ثقافات

اعطني بطاقة أخرى يا عباس بيضون؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

منذ متى وعباس بيضون ينشد النثر؟

عبدالله السمطي من الرياض: الشاعر اتخذ سبيله الشعري تصويرا وتخييلا، واتخذ نهجه الإبداعي عبر الاتكاء أولا على البلاغة الجديدة التي طرحها رواد قصيدة النثر، وهي بلاغة لا تنأى كثيرا عن هذا الدرج الإيقاعي الذي صعدت عبره قصيدة التفعيلة في توهجها الساطع الذي تمظهر أكثر في ستينيات القرن العشرين بعد تجاوزه مرحلة البدايات، ثم إحداث قطيعة دلالية معها في تمرحلاته الجمالية المتتابعة.
كانت الدرامية وجها من وجوه الشعرية، تعدد الأصوات، التوتر، السريلة أحيانا، التركيز على الوعي الكامل بطرفيه الوعي واللا وعي، ثم قطع الشعراء هذا الوصل التعبيري ليفتحوا مجال السرد الشعري غير مفارقين تماما هذا الوعي الدرامي الفاتن.
كان على عباس بيضون أن يطيع مخيلته، وأن يكسر حدة هذا النظم النثري الذي قدمه الرواد. كان عليه أن يكون مراوغا أكثر، في تشظيه، في تضاده، في تناقضه مع العالم. كانت تجربة الحرب الأهلية اللبنانية المريرة بدءا من منتصف سبعينيات القرن العشرين محفزا دلاليا عظيما في تحول عباس بيضون إلى قصيدة المأساة، قصيدة المفارقة، اللعب بالأشياء ومراقبتها، قصيدة التشييء، قصيدة اللا جدوى. هكذا حين كان الشعرُ يمهرُ دلالاته في سماوات على الأرض تقيم في ركام الخراب والفوضى والأشلاء، كان عباس بيضون ينصرف وحده إلى قصيدته الخاصة يشعلها في أبجدية الدلالة وإشراق المعنى.

2-
تابعنا عباس بيضون بفرح، متنقلا كطائر مسافر في الأبد، من ديوان لآخر، ومن حديقة تخييلية لحديقة أخرى من " نقد الألم" و" الوقت بجرعات كبيرة" و" مدافن زجاجية" إلى " حجرات" و" اشقاء ندمنا" و" لمريض هو الأمل" حتى وصلنا معه إلى ديوانه الأخير:" بطاقة لشخصين" بطاقة سفر يستعملها شخصان، هل هما عباس بيضون وذاته المنشطرة في وعيها المتمرد، هل هما الأنا الكامنة داخل الذات والآخر الكامن في وعيها؟ الشخصان ليسا بالضرورة شخصين مفترقين، بل هما شخصان طالعان من الشاعر الضمني، الصديق الراحل بسام حجار، والسارد الضمني - إذا استعرنا من منظومة المفاهيم الروائية- الشاعر هنا ضدان في واحد، أو في الواحد المتعدد بتعبير كمال أبي ديب، هنا يبتكر الوعي الشعري هاجسه وأسئلته التي تتلاقي فيها المتطابقات وتتآلف المتضادات. إنه وعي السريلة الذي يشتت الدلالة، ويكثف المعنى، ويبحث عن الطرف الحي من الموت، ويحول اللا منطقي إلى واقع وبالعكس، ويصرف الروح إلى أن تتأمل بصيرتها في فوضى الحرية وحرية الفوضى.
بيضون مسكون - بل معجون- بهذه الطريقة الشعرية التي تفضي في التحليل الأخير إلى التأمل الفادح في كينونة الذات، وكينونة العالم وتسعى إلى أن تتجوهر الأشياء بطريقة مختلفة غير طريقتها السياقية المعهودة.

3-

عباس بيضون في ديوانه:" بطاقة لشخصين" ( دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 2010) هو ناقد الألم، وناقد الوضوح معا، يذهب بصوره إلى غيابات جب اللحظة، يرمي هناك بعبارته وجمله وفقراته، ويجوس بعيدا بعيدا، مع أن السردية الشعرية في عمله قد تشي بهذا الوضوح. ولكنه ليس نقيض العمق، بل هو نقيض السطح. من هنا هو يعيد تسمية الأشياء في نص له بعنوان الوضوح، لينقل لنا كيف يشتغل الشاعر على كلماته:" سيكون كل شيء مكشوفا، كل شيء معدوما، إذ مع نهاية الأسرار لن يكون هناك بعد أي أمل للحقيقة... يكفي أن نغمض أعيننا عن العالم حتى نتسبب أو نشارك في إبادة كاملة. الوضوح نوع من الإماتة. إنه الصالة التي تعمل فيها الوساوس بأفواه عنكبوتية ويخمد الرعب في جدار الفلين". بيضون بهذه الطريقة يطرق أبواب الغياب، ليعطي صوره المدهشة الملتحفة بالسردية، وبالمشاهد المتتالية التي لا تعظ فينا تماما جرثومة اللغة المصطفاة. فصورة الشعر كامنة بتنوع الأشياء.
يضم ديوان عباس بيضون (23) نصا، ليست نصوصا عجلى، بل هي نصوص أكثر تأملا تعمق الأشياء اليومية، لا تحدق في التفاصيل، فثمة نقلة أخرى غير التفاصيل، غير اليومي، والمألوف، غير المعاين والمشاهد.. النقلة هنا إلى الداخل، لا داخل الذات فحسب، بل داخل العالم، وداخل المطلق ذاته.
قد ينفصم بيضون في:" بطاقة لشخصين" وقد يعود إلى " بوذا" يسائله، وقد يتأمل ويحدق في اليد التي تعطي وتأخذ، وقد يقدم لنا" خلاصات" تجربته، وقد يطارد " هروب الحياة" لكنه في كل هذه التسميات هو عباس بيضون الذي يبحث عن وجه اللحظة في مرآة المكان، وعن البقعة في أصداء الوقت، هو عباس بيضون الذي يتجلى مسافرا أو مقيما، قلقا أو مطمئنا، مرتابا أم موقنا بحدقات الأشياء.
إنه العالم الشعري المفتوح على تفاصيل العالم. من هنا يتعانق الصغير مع العظيم، الموت مع الحياة، المثال مع صخب الواقع وصولا إلى لا نهاية تشكل نقطة انطلاق جديدة مع أفق السؤال.


4-

" نسافر مع كتاب. إنه يقول: إن التحضير للموت يتطلب وقتا أطول من الحياة. الموتى يفضلون أن يسافروا في كتاب" / ص 13
إن هذا البحث عن الطرف الحي من الموت يعطي نمطا جديدا من البحث التخييلي في إنتاج الدلالة الشعرية. هذا البحث الذي يتصور أن ثمة طرفا ثالثا للشيء يقع في منطقة جديدة، لا بين الشيء وضده أو الشيء وحضوره وغيابه، ولكن في منطقة تخييل خاصة تمتزج فيها روح الشاعر بروح اللا مكان - اللا زمان.
ليس هو العدم بالتأكيد، ولكنها حياة جديدة ثالثة تُصنع عبر الكلمات. في هذه المنطقة " سنرى أشجارا تتفرق وتجتمع بدون أي ذكريات مربكة، وبدون الحذر من الفراغات التي ملأت صداقتنا. فنحن هنا لم نذنب وسيكون أسهل علينا أن نرد المفتاح الذي لم نستطعه إلى العالم" / ص 13
منطقة التخييل هنا تجعل العبارات لا تفضي إلى شيء. عدم وجودي - إذا صح التعبير- أو الوجود مرئيا بطرف آخر كأنه ليس هو، كأنه غير قائم، شكل ما من أشكال الشيئنة المرئية/ اللا مرئية معا. هكذا يتقدم الشاعر لينفي هذا الوجود السطحي ليختبىء أكثر ليرى بعين الغياب:" كان يطوي العالم بدون أن يراه، وفي النهاية لم يبق أمامه شيء ولا مسافة.. بلغ آخر العالم، ولم يجد بشرا ولا حيوانا ولا حتى مكانا... لم يجد نهاية" ً 15
إنه سفر بلا مسافة، مسحة صوفية أم سوريالية هي ما يضفيه عباس بيضون على عباراته هنا، ولذا فإن الفعل يتلبس صورة أخرى هي صورة اللا دلالة، وبالتالي اللا حركة:" لم يكن (ب) بحاجة إلى أن يصيب وفي الحقيقة ليس لديه ما يصيبه. كان يصل بدون أن يتحرك، او بطرق أخرى" / ص.ص 19-20
وفي صفحة 21 يقول بيضون:".. كان فقط يجلس، وبيدين غير موجودتين يرفع الكأس ويرشف، ببطء، الزوال" إنها يد المخيلة هي التي ترشف ولكن لا ترشف ماء، أو رحيقا، ترشف وجودا، فضاءا، ترشف الزوال.
مع ذلك فإن هذا كله قد يتناقض ليكتمل مع اللا شيء، فالشاعر ينقل لنا صفحاته بالقول:" أيتها الصفحات العزيزة لقد ملأتك باللا شيء... كانت هناك رياح كبيرة ولم تحفظ شيئا، كان هناك مطر كثير ولم يسجل شيئا... هناك قصة تامة لكل واحد لكن القارىء الميت الكبير لم يحضر بعد " / ص 59
لا شيء.. لا يعني تماما فضاء العدم، إنما يعني وجودا آخر غير هذا الوجود المرئي المحسوس. لا شيء هو طريق المخيلة القلقة اليقظة دائما.

5-

ترتكز شعرية الصور الممتدة لدى عباس بيضون على جملة من الآليات، تمتثل لفعل السرد، وتحويل الطاقة السردية التي تتجلى في الحكي والتتبع ونقل الحدث من جملة لأخرى، والتغيير الزمكاني بوصفهما إطارا للتجربة المحكية، ولكن ذلك كله يتم بشكل أكثر دقة مما نجده في السرد القصصي أو الروائي مثلا، فهنا سرد شعري تتماهى فيه تقنيات الكثافة والتفاصيل معا.
ومن هنا فإن بنى النصوص لدى بيضون تنهمر فيها السياقات بشكل متتابع، عبارة عن دفقات متتالية لا تتوقف لتقدم لنا صورة ما أو مشهدا، إنما تنهمر لتقدم مشهدا كليا. النص كله بمثابة مشهد، مليء بالنتوءات، ومترع بالمفارقات، والصور المتكاملة في ثنائية التضاد. بمعنى أن التضاد هو نوع من التكامل، لأنه يقدم الشيء بطرفيه، الدلالة ببعديها المباشر والعميق.
بنى النصوص لدى بيضون في هذا الديوان تستهل بعنونة دلالية، ثم يتوالى كسر هذه العنونة وتقليبها على مختلف الدلالات، كما نرى مثلا في نص:" سآكل هذه الصفحات" حيث يقدم الشاعر تبريراته الجمالية في فقرات متتالية تبدي للقارىء يقين الأجوبة عن سؤال السببية: لماذا آكل هذه الصفحات؟
ويستثمر بيضون آلية جديدة يمكن تسميتها بآلية" حشد السياقات" للوصول إلى نمط من الصور المفاجئة التي لا يتوقعها القارىء، فهو لا يقدم نصوصا متسامحة سياقيا، بل نصوصا صادمة حتى على مستوى إنتاج الجمل الشعرية التي لا تقف عند السائد، بل تقدم المثير والمدهش:" نفكر في الوساوس، كمسامير في القدمين، نفكر في الحب كعضلة... أو رداء يضيق بالتدريج... نتكلم عن جرعة شبيهة بالغرق، وعن سبات كحولي" فكما نلحظ هنا فإن الصور تتدافع لدى بيضون بشكل غير متوقع وصادم، وإذا كانت هذه الطريقة متبعة تقريبا منذ سبعينيات القرن العشرين، لدى جيل السبعينيات خصوصا في العراق والشام ومصر، إلا أن سياقات الرؤية الجديدة التي تنزع إلى التأمل، وتشكيل عالم ثالث من طرفي الواقع والغيب، هو ما يؤطر لوجاهة هذه النصوص وعرامة آلياتها.
عباس بيضون يلخص رؤيته في " أمير الظلام" هذه الرؤية التي تطل على العالم ولا تطل، تبصره دون عيون ليرى أكثر وأعمق:

نغمض أعيننا لكن لا مناص
إننا بدون أن نريد
نبصرُ في العتم
ونسيرُ من غير عيون
لا نرى لكن الصمت يحجر المكان
لا نلمس لكن الدم يصير زجاجا
لا نتقدم لكننا تحت الأمر
نساوم على الرجل الذي ينازع
نسلمه للقدرة التي لا تطلب شيئا
إذ لا يسود اللا شيء بدون أن يستحق جزاء
وهذه الساعة
لن تكون صنما بلا ثمن. / ص.ص 61-62

حياة شعرية صاخبة ناسكة معا، تلك التي يصوغها عباس بيضون في ديوانه:" بطاقة لشخصين" ولا تثريب علينا هنا لو هتفنا قليلا: اعطنا بطاقة أخرى يا عباس بيضون !!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف