«أساور الورد» رواية جديدة للسوري نذير جعفر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فالشخصيّة المحورية: فاضل السرحان، يخرج من السجن بعد سنوات طويلة ليجد حبيبته السابقة "لبنى" قد تزوّجت، وأصدقاءه تفرّقوا، وقطعة الأرض التي كان يُمنِّي نفسه بموسمها استأثر بها شقيقه، وحتى الفرات الذي عاش طفولته على ضفتيه لم يعد ذلك النهر الواسع الغزير المتدفق بعدما روّضته السدود، والآبار، وشحّ الأمطار، وأصبح مهدّدا بالنضوب والجفاف! وأمام فقدانه العمل والأمل بحياة جديدة، يبدو السجن أشدّ رأفة به وبأمثاله ممن جرّدوا من حقوقهم المدنية!
ومع تنامي السرد يتصاعد الإيقاع الدرامي عبر تصوير بؤر الفساد والانحطاط الروحي المتمثّلة في شخصية "حسّان" زوج "لبنى" الذي ينفق أموال لجنة المشتريات في الشركة التي يعمل فيها على نساء الليل، يحفّزه على ذلك، ويسهّل له الأمر "المسيو جميل" صاحب ملهى "الكروان" الذي لا يتوانى هو الآخر ومعاونه "ديبو الشمّاط" عن رشوة المحلّل المخبري في مديرية الصحّة والتستر على الراقصة الأجنبية "ناتاشا" المصابة بالإيدز لقاء مبالغ تافهة من المال! غير آبهين بالعدوى التي تنقلها إلى العشرات من أبناء بلدهم!
إن عالم السجن يبدو أرحم وأقل تعقيدا من المجتمع الذي تغيّر كثيرا، وعششت فيه بؤر الفساد الاقتصادي والإداري والاجتماعي، ومن هنا تبدو الخيارات أمام "فاضل السرحان" ورفاقه مرّة وقاسية، فيهاجر بعضهم، ويبقى بعضهم الآخر متمسكا بوطنه وقيمه على الرغم من اليأس الذي يعصف بما تبقى لهم من آمال وأحلام.
يمتد زمن المتن الحكائي في "أساور الورد" ما بين التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، ويُستدل عليه من الإشارات الصريحة، مثل الحرب على العراق والمقاومة في الجنوب، واعتقال أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني. وهو زمن تتابعي يُخترَق أحيانا على مستوى الخطاب باسترجاعات بعيدة وقريبة تضيء ماضي الشخصيّات الرئيسة مثل: فاضل السرحان، وسعد، ولبنى، ورؤى، وشاهو. أما الفضاء المكاني فتبدو فيه حلب نقطة التبئير الأساسية، حيث يتعرف القارئ على ماضيها في السبعينيات وحاضرها في مطلع الألفية الثالثة، فتحضر بشوارعها، ومقاهيها، وساحاتها، ومطاعمها، وملاهيها الليلية، ومكتباتها. كما تحضر بتنوّع تياراتها واتجاهاتها السياسية والثقافية، من دون أن تغيب طبوغرافية التعايش السلمي ما بين العرب والأرمن والأكراد، والمسلمين والمسيحيين على اختلاف مشاربهم.
كما تحضر دمشق بكل ما تشي به من جمال آسر وقسوة بالغة، في عمرانها، وأحيائها، وسجونها، وخماراتها، وياسمينها، ولياليها، ونهاراتها، في زمن رمادي، عاشه أبطال الرواية، وظلوا يحنّون إليه. وكذلك تبدو مدينة الرقة أيضا الموطن الفعلي لبطل الرواية، حيث تتحول إلى فضاء نوستالوجي مشبع بالحنين إلى أيام الطفولة وذكرياتها.
وتقتحم الرواية بجرأة العالم الداخلي لفتاة كردية تدعى "شاهو"، تعيش صراعا حادا بين البقاء في وطن الحقيقة سوريا الذي تعيش فيه وتعقد صلات حميمة مع بعض مثقفيه وشعرائه، ووطن الحلم "كردستان" الذي تسعى إلى تحقيقه: "أحسست غير مرّة بأني موزّعة بين وطنين، الأول واقعي يشدّني إليه، ولا أقوى على نسيانه، والثاني فكرة، أعيشها بقلبي وعقلي ولا أستطيع التخلّي عنها أو الفكاك منها"!
ويأتي التحاقها بالثوار في الجبال، واختيار الحياة القاسية معهم ليحسم هذا الصراع الداخلي، الذي سرعان ما يعود إليها بعد مقتل رفيقتها "بروين" بالقرب منها، ويبدأ الشعور بالإحباط يتسلل إلى قلبها وعقلها حتى تنهي حياتها حرقا احتجاجا على اعتقال أوجلان في كينيا!
ومن "شاهو" إلى "رؤى" الطليعية فكرا وسلوكا التي تذهب ضحية موقفها التحرّري المستقل، ودفاعها عن حريتها، وكرامتها، فتُقتل عمدا على يد طليقها وابن عمتها بدافع الشرف كما يدّعي مستغلا بذلك المادة (548) من قانون العقوبات السوري التي تنصّ على تخفيف الحكم عن القاتل إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير قصد!
وتستعيد الرواية أيضا الفترة التي عاشها الشاعر رياض الصالح الحسين في دمشق، وتستقصي علاقاته وصداقاته مع فاضل وبشير وحامد و"الآنسة سين" و"هيفاء" وأسباب رحيله المبكر، كما يرويها صديقه فاضل، وكذلك سعد، الذي يبدو مجرد قناع فنّي للمؤلف نذير جعفر نفسه. وتبرز حكاية رياض مع المرض والعشق بوصفها تراجيديا ناشزة لشاعر رقيق وموهوب ذهب ضحية الإهمال والفقر وسوء الفهم، ولما يزل شابا في الثامنة والعشرين بعد أربعة دواوين شعرية تحوّلت إلى أيقونات وأساطير في المشهد الشعري السوري ولا سيّما لدي الجيل الشاب الذي ما زال يعجب بشعره، ويقبل على قراءته!
وتنقسم الرواية في بنيتها العامة إلى فصول متعدّدة يحمل كل منها عنوانا خاصا به يشكّل نقطة استناد دلالي وفنّي للقارئ. وتتعدّد ضمائر السرد ما بين الراوي كليّ المعرفة، والراوي المشارك في صيغة المتكلّم، وهذا التعدّد الذي ترافق مع تعدّد الفضاءات المكانية، والمراحل الزمنية في حياة كل شخصية، وتباين موقفها وهمومها أسهم في الحفاظ على التشويق، وإنقاذ السرد من الرتابة.
ويتصدّر كل فصل اقتباس من العهد القديم أو لشاعر أو كاتب عربي حينا وكردي أو إ]راني أو أجنبي حينا آخر، من محمود درويش، وأدونيس، والماغوط، وعادل محمود، إلى سليم بركات، وفروغ فرخ زاد، و بابلو نيرودا، ويسينين، ورامبو. وغالبا ما يكون الاقتباس العتبة النصيّة الثانية بعد العنوان التي تهيئ القارئ للتفاعل مع النص، وتمارس سطوتها في توجيه مسار القراءة، وفتح أفق التوقعات.
ويستثمر الكاتب عدة تقنيات فنية في سرده، من الاسترجاع (الخطف خلف)، والرسائل، والهوامش التوضيحية، والمذكّرات، إلى التقنية الأبرز المتمثّلة في تجسيد الصوت الخفي لرفيق فاضل السرحان السجين "مضر" فيما يشبه القرين الذي ينشطر عنه، ويتتبع مواقفه، ويعلّق على سلوكه، وهو ما منح السرد أبعاد تأويلية ودلالية جديدة، وواسعة، ضيّقت الفجوة بين الواقع والخيال، والسجن والحرية إلى حدّ الالتباس أحيانا!
إن "أساور الورد" في النهاية هي كما أشار الناشر على غلافها الأخير، حكاية النفوس المرهفة النبيلة، المتعطشة للحياة، والعطاء، التي تصطدم بشرطها الحياتي القاسي، فتعيش ما بين الحلم والانكسار، الأمل واليأس، مراهنة على الأجمل الذي يأتي ولا يأتي! إنها باختصار مدوّنة إبداعية مثيرة عن زماننا الذي نعيشه، الزمن الذي تختلط فيه المعايير، ويصبح التمسك بالمبادئ والقناعات تهمة لا وسام شرف.
الكتاب: أساور الورد، رواية.
المؤلّف: نذير جعفر
الناشر: نون4 للطباعة والنشر والتوزيع، حلب، 2011م
عدد الصفحات: 128 من القطع المتوسط.
لوحة الغلاف: خليل عبد القادر. والتصميم: رائد خليل.