ثقافات

النخيل تموت واقفه

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قصة قصيرة

اعتاد الجلوس على دكه من طين كان قد بناها أمام داره منذ زمن، وأمام الدار شجرتا سدر وتوت وشجرة عنب تشكل مع الأشجار الأخرى مظلة كبيرة وارفة الظل، تضيف زوجته رشيقات ماء لهذا الظل، تزيد من برودة الهواء القادم من الشمال وكان يريح جسده بعد عمل كل يوم عمل شاق وحار، على هذهِ الدكة الطينية الباردة.
تنهد بعد سحب كمية من الهواء البارد المشبع برائحة الأرض وعطر الأشجار الربيعية النظرة.اشبك أصابعه المرتجفة التي بان عليها الكبر والتعب، واضعا كلتيهما على عصاه المصنوعة من شجر التوت، واسند ذقنه عليهما،شكل مع العصا هرما أتعبته السنون، وزاد من تعبه هم الحياة، كور عينيه واضعاً يدهُ اليمنى على جبينه مستظلاً بها عن أشعة الشمس النافذة من خلالِ أغصان الأشجار، محدقاً في نخلة كان ابنه قد زرعها منذ سنين منادياً:ـ
ــ أم عبد الرزاق.. النخلة قد حملت واني أرى طلعتين فيها.
ــ يجيبهُ صوت من الداخل (صلوات)
قام من مكانه حاملا كل السنين العجاف التي مرت عليه، اقترب من النخلة ضربها بعصاه قائلا.. إيه.. إيه يا دنيا!
حثَ خطاه ماشيا متكئاَ على عصاه ليقوم بجولته الصباحية المعتادة حول أرضه،متفقدااياها أنها حياته والرئة التي يتنفس منها، يشعر وهو يمشي بين الأشجار وسعف النخيل كأنه في جنات عدن، والأنهار الصغيرة التي تمتليءفي المد وتنحسر في الجزر كأنها شرايين جسمه النحيف التي أعطاها كل عمره،يقف برهة ويرفع نظره صوب نخلة الحلاوي الطويلة... يداعبها الهواء ويهز رأسها ناشرةً ذوائبها في كل اتجاه وكأنه يسمع صوت ابنه وهو يقول له ــ يا حاج هذه السنة حملت أربعة عثوق.. بركه كلما طال عمرها،يقل عطاؤها،يناديه (تمسك جيدا،الهواء شديد يجيبه:ــ
ــ لاتخف، تدريب يدك.

تحجب دمعتان حائرتان تستقران في مقلتيه، تشوش صورة النخلة،حتى يكاد لا يراها وتتعب رقبته عن الاستمرار في النظر.. يحني رقبته لتسقط الدمعتان على الأرض، ضرب الأرض بعصاه متابعا التجوال، مستخدما عصاه لرفع سعف النخيل المتشابك مع الأشجار العنب على الطريق الضيقة، وأحيانا يجد إن لامناص من أن ينحني قليلا متفاديا المتبقي من أغصان التين وغيره، رفع رأسهُ أخيرا وإذا هو أمام ضفة شط العرب، أما التاريخ، أمام عظمة النهر الخالد، الذي عانً كأهلهُ منذ القدم، أستظل بيده ليرى قوارب الصيد وهي ترسم خطوطاً مختلفة بشباكها في عرض النهر، هزًَ رأسهُ بالرضا قائلاً ــ يجب أن تستمر الحياة ــ أراد أن يريح جسده المتهالك لبرهة من الزمن، اتخذ من إحدى سعفات النخيل اليابسة مقعدا له، لكن الذكريات لم تتركه ينعم بالهواء والماء الذي يحمل على سطحه آمال الرجال الكبار، وكانت أصوات المدفعية والصواريخ المتبادلة تثيرُ ذاكرته وتعبث بأحلام كل الكائنات الحية بما فيها الأسماك كانت الحياة أتعس مما يتصور الإنسان، ومن خلال هذا العبث بحياة الإنسان هجر الفلاحون أراضيهم على ضفتي النهر وباتت أشجار النخيل كأنها الأشباح، أحنت رؤوسها،وقُطِعت ِ جدائلها، وأخريات انحنت من وسطها، وألتفت إلى احدي جاراتها التي ظلت تقاوم ولم تنحني، وماتت واقفة!!.. نتيجة لجروح عديدة في جذعها اثر شظايا القنابل.
تألم، وضع يده على الأرض واستعان بعصاه للوقوف، تمتم قائلا (نحن نزرع ونتعب وهم يحرقون ويقطعون، قلبوا المعادلة إنا لله) أكمل جولته معقبا ــ سنزرع مرة أخرى يااولادــ اتجه إلى بيته، بعد أن أخذت منه نوبة السعال مأخذاً،اضطرته للوقوفِ عدة مرات، حثَ خطاه محاولاً عبور قنطرة قديمة جرفت المياه جزءاً منها، استدار ليلقي نظرةً على شبكة ابنه القديمةِ المقطعة تذّكر إنهُ كانَ يقطعُ الجدول عند المد ليصطاد بها بين الحين والأخر، كان ينادي والدتهُ وهو يرفع السمك بخوص النخيل قائلاً ـ أُم عبد الرزاق اليوم الغداء سمك ـ الفرحة تملأ قلبها، ودعواتها له بالتوفيقِ وطول العمر تردد (يوم عيد عندما تتزوج وأرى أولادك.. خنقتهُ العبرة.. زفرَ كل الهواء من رئتيه ليعاود السير قائلاً ـ الله أقوى من الظالم ـ وضعَ يدهُ اليسرى خلف ظهره لتساعده على الاستقامة واستند على عصاه، هَمّ بالمشي، اعتادت بقرته عندما تراه أو تسمعُ صوته تناديه بصوت ألِفه منذ ُ زمن، أجابها ـ ها أنا مبروكة ـ أخذَ كمية من العلف المخزون بجانب الحظيرة بيده ودخلَ إليها قدم لصديقتهُ فطورها المعتاد وهي تشمه،همسَ بإذنها:ـ
لم يبقىلي إلا أنت وأم عبد الرزاق. تهزُ رأسها بالإيجاب وكأنها فهمته
يسمع أم عبد الرزاق تناديه.. الفطور جاهز، يجيبها قائلا:ـ
ــ أكيد الفطور زبد ولبن، سأدعوك بطول العمر.
يفترش الأرض مع زوجته تحت ظل الأشجار تحاوره قائلة:ـ
ــ أبو عبد الرزاق لا تحمل هَمً الدنيا، الذي راح لا يرجع؟ أجابها.
ــ لقد كسروا ظهري ألا تنظرين.. زرعنا وعمرنا الأرض لمن؟ أليس للأبناء؟ أين هم؟ ستصبح هذه الأرض أثراً بعد عين من يزرعها؟ لقد أخذوا الشباب إلى محرقة الموت!! ثم أردف ــ سأذهب إلى جارنا واجلب بعض حبوب الطلع وسألقح نخلة (عبد الرزاق) إنها ليست مرتفعة ــ حاذر وأنت تفعل ذلك.
ــ سأُلقحها بعصا طويلة وهكذا حال باقي النخلات الصغيرة.
ــ أخاف عليك، أنت لاتتحمل التعب و الضغط والسكر أخذا منك الكثير.
ــ لاتخافي عتيق الصوف ولاجديد البرسيم، بعد أن أكملا فطورهما حاول القيام.. لم يفلح استعان بيده وعصاه ولم يتمكن من النهوض نظر إلى زوجته.. وتنهد ثم صفق بيديه وقال:ــ
ــ واأسفاه يا عبد الرزاق.. ثم أجهش بالبكاء...!


اتحاد الادباءوالكتاب في النجف الاشرف
Ma_alrfaie2008@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف