كان هندامها رجوليا أكثر مما يحتمله الشباب. ويسري بين الناس أن أباها الذي نصب شيخا على القبيلة على الرغم من أنف السكان كان مغلوبا على أمره داخل الدار. الأم،قاهرة دجاج و قطط وكلاب الجارات، هي صاحبة القول والفصل. ويقول البعض أنها هي التي خنقت ولدها لحظة غضب.
تسعة عشر سنة خلت، تجزم المزكلدية، على الواقعة. كان العايل باقي ما شاف والو.
الموت واحد وأسبابه عديدة، يصرح إمام الجامع بيقين ثابت. وسبحان من لا يسهو ولا ينام ولا يموت.
لا احد يقترب منها أو يسلم عليها. حين يتحدثون عنها لا يذكرون اسمها. يشيرون إليها فقط بالمسخوطة. حتى الثعلب التي تسطو على دجاج الجارات لا تقترب من دجاجها كما لو أنها تؤمن بما تؤمن به الجماعة.
البارحة والشمس تشوي الطير وصلت إلى القرية. لا أحد كان في انتظارها.
"كانت في الحبس"، تسر المزكلدية لجارتها التي سكنت حديثا بالقرب من دارها.
يعرف كل الذين عايشوا تلك الجريمة التي اهتزت لها الأشجار والأكباد الرطبة والقصحة أنها ليست القاتلة الحقيقية. لا أحد من القرية كان حاضرا لحظة القتل ولكن ما دام أن الاعتراف سيد الأدلة كما يقول فقهاء القانون فقد نسبت التهمة للبنت عوض الأم. الحقيقة موجودة لدى أفراد الأسرة وأنا المحسوب خطأ على قبيلة القصاصين لا أريد أن أتهم أحدا. ماذا لو أعلنت أنني القاتل الحقيقي؟ كل شيء ممكن. كل شيء ممكن في سبيل يات المعشوقة لل لسم نس القصة(2). ألست أنا الذي أقود دفة الحكي هنا؟
قيل أن القتل تم قبل صلاة العصر. وقيل أيضا أن القتل تم قبل صلاة العشاء بقليل. وخرج صوت من بين الحشد ليقول في شبه يقين تام أنها قتلت حين دخل المصلون إلى المسجد ليصلوا صلاة المغرب. الصدفة وحدها قادت الإمام ليقرأ وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ذلك اليوم. وعلى الرغم من اختلافهم في تحديد ساعة القتل فقد اتفقوا جميعا على الشهر. كان الأمر سهلا على التذكر. لم يمر أسبوعان على احتفالهم بعيد الأضحى حتى سمعوا ما يشيب له الولدان. كانت القرية جد هادئة. وحده الغراب الساكن في أعلى نقطة في زرداب(3) كان سيد الفضاء.
لا يدرك أحد على وجه الدقة لماذا يجعل الله بعضا من عباده خيرا وبعضا آخر شريرا. حتى المعلم سلام الخبير بحوافر البغال والحمير وبالنار والمسامير والصفايح يحتار في الأمر.القرية مثل كف، يقول. تستطيع أن ترى كل شيء يتحرك فيها. الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يدركه هو ما يدور في بواطن الناس. وحده الله يعلم السرائر لكنه لا يريد أن يوقف الشر.
بالشر، يقول الإمام، يمكن أن نعرف الخير. لو لم يكن الشر موجودا ما كنا سنعرف الخير.
لا بد أن الإمام يعرف الأشياء بأضدادها.
من كان يصدق مثلا أن البقالية قد تثير شهوة أحد. كانت البقالية حمقاء. ويتعجب البعض كيف يمكن لنسب شريف أن يخرج من بين صلبه وترائبه حمقى. غير أن المعلم سلام يقول انه مثلما يمكن لمزبلة أن تتحول إلى جامع يمكن أيضا لحقل زيتون أن يتحول إلى بورديل أو دار جهنم. المعلم سلام يسرد الكثير من الحالات والوقائع التي اهتزت لها القرية في الماضي: الاعتداء على البقالية. اختفاء فروج الحمرية الأحمر . ذلك الفروج الذي كان يعلن عن مطلع الفجر مستعينا بغريزته التي وهبه إياها الله. اختفاء حمارة المرحوم قدور.
كان عاديا أن تختفي الحمارة لأسبوع أو ثلاثة وتعود. يعرف الناس أن الحمير تستعمل من طرف الكناثرية(4) في نقل الكيف إلى الغرب. ويوشوش البعض أن للحمارة أدوارا أخرى في القرية غير الأدوار المعتادة. ألف الناس غض الطرف عن مثل هذه الشرور غير أن ما وقع ذلك اليوم ولم يكن لحم القديد قد جف بعد لا يمكن وصفه ولا يمكن أن يطيح في البال حتى على أقبح فرد في القرية.
تتذكر رحيمو أنها خرجت في الصباح وطلبت من ابنتها أن تبقى في الدار حتى تعود.
-راني ماشيا عند باباك للخلا. مغ نتعطلشي بزاف.
-واخا.(5)
كان الأب يتاجر في الخروب والزيتون. يشتري البضاعة من أي كان. من الصغير والكبير. من المعروفين بامتلاكهم للغرس والغير معروفين. عندما تهدمت أسنانه بفعل السوسة صنع لنفسه طقم أسنان. يفتح فمه فلا تعرف إن كان يبتسم أم لا. علاقته الغامضة مع المخزن كانت تجعله عرضة للضحك المبطن بالنقد من طرف المعلم سلام. تلك العلاقة، يقول المعلم سلام، هي التي يسرت له الاستفراد بشراء غلة الزيتون بثمن غير معروف. ولو كان واهب الزيتون للجامع حيا، يضيف سلام، لكان أعاد النظر في كلامه. الراجل هو الكلمة.
حين علم بخبر مقتلها كان يزن كيسا صغيرا من الزيتون لطفل لا يتجاوز عمره الثماني سنوات. من المؤكد أنه لم يتصور قط أنه سيؤدي حياة طفلته الوحيدة ثمنا مقابل كسر في إحدى قوائم نعجة لعينة. يتذكر جيدا أنه قبل أسبوع لوح ابنه حجرا على نعجة المسخوطة فأصابها بكسر. وحتى وهو يعرف أن مالكة النعجة معروفة بقبحها فإنه لم يأخذ على محمل الجد حين قالت له والزبد يخرج من طرفي شفتيها أنها سترزيه(6) في أعز ما يملك. الفواجع تأتي من حيث لا يحتسب المرء. وبعض الفواجع تأتي على أخضر ويابس القلب والعقل.
كان خلف الميزان حين علم بالخبر. لا بد وأن زلزالا عاطفيا قد ضربه. ترك الميزان والطفل والزيتون ونهض. أحس بالدوار. تمالك نفسه جيدا إلى أن وصل الدار. كانت الأم تولول. ومن غير المستبعد أن تكون الملائكة قد سمعت ولولتها الحزينة. ولكن ما اهمية الملائكة إن كان ليس في مستطاعها إيقاف شر مثل هذا الذي وقع في القرية؟ حقا، أود أن أقول أنا المتهم زورا بكوني مبدعا، إن الشر ابتلاء وامتحان ولكن ليس كل الناس في مقدورهم التحمل. النفس ليست كثمار الخروب والزيتون المرتبطان بالمطر وبالسوق. النفس عزيزة عند الله، يقول الإمام ومعه المعلم سلام. ولأنها عزيزة عند مولاها فقد كان يسيرا على المولى عز وجل أن يدلهم على المكان الذي رميت فيه الجثة الصغيرة.
ما من أحد لم يخرج ذلك اليوم. كل الناس بما في ذلك الحمقاء البقالية تركوا مشاغلهم وخرجوا لمعاينة الجريمة البشعة. تحلقوا حول بئر مهجورة تقع خارج الدوار. وحينما تم إخراج الجثة بكى حتى الذين لم يسبق لهم أن بكوا. وقال الإمام لا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت الجثة موضوعة في كيس بلاستيكي أبيض. اقشعر بدن كل الحاضرين حينما شاهدوا بأم أعينهم التي سيأكلها الدود كيف التوى الحبل الأسود بعناية حول تلك الجثة الصغيرة. كان اللون الأزرق يعلو تلك الشفتين اللتان كانت تقبلان يد الأب والأم والفقيه. لم تكن درتها المزركشة قد فارقت رأسها غير أن ضفيرتها كانت بارزة للعيان. كان شعرها طويلا وقالت بعض العارفات أن ذلك الشعر الشديد السواد كان سيهبل أقسى الشباب. سبحان الله و لا حول ولا قوة إلا بالله.
هوامش
1.آه منك
2.المعشوقة التي اسمها القصة.
3.اسم مكان في قرية تروال بشمال المغرب. والكلمة تحوير لسرداب .
4.يطلق اللفظ على الأشخاص الذين يقومون بنقل الكيف على البهائم أو على ظهورهم . كان الناس يتحدثون عنهم بنوع من الرهبة والاحترام والتقدير. هم لا يعتدون على أحد. يتنقلون في الليل. يمكن أن يكونوا قساة على الذين ينقلون أخبارهم الى المخزن.
5.إنني ذاهبة للخلاء. لن أتعطل أخيرا....نعم
6.سأفقدك إياه.سأرزؤك فيه.