ثقافات

ساراماجو يوقف الموت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"تحتاج الحياة إلى الموت ليعطيها معنى"

في رواية "انقطاع الموت" يطرح الروائي البرتغالي خوزية ساراماجو التساؤل المثير "ماذا لوتوقف الموت عن العمل؟... ماذا لو استمرت الحياة دونما انقطاع؟.".. ففي بلاد تحيط بها اليابسة ويقطنها عشرة ملايين شخص يأخذ الموت اجازتة في أول دقيقة من العام الجديد. تستمر الحياة كما هي.. يمرض بعضهم،.. يتزوج البعض وينجب.. بينما يُصاب البعض الآخر في حوادث سير أو إطلاق رصاص ولكن.... لا أحد يموت.
يبتهج الناس في بادئ الأمر فهاهم يعيشون حلم البشرية الآزلي في الخلود دونما خوف من الزوال أو الاختفاء الفجائي للأحبة....
"بَعْدَ أَنْ عاشوا، حتى هذه الأيامِ المربكة، فيما تَخيّلوا أنه أفضل العوالم الممكنة، هاهم يَكتشفون، وببهجة، أن أفضل حياة، بل أفضلها على الإطلاق، هي التي يعيشونها الآن. هنا، عند باب بيتِهم، حياة فريدة ورائعة دون الخوف اليوميِ لصرير مقص الموت، خلود في الأرضِ التي منحتنا الوجود، آمان من تقلبات القدر يُمنح للجميع، دون أوامر مختومة تفَتْح عند موتنا، لتعلن عند تقاطعِ الطرق لرفاقِ أعزاء من وادي الدموعِ المعروف بالأرضِ سيجبرون على الافتراق في اتجاهات مختلفة في العالمِ القادم، أنت إلى الجنة، هذا إلى العذاب، وذاك إلى أسفل الجحيم"

لكن الفرح لا يطول. تكتشف الكنائس ان خوف الناس من الموت قد زال و أدى الى تناقص اعداد المترددين، يخاطب الكاردينال رئيس وزراء بلده قائلاً " أن الحياة دون موت... مثل الحياة دون خبز.....وأن الحياة دون موت تلغي قوانين لعبة الحياة... فما الذي يحول بين الناس وارتكاب الموبقات بعد أن ضمنوا الخلود؟".... تزدحم المستشفيات بالعجزة والمرضي الذين يتأرجحون على حافة الموت، تتفاقم ازمات السكن والبطالة، تنهار شركات التأمين وشركات المقابرالخاصة....و تدريجيا تعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها لأرتفاع كلفة المستشفيات وإيواء المرضى. تكتشف عائلات كبار السن المحتضرين ان العناية بهم ستدوم للأبد. وبما أن الدول المجاورة لم يتوقف فيها الموت فسرعان ماتدرك تلك العائلات أن الخلاص يكمن في تهريب العجزة الى الدول المجاورة..... ليصير التهريب الى الموت تجارة رائجة تغض الدولة البصر عنها......وفي النهاية يواجه رئيس الوزراء ملك البلاد بالحقيقة المرة..."أن لم يعد الموت... فلا مستقبل لنا".
تنفسم الرواية الى جزئين: يقدم الجزء الأول تحليلاً سوسيولوجيا لفرضية غياب الموت وتبعاتها على المؤسسات (الدولة، الكنيسة، المافيا، المستشفيات، دور العجزة..الخ). بينما يصف الجزء الثاني كيف تعود الموت (وهي أنثى غريبة الأطوارة في الرواية) لمباشرة عملها وتختار عددا من الاشخاص لتبعث اليهم برسائل تنبئهم فيها بموتهم المحتوم خلال أسبوع وتطلب منهم ترتيب امورهم قبل مغادرتهم الحياة. ولكنها تقع في غرام عازف آلة التشيلو الذي يرفض الرد على رسالتها فتتحول الى امرأة في الثلاثين من عمرها وتتعرف عليه لتمارس (وهي الموت) الحياة معه ولتعيش لحظات تناقض وصراع حادتين داخلها، فعندما تسمع عزفه في حفل لمقطوعة التشيلو السادسة لباخ.. تحس االدفء يدب في أطرافها الباردة وتدرك أنها.. إي الموت قد أحبت الحياة...عند انتهاء الحفل..ترافقه.. تعلن حبها له..تحرق الرسالة التي كانت تحملها له.. وتنتهي الرواية كما بدأت بجملة " وفي اليوم التالي لم يمت أحد".
"إنقطاع الموت" كبقية روايات ساراماغو يغوص فيها بعمق متأملاً أسئلة الوجود الانساني وتبعاته بأسلوب يجمع ما بين الكوميديا السوداء والتأمل الفلسفي. الرواية عمل بارع ملئ بتفاصيل حياة تغيب عنها أسماء الناس، الاماكن والأزمنة، ومحاولة جريئة لقدح التساؤل حول إمكانية اليوتوبيا، دور الكنيسة والدولة، الحب والعلاقات الاسرية وعن الوجود ذاته. كتبت الرواية بأسلوب سردي رشيق. فيما يلي ترجمة لمقطع من فصلها الأول:


(انقطاع الموت)

في اليوم التالي لم يمت أحد. تلك حقيقة مؤكدة. ولأنها تناقض قوانين الحياة، فقد أثارت قلقا هائلا و مبرّرا جداً في عقول الناس. علينا أن نتذكر أنه في الأربعين مجلداً من تاريخ العالم لم تحدث مثل هذا الظاهرة ولو لمرة واحدة، لم يحدث أن مر يوما كاملا بساعاتِه الأربع والعشرون، بنهاره وليله، دون أن يقع موتا واحدا لمرض,أو لسقوط قاتل، أَو لانتحار ناجح،.... ليس ثمة موت واحد. ولا حتى من حادثة سيارة، وهو أمر شائع حدوثه في المناسبات البهيجة، عندما يلتحم التهور والإفراط في الكحول ليتسابقا في تحديد من سيصل الموت أولاً. حتى عشية السنة الجديدة أخفقتْ في أن تتَرْك خلفها،كعادتها، طابور الضحايا المفجع.
بدا الأمر كما لو أن "اتروبوس" (آلهة الموت) العجوز بأنيابها الحادة قد قرّرتْ التخلي عن حصتها هذا اليوم. ورغم غياب الموت، لم تغب الدماء.
بحيرة، وارتباك، وذهول، كافح رجال الإطفاء من أجل السَيْطَرة على شعورهم بالغثيانِ، وهم ينتزعون البقايا المشوّهة التعسة مِنْ الأجساد التي، طبقاً للمنطقِ الرياضيِ الصارم، لا أمل لها في الحياة. و بالرغم مِنْ خطورة الإصابات والجروحِ فقد بقت حيّةً وحُمِلَت إلى المستشفى، يرافقها صخب أصوات سيارةَ الإسعاف. لم يمت احد من المصابين في الطريق وتحدوا بذلك أكثر التوقعات الطبية تشاؤما.
"لا يوجد ما يمكننا فعله، لا جدوى من إجراء العمليات, إنها مضيعة كاملة للوقت"، حدث الجرّاح الممرضة بينما كَانتْ تُعدّل قناعه. المريض الذي كان من المستحيل أن يعش بالأمسِ، بدا اليوم واضحا أنه يرفض المَوت، وأن ما يحدث هنا يتكرر في أرجاء البلاد.
حتى أخر قبس مِنْ أخر ليلِ في السَنَة كان الناس يلقون حتفهم في التزام كاملِ بقواعد اللعبة، سواء تلك المتعلقة بلب المسألة، إي إنهاء الحياة، أو تلك المتعلقة بشكلها إي الدرجات المتفاوتة من مظاهر الأبهة والوقار التي ستصحب اللحظة القاتلة.
لكن ثمة حالة مثيرة جداً، ربما لطبيعة الشخص المعني، وهي الملكة الأمِ العجوز الوقور. ففي الدقيقة الواحدة بعد منتصف الليل من الحادي والثلاثونِ لديسمبر/كانون الأول، ما كان أكثر الناس سذاجة ليراهن على بقاء السيدة العجوز على قيد الحياة. لم يكن ثمة أمل، ومع عجز الأطباء في وجه الحقائق الطبية القاهرة، لم يكن أمام العائلة المالكة ما تفعله سوى أن تجلس باستسلام وبشكل منظم حول السرير، في انتظار الأنفاس الأخيرة لكبيرة الأسرة المالكة، ربما لسماع بضعة كلمات منها, أو تعليقا أخيراً حول التنشئة الأخلاقية لأحفادها المحبوبين،أو جملة مؤثرة موجهة إلى الذاكرة الجاحدة للأجيال القادمة.
بعد ذلك، بدا الزمن كما لو أنه تَوقّف، لم يحدث شيء. لم تتحسن حالة الملكة الأم ولم تتدهور، بَقيت معلقة، يتأرجح جسدها النحيف على حافة الحياة، مهدد في إي لحظة بالسقوط في الجانب الآخر، يشده طرف خيط واهي إلى هذا الجانب، بينما يواصل الموت شد الطرف الأخر. وهكذا دخلنا اليوم التالي، و كما قلنا في بداية الحكاية، كان اليوم الذي لم يمت فيه أحد.

ساراماجو في سطور:

bull;ولد في البرتغال في 16 نوفمبر/تشرين الثّاني 1922.
bull;لفقر أسرته انقطع عن الدراسة ولم ينل تعليما جامعيا.
bull;تَدرّبَ لِكي يَكُونَ ميكانيكيا في الثالثة عشر من عمره، أصبحَ لاحقاً موظفاً حكومياً.
bull;أصدر روايته الأولى "أرض الخطيئة" عام 1947 وتوقف عن الكتابة ما يقرب العشرين عاما ليصدر عام 1966 ديوانه الشعري الأول قصائد محتملة.
bull;هاجر بلاده محتجا على تدخل الكنيسة لمنعه جائزة عن كتابه " الإنجيل كما يرويه المسيح".
bull;حصل على جائزة نادي القلم الدولي عام 1982 وعلى جائزة كامويس البرتغالية عام 1995.
bull;مَنحَ جائزة نوبل للأدب في عام1998.
bull;اشتهر بمواقفه التقدمية و دعمه لقضايا الشعوب المكافحة من اجل الحرية.
bull;نشرت له الكتب التالية (الطبعات الانجليزية):
oقصائد محتملة 1966.
oالطوف الحجري 1986.
oبالتسار و بلموندا 1987.
oعام وفاة ريكاردو رايس 1991.
oالأنجيل كما يرويه المسيح 1993.
oدليل الرسم والخط (رواية) 1994.
oرواية كل الأسماء 1999.
oتاريخ حصار لشبونة 1996
oقصة الجزيرة المجهولة 1999
oرحلة إلى البرتغال 2000.
oالكهف 2002.
oالعمى 2006.
oانقطاع الموت 2008.

bull;كاتب وقاص من ليبيا Lawgali1@hotmail.com
bull;DEATH WITH INTERRUPTIONS
By Joseacute; Saramago. Translated by Margaret Jull Costa, Harcourt. 2008.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
اشكرك
شريف الغرينى -

هذا عرض رائع لرواية رائعة يا سيدى لا اعرف ماذا أقول وهل ستصدقنى إذا قلت انى تناولت فكره مشابهة قليلا فى روايتى الصادرة اول العام الحالى وكانت بعنوان " ذئاب واسود وقمر واحد" حيث افترضت مبادرة من ملك الحيوان تحولت لمعاهدة بين الحيوانات على اساسها تتوقف الحيوانات الشرسة عن الصيد والإكتفاء بأكل الميتة التى تنفق طبيعيا وتطورت فى الحكاية حتى عادت الحيوانات المسالمة بذاتها لتطالب ملك الحيوان بإعادة الصيد اتمنى ان ارسل لكم نسخة من العمل على عنوانك البريدى.محبة لا تبلى ..هنيئا لك باختياراتك وشكرا مرة اخرى على الإرسال والعرض البديع شريف الغرينى

متألق
essa -

تحياتي لك استاذ عطية ودمت متألقا كما انتعيسى عبدالقيوم

متألق
essa -

تحياتي لك استاذ عطية ودمت متألقا كما انتعيسى عبدالقيوم

Thank You
belgassem elkhaldy -

Thank you Atia for this. Your article made me interested in the writer to the degree I ordered one of his books: The Gospel According to Jesus Christ.