شيء من النور الإلهي في عراق 58 - 64
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فاضل عباس هادي من لندن: الحنين الى الماضي شعور انساني طبيعي تفرضه الذاكرة المحجّبة. وعلى خلاف اعتقاد بعض المتعالمين من عرب وأنغلو. ساكسونيين من أن النوستالجيا شعور مرضي عديم النفع وانه وسيلة الكسول والمتفائل السطحي لمواجهة الحاضر الكارثي.
وعلى الجانب التطبيقي والعملي، الصور الفوتوغرافية تقدم نموذجاً مثالياً وبرهاناً على أن الأمور كانت أفضل مما هي عليه الآن في عراق الكوارث والعواصف الرملية الصفراء والسحب السوداء والانفلات الأمني والتراخي الأخلاقي والأنانية، وفي المقابل نجد أن جَلَد العراقيين وتميزهم البيّن وتحليهم بالارادة وروح الدعابة والعمق النفسي واصرارهم البطولي على المثابرة ومعانقة الحياة بقوة مثال على أن الماضي حاضر في ذاكرتهم الحية والحيوية.
وكلما اتصلت هاتفياً باخوتنا وأخواتنا في المحبة والشقاء في عراق اليوم وجدت أنهم أقوى من المغتربين وأكثر تفاؤلاً وعنفواناً منهم. انهم أبطال حقيقيون، نحني الرأس لهم ونحيي فيهم الايمان الذي لا يتزحزح ولا ينكسر بإمكانية عراق أفضل وكأنما لسان حالهم يقول الصور صور الفترات الغابرة نريد أن يعود العراق الى ما كان. الصُور الصُور، تؤكد ذلك الصور.
* * *
كتاب "لطيف العاني مصور من العراق" الصادر عن دار الأديب العراقية العتيدة التي يديرها هيثم فتح الله من الأردن والصادر في العام الماضي وتقديم احسان فتحي الناقد الفني في حلة قشيبة يقدّم لنا نموذجاً لما كان عليه العراق، نموذجاً يسعى العراقيون من مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الى إعادة إرسائه وعلى دعائم جديدة. وكما كتبنا في الثمانينات من أن "لبنان هو الواحة التي يلجأ اليها الجميع ويعمل على تدميرها أكثر من طرف واحد" نكتب الشيء نفسه عن عراق اليوم. فليتجمع القرويون حول موقد النار من جديد، لنعيد الابتسامة الى الثغر الريّان وخاتم الأمان والإخاء بالتراضي الى المعصم.
ونحن، غالباً ما نسمع من العراقيين في الغربة الحجرية. وهم يتنكرون للجذوة الكيانية ويحاولون، عبثاً، اطفاءها في مجتمعات الغرب التلفيقية. الدعوة الى نسيان العراق وتوطين النفس المتوقدة على الحياة والموت في بلاد الأجانب عديمي الذاكرة التراكمية. الا انهم، على أغلب الظن، كذابون. وان محاولتهم للاستقرار نهائياً في الغربة ما هي الا محاولة عوجاء وبلهاء، فرضتها معطيات العراق الحالي، واغراءات الغرب المالية، الغرب الذي يوفّر لك الحياة الكريمة على الصعيد العملي ويتركك لوحدك لمعالجة الروح صبواتها وتلاطماتها. و"لماذا. كتبت منى السعودي في إحدى قصائدها. كلما صعدت اليك تكسرني؟".
الشاعرة تخاطب حبيبها في القصيدة الا انها يمكن أن تكون خطاب العراقي الى وطنه المهدّم. أو مؤيد الراوي وهو يكتب "العراق، أحبّهُ كمقصلة". وكلا النصين ظهرا في "مواقف" أدونيس في السبعينات.
* * *
الذاكرة ليست افرازاً مرضياً كسيحاً وهناك من الذاكرات ما هو عديد ومتنوع تنوّع طرق التذكر. وهناك سعي المصور الى تثبيت أو ترسيخ ما يختاره من مرئيات، وبالانجليزية to fix وما وراء عملية التثبيت أؤ قبلها transfix بصيغة الفعل: يحجّر، يَشُلّ أو يحوّل الى تمثال. وهناك كلمة ثالثة هي frame بصيغة الفعل أيضاً وهذه مفردة ثرية عديدة المعاني منها يصوغ، ويفرغ في قالب ويركّب (أجزاء هيكل ما). راجع قاموس "المورد" للمترجم الكبير منير البعلبكي ود. روحي البعلبكي.
هذه المفردات الثلاث أساسية في عمل المصور وهي تتبادل المواقع عى الدوام وتتناوب على الصدارة في مخيلته التأليفية.
هذه الأفكار والاعتمالات والاصطيادات أثارها في الكاتب ولياليه البيضاء الكتاب المذكور الصادر كما ذكرنا عن دار "الأديب" العريقة.
وليس عبثاً أن اختار الناشر تصدير الكتاب بعمل ممتاز هو صورة المصور الفنان مع الرسام الكبير نوري الراوي وبينهما صورة التقطها المصوّر للرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم. إنها الصورة التي تتثبت في الذهن وتترسخ وتتأطر، وتبقى تلح عليه بشكل أقوى من لوحة سلفادور دالي "الحاح الذاكرة".
والصورة هي واحدة من الصور التي تستحم بشيء من النور الالهي، النور بالمعنى القُدسي لمرادفها الدنيوي: الضوء، الضوء الأبيض الحليبي، الضوء الخارق الصفاء والملمس الحريري، وهو أمر أشرنا له في مناسبة سابقة عند الكتابة عن واحد من الفروق الجوهرية بين التصوير الفضي والتصوير الرقمي.
الصورة مأخوذة في العام 1961 حيث كانت بغداد تشعّ وتضيء وفَرِحة بسكانها. وهناك صورة لشارع الرشيد الذي ينقلك مجرد ذكر اسمه الى عدد من معالم الشارع عصب من أعصاب بغداد الأساسية حيث مقهى البرازيلية، على سبيل المثال، التي كانت تشع وتضيء بفضل كوكبة ممتازة من جيل الخمسينات: نزار عباس ورزاق رشيد الناصري وذنون أيوب وشاكر خصباك ونهاد التكرلي ورشدي العامل وسعدون فاضل وكتّاب أجلاّء لا تحضرني أسماؤهم.
وكانت البرازيلية في وقت لاحق افتتحت لها فرعاً في الباب الشرقي حيث نُصب جواد سليم. والفرع الجديد كنت أرتاده لوحدي بعض الأحيان فأجلس وحيداً كاليتيم، رغم البهاء والضوء وحركة العراقيين والبنات الجميلات وهن في طريقهن الى "مدرسة الراهبات". وهناك كنيسة الأرمن وقاعة كولبنكيان حيث أقيم أول معرض لجماعة الرسامين "المجددين"، ومنهم فايق حسين ورافع الناصري.
صور كتاب عبد اللطيف العاني تنقلك بسرعة النهر الجارف الى هذه الأماكن الخالدة وأنت من خلال تحديقك بالصور لا تستطيع التوقف عن الهذيان، وتتساءل عما اذا كان الانجليز الذين ساهموا ببناء عراق الذكريات هم الذين تعمدوا تدمير العراق نكاية بالعراقيين الذين تنكّروا للجميل وقرروا تأميم النفط فقطعوا عليهم مصدراً مالياً مهماً لبناء مجتمعهم الحالي: مجتمع الرفاهية.
* * *
ومما لا شك فيه ان العاني. المصور الرسمي لمجلة "العاملون في النفط". كما أكد لنا الفنان ضياء العزاوي. الذي كان يترأس تحريرها الكاتب والمترجم الكبير جبرا ابراهيم جبرا، كان يتمتع بحرية في الحركة والتنقل والثقة بالنفس يحسده عليها المصورون في العراق الحالي. وإنه، خلال الفترة القصيرة التي تحمل صوره تاريخ التقاطها، كان ملهماً وفرِحاً وهو يتنقل بين مناطق العراق المختلفة من الشمال الى الجنوب.
ولا ننسى أن عدداً من أقطاب جيل الستينات كانوا ينشرون بعض ما يكتبون في مجلة "العاملون في النفط" وان جبرا كان يجزل العطاء لهم عداً ونقداً.
* * *
ولا يقتصر الخوف من المصور وكاميرته على حكام البلدان العربية من المحيط الى الخليج. بل ان البلدان الأوروبية وعلى رأسها ما يسمى بريطانيا العظمى سنت وتسن قوانين تحد من حركة المصور وتضيّق الخناق عليه.
وقد نشرت الصحافة البريطانية عدداً كبيراً من حالات القاء القبض على المصورين بحجة انهم يصورون الأماكن الأمنية الحساسة. أي أن السلطات الحاكمة في البلدان الأوروبية، بإسم مكافحة الارهاب أخذت تكافح المصور، هاوياً كان أم محترفاً، تراقبه وتحد من حركته. نذكر هذه الحقيقة المرة لأن أعمال العاني كانت احتفاءً واحتفالاً بفعل التصوير. وهما أمران أصبحا الآن مستحيلين في حالات عديدة.
* * *
وهكذا قدم لنا مصوّرنا العراقي انشودة رعوية ومدنية قلّ ما يماثلها في التمكن من عناصر الصورة وغنائية الموضوع. وانها، بالاضافة الى أعمال كامل الجادرجي ومراد الداغستاني ورمزي، تمثل عراقاً ساحراً بهياً نحنّ إليه ونتمنى عودته.
* * *
اسعفيني، إذن، أيتها الذاكرة "تكلمي أيتها الذاكرة" وكأني بناباكوف الكبير وهو يحض ذاكرته الفوتوغرافية العجيبة على النطق.
ناباكوف أقرب الروائيين الى المصور الفوتوغرافي في طريقته في بناء المشهد جملة جملة.
* * *
هنا كنا نطير من الفرح
هنا كنا نضحك ملء الأشداق
وننتشي بشيء من النور الإلهي.
التعليقات
مساهمة بسيطة
مازن -ما كان هناك داعي يا فاضل ان تتهجم على ابناء بلدك الذين ارغموا على الغربة وانت واحدا منهم, تحليلك الساذج و الفردي عن تيه اقرانك المغتربين لا يمت صلة بالنور الالهي او الكهربائي لفترة كانت او لم تكن جميلة عند البعض. المهاجر الذي يعزل نفسه في قوفعة الماضي النوراني لا اعتقد انه انسان متفهم او مدرك لواقعة المفروض عليه. انا افتخر لكوني عراقي اينما كنت, بسلوكي و ثقافتي و بشرتي السمراء. جميل ان نتذكر عرسنا اذا ضاقت بنا الدنيا بس و بعدين ؟
مساهمة بسيطة
مازن -ما كان هناك داعي يا فاضل ان تتهجم على ابناء بلدك الذين ارغموا على الغربة وانت واحدا منهم, تحليلك الساذج و الفردي عن تيه اقرانك المغتربين لا يمت صلة بالنور الالهي او الكهربائي لفترة كانت او لم تكن جميلة عند البعض. المهاجر الذي يعزل نفسه في قوفعة الماضي النوراني لا اعتقد انه انسان متفهم او مدرك لواقعة المفروض عليه. انا افتخر لكوني عراقي اينما كنت, بسلوكي و ثقافتي و بشرتي السمراء. جميل ان نتذكر عرسنا اذا ضاقت بنا الدنيا بس و بعدين ؟
واحات معدودة
diab diab -الوهم الكبير هو مايصر عليه العراقيون سابقا وحاليا.كنت واحدا منهم في الوهم، صحوت بعد فترة طويلة من النوم والمشاهدة والقراءة والتفكير خارج الفردوس الفقير العراق. احب العراق مثل الجميع منهم...لكن يجب ان ينتبه الجميع ولمرة واحدة فقط وبهدوء...جبرا خريج المدارس الامريكية والانكليزية، ورسامينا معدودون تعلموا على يد الپولون القادمون مع مكتب الاعلام البريطاني اثناء الحرب العالمية الثانية وكان لهم مقر بالقرب من المقهى البرازيلي في شارع الرشيد...والموسيقى وغيرها من الفنون....مااريد قوله انها كانت واحات صغيرة ومحدودة ومتباعدة من الوعي الاجتماعي والمعرفي...محدودة في بغداد والبصرة والموصل...و و و...وسط بغداد وهي على كل حال كانت مدينة صغيرة وعلى قدر ذاك الزمن....شوارعها الجيدة في عمرانها معدودة.. الرشيد، السعدون، منطقة المسبح...شوية الاعظمية شوية الكاظمية وهذان مركزان دينيان..المباني تعد ولذلك ولحد الان يضرب المثل ببناية واحدة هي عمارة الدامرچي...ومباني المصارف في شارع البنوگ..وفندق واحد فخم ومهم هو فندق بغداد بين السعدون وابو نواس..وبارات ومقاهي ابو نواس كانت متواضعة وبسيطة...وبقت حلوة في ذاكرتنا لاننا نحب ايامنا الحلوة البسيطة لكن البلد الذي اسمه العراق كان ومازال فقيرا بائسا متواضعا وليس اكثر....نعم هناك ثروات لم ارها في حياتي الاحروب ومعتقلات قوات امن ومخابرات..انه بلد بائس انه ارث حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم يعتذر لنا نحن العراقيين عما عاثه في الارض من فساد....يبقى العراق اجمل بقعة في الدنيا لانها الذكرى التي تمنحني قوة البقاء ، خوفي على بغداد، انام وانا نصف الشئ فنصفي الثاني بغداد مريض لاينام
واحات معدودة
diab diab -الوهم الكبير هو مايصر عليه العراقيون سابقا وحاليا.كنت واحدا منهم في الوهم، صحوت بعد فترة طويلة من النوم والمشاهدة والقراءة والتفكير خارج الفردوس الفقير العراق. احب العراق مثل الجميع منهم...لكن يجب ان ينتبه الجميع ولمرة واحدة فقط وبهدوء...جبرا خريج المدارس الامريكية والانكليزية، ورسامينا معدودون تعلموا على يد الپولون القادمون مع مكتب الاعلام البريطاني اثناء الحرب العالمية الثانية وكان لهم مقر بالقرب من المقهى البرازيلي في شارع الرشيد...والموسيقى وغيرها من الفنون....مااريد قوله انها كانت واحات صغيرة ومحدودة ومتباعدة من الوعي الاجتماعي والمعرفي...محدودة في بغداد والبصرة والموصل...و و و...وسط بغداد وهي على كل حال كانت مدينة صغيرة وعلى قدر ذاك الزمن....شوارعها الجيدة في عمرانها معدودة.. الرشيد، السعدون، منطقة المسبح...شوية الاعظمية شوية الكاظمية وهذان مركزان دينيان..المباني تعد ولذلك ولحد الان يضرب المثل ببناية واحدة هي عمارة الدامرچي...ومباني المصارف في شارع البنوگ..وفندق واحد فخم ومهم هو فندق بغداد بين السعدون وابو نواس..وبارات ومقاهي ابو نواس كانت متواضعة وبسيطة...وبقت حلوة في ذاكرتنا لاننا نحب ايامنا الحلوة البسيطة لكن البلد الذي اسمه العراق كان ومازال فقيرا بائسا متواضعا وليس اكثر....نعم هناك ثروات لم ارها في حياتي الاحروب ومعتقلات قوات امن ومخابرات..انه بلد بائس انه ارث حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم يعتذر لنا نحن العراقيين عما عاثه في الارض من فساد....يبقى العراق اجمل بقعة في الدنيا لانها الذكرى التي تمنحني قوة البقاء ، خوفي على بغداد، انام وانا نصف الشئ فنصفي الثاني بغداد مريض لاينام
هنيئا لكم ...
عراقيه -جميل ولكن كنا نأمل بصور اكثر حميميةترينا شيئا عن فردوسنا الذي اضاعوه منا ، فعلا يقولون انها ايام لا تمحى من الذاكره فحذاري من ذاكرة لم نشهدالا صور الموت والدمار حتى صرنا نحن كما تحنون ولكن بفارق لا يمكن تقدير هو اننا نحن لحياة لم نعشها والاشد ما نخشاه...لكن معاذ الله لان القادم اجمل بكثير .دمتم
هنيئا لكم ...
عراقيه -جميل ولكن كنا نأمل بصور اكثر حميميةترينا شيئا عن فردوسنا الذي اضاعوه منا ، فعلا يقولون انها ايام لا تمحى من الذاكره فحذاري من ذاكرة لم نشهدالا صور الموت والدمار حتى صرنا نحن كما تحنون ولكن بفارق لا يمكن تقدير هو اننا نحن لحياة لم نعشها والاشد ما نخشاه...لكن معاذ الله لان القادم اجمل بكثير .دمتم
تحية الى لطيف العاني
خالد السلطاني -افرح كثيرا عندما اسمع قولاً يحّي ابداعات الفنان لطيف العاني، المصور الفوتوغرافي المميز، الذي لم يأخذ حقه من التكريم والاحتفاء. واحس بارتياح كبير لصدور كتابه الجديد، الذي اتوسم فيه محتويا على منتج مميز وبمستوى طباعة فاخر. العمر المديد للفنان الاستاذ لطيف العاني وتحية الى فنه المرموق
تحية الى لطيف العاني
خالد السلطاني -افرح كثيرا عندما اسمع قولاً يحّي ابداعات الفنان لطيف العاني، المصور الفوتوغرافي المميز، الذي لم يأخذ حقه من التكريم والاحتفاء. واحس بارتياح كبير لصدور كتابه الجديد، الذي اتوسم فيه محتويا على منتج مميز وبمستوى طباعة فاخر. العمر المديد للفنان الاستاذ لطيف العاني وتحية الى فنه المرموق