منير حنون الفنان كمشاهد، وشاهد، ورائي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لقد فضل منير الهجرة من العراق على المساومة وعلى تقبل ما لا يتقبله الوجدان والحس السليم وتلوث الذات من اجل أن تتاح له فرصة الدراسة الفنية في بغداد، وهو أهل لها وقتها. لقد هاجر وغصة تلاحقه أينما حل. فهل وجد راحته أو ضالته في منفاه أو دار إقامته الاسباني، وهل منحته مدريد بعضا من أحلامه أو كلها، وهل فارقه إحساسه بالغبن، وهل تحول هذا الغبن إلى لوعة خفية افترشت مسامات سطوح أعماله، وهل تجاوز محنته التي عمت العديد من أقرانه وباتت تمهد لمسلك اجتماعي يتجاوز محليته إلى أفق العالم الأوسع. ما تخبرنا أعماله هو خليط من كل ذلك. فقد امتزجت غربة الذات عن محيطها الأول بغربة العالم وهو يزيح باستمرار من دروبه المكتظة نفاقا أفواجا لا تحصى من المنبوذين، المسحوقين، المعدمين، وليبقى مونولوج الوجود من عدمه يؤرقه. فهل أحاط بمسارب قلقة الوجودي، وهل اكتشف منافذه. أم اكتفى بالعدم ميتافيزيقيا المقهورين.
ربما تقودنا هذه المقدمة للتعرف على سلوكيات أعماله!. وهل للأعمال من سلوكيات. ربما بدا الأمر وهما هنا. لكنها فعلا سلوكيات. فالتوثيق حاضر في كل أعماله، ليس كسلوك سياسي بحت، ما دمنا شعوبا مولعة بالألعاب السياسية التي ابتلعننا. فما يثبته منير على بعض من سطوح أعماله هي السلوكيات الفضة التي همشت أو هشمت الطفولة التي لا وطن لها، أو التي نبذت فصائل منا، في محاولة منه لملامسة بعض من سقط شروخ مصائرنا الهشة، وما أكثرها، مثلما هي محاولته للمس أحزان أشواك النبتة الجافة حيث الولادة جنس غير مشخص والموات جنس مشخص، ثم أقام وليمته على أعتاب حافات المجهول، والمجهول عنده هو السديم الذي يتوسطنا تيهه. ولتبقى جدليته تعاند أزمنتها واقعا ملغوما بكارثة عدمه.
اشتغل منير كثيرا على الرسم ذي الثلاثة أجزاء متجاورة (كما الأيقونة في عصر ازدهارها). لكنه لم يخلف لنا إيقونات. فالإيقونة، مثلما أعلت من مجدها الصوري اظافة لوظيفتها الإيديولوجية. فإنها وفي الفن الحديث فقدت هذا المجد بسقوط مفهوم الإعلاء من شان تكريس الأثر خارج سلطته المتحفية. ثلاثيات منير على اختلاف ذلك، كرست الحدث عرض بانارومي ينفتح على الإطراف وينغلق على الوسط (الواسطة والفاصلة) المتحكم بدراماتيكيته التي أفقدته الكثير من ملامحه. لكنه بقي كحدث قابل للمعاينة رغم الكثير من الشوائب التي لسقت بقسمات أناسه المبعثرة على امتداد السطوح الطباعية والمرسومة بحس طباعي.
ليس عبثا أن يكرس منير الأحجام الكبيرة لأعماله. فالحدث الذي يستعرضه، رغم تمويهه للكثير من تفاصيله يتطلب هذه السعة كعرض يعتمد الاستعراض ألمشهدي بشخوص وتفاصيل ثبتتها آلة الطباعة لنسخ فوتوغرافية مختارة بعناية تناسب فصاحة الحدث أو ملغزاته وبما يضفي على أعماله ميزة انتماءها لأكثر من منطقة ووظيفة أدائية. لذلك فمن الممكن أن تتقبل أعماله جدران العرض الداخلي أو الخارجي بدون لن تفقد مميزاتها الفنية لصالح الميزة الإعلامية التي تتمثل بمانشيتات الإعلام المصورة. رغم أن جذر الفعل الإعلامي لم يغادرها بشكل مطلق. لكنها تزوغ عنه بمهارة صنعة العارف بشروط انجاز العمل الفني وليس التجاري. فالصور الفوتوغرافية المطبوعة على سطوح أعماله فقدت قيمتها الأرشيفية بفعل اظافة المؤثرات الخطية ودواماته اللونية لنسيج سطوحها والتي تتردد ذبذبتها بما يضفيه من مؤثرات متقاربة ومفارقة للجزء الفاصل أو الرابط (الوسطاني) من أعماله وليتشكل العمل (الثلاثي الأجزاء) كوحدة افتراضية. بالرغم من أن الجزء الأوسط يشكل لغز العمل كله. وان كانت أعماله تزوغ عن الفعل الإعلامي إلا أن ثمة إعلام خفي يجوس فضاءاتها، وهو لا ينفصل عن منطقة البوح الإنساني المتشعب المسالك. فالفنان أو الإنسان في داخله لا يزال يدلي بشهادته ضمن مساحة الهم الإنساني التي لا يبدو في الأفق بأنها سوف تضيق.
لا يبدو لسيرة مشهدية أعمال الفنان من نهاية. فالتفاصيل التي تشتغل عليها منطقة أدائه مبعثرة على امتداد أفق الطبيعة، الكون، والحياة، ليست كما هناءة الحلم، بل بما تمليه عليه تواريخه الشخصية التي لا تنفصل عن تواريخ الصراع الأزلي ما بين الخير والشر. وما دام الصراع لعبة إنساننا الحديث. فسقط المتاع سوف يبقى متواجدا على امتداد أزمنة دروبنا. مثلما يبقى الجمال أيضا يلوح في الأفق كإغراء لمعاينة أطيافه التي تنأى وسط زحمة أو وحشة أماكننا التي قيست على أطوال قاماتنا، إن لم تقصر عن ذلك، ولم تتعداها للأفق الأرحب. هذا ما يفسر لنا بعض الشيء من هوس هذا الفنان بالتقاط الرعشات الإنسانية وانحيازه الصريح للضحية. فالعديد من أعماله تكتظ بتفاصيل الضحايا، سواء كانت اختياراته الصورية تاريخية أو معاصرة. فمن مخلفات الغزو الفرنسي لاسبانيا استعار رسم كويا (الثاني من مايو) ومن أفريقا اختار المعذبين. ومن العالم اختار أطفاله الحفاة. ومن الشجر اختار عجافه. ومن الكون اختار لغز ثقبه الأسود ممرا على كائناته يقع اختبار اجتياز حافاته. ومن الفتوة، زهرة الحياة، اختار نقيضها. ثم ترك آثار أقدامه على الفضاء والحجر وعبر ممرات اللون جمرات ومعادن تنؤء بحزوزها ودواماتها في انتظار زمن ربما يضمد جراحها.
هل ابتكر منير عالمه بما يوازي قيمه التي تربى عليها خلال أيام تواريخه العراقية. وهل لازالت هذه القيم تحافظ على نفس الحاسة الاستشعارية لأيام الكبت العراقية تلك. وهل محكوم على قاطني العالم الثالث وبالذات من تلظى منهم بجمرة القهر المستعرة أن يحمل أعبائها سفر للخروج.فرغم اختلاف أنظمة بلدان المهجر وطباع أهلها. ورغم الحفر بالصخر من اجل إيجاد مكان تحت افياءها و شمسها. إلا أن ثمة خيط من دم لا يزال موصولا بحبله السري ولا يأبي الانزياح. فهل عوضتنا افياء المنافي عن شمس ظهيرتنا التموزية آو زمهرير شباط الأزرق. وبالرغم من كل ذلك، فان للعمل الفني شروطه التي تبقيه على قدر ما من الصدمة المباشرة والزائلة. وأعمال منير لا تختلف عن ذلك في إخفاء أثرها الصادم بما اكتسبه من تقنية تحيل الصورة أثرا يناور منطقة علانيته بما يوازي التعمية أو التعتيم عليها من اجل أن يبقى الأثر لغزا رغم وضوح ما تبقى من تفاصيله. فهل السر في كون المنفى هو الأخر بوح ملتبس بخفاء أيام النشأة الأولى، أم هو الإصرار على عدم البوح لكي لا ينثلم الزمن مرة أخرى والى الأبد. لقد ابتكر منير عالمه الافتراضي وأثثه بما تيسر له من اجتهاد لاصطياد مخلفاته ومخلفات الآخرين ووهبنا صور بقدر ما إلفنا تفاصيلها عبر خطوط مسارب الميديا المعاصرة. إلا أننا وفي هذه الأعمال نكتشف ما فاتنا من خفايا النظر بالغاز اللعب على أوتار القلب.
ـ /www.munirhanoon.com/
ـ للتأكيد، فان هذه السلسلة من المقالات لا تتعدى البحث عن تجارب تشكيلية عراقية مغتربة تشكلت خارج العراق حيث العالم دار اغتراب كبير. بعضها بسبب من عدم استطاعة الفنان تحصيل دراسته الفنية داخل العراق سابقا بسبب من هيمنة إيديولوجيا الحزب الواحد. كما هو حال فنان المقال هذا. وبعضهم درس الفن في دول المهجر بعد هجرة الحصار المريرة. والبعض الآخر لولادته خارج العراق أو لأسباب سياسية.
ـ مالمو ـ